في مشهد اقتصادي معقد يتسم بالتحديات العالمية والتغيرات الجيوسياسية، تبرز مصر كحالة خاصة من الإصرار والإرادة في مواجهة المديونية والعبء المالي. وسط هذا السياق، جاء إعلان صندوق النقد الدولي بأن مصر ستُنهي سداد كامل ديونها بحلول العام المالي 2046-2047، ليمثل نقطة ضوء في طريق الإصلاح الممتد. هذا الإعلان ليس مجرد بيان مالي، بل رسالة سياسية واقتصادية تحمل أبعادًا تتجاوز الأرقام، وتؤكد أن مصر تضع لنفسها خريطة عبور نحو المستقبل بثقة.
تصفير المديونية.. رؤية طويلة الأمد
أوضح صندوق النقد الدولي في تقرير حديث أن مصر ستسدد كامل مديونياتها لديه، بما يشمل أصل القروض والفوائد، بحلول نهاية العام المالي 2046-2047. هذا الالتزام يعكس حرص الحكومة المصرية على الالتزام بمسار مالي واضح المعالم، بعيدًا عن التذبذب والضبابية التي غالبًا ما تحيط بالاقتصادات الناشئة.
وأشار التقرير إلى أن المديونية ستنخفض تدريجيًا خلال السنوات المقبلة، إذ يُتوقع أن تبلغ المستحقات 6.6 مليار دولار في 2024/2025، تنخفض إلى 3.7 مليار دولار في 2025/2026، قبل أن تتلاشى تقريبًا لتبلغ 92 مليون دولار فقط في 2046/2047.
ذروة الدين.. 2024/2025 العام الأصعب
أوضح التقرير أن العام المالي 2024-2025 سيكون الأكثر ضغطًا من حيث عبء سداد الدين، حيث تمثل ديون صندوق النقد نحو 12.2% من إجمالي إيرادات الدولة و1.9% من الناتج المحلي الإجمالي. هذه النسبة الكبيرة تضع ضغوطًا على الموازنة العامة، لكنها في الوقت ذاته تشير إلى أن مصر بدأت من النقطة الأصعب، وهو ما يجعل الطريق نحو الانفراج المالي أكثر وضوحًا.
الاستثمار الأجنبي.. إشارات إيجابية من الخارج
على صعيد موازٍ، رفع صندوق النقد الدولي توقعاته لصافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مصر، وهو مؤشر مهم على استعادة الثقة الدولية في الاقتصاد المصري. فقد ارتفعت التوقعات من 10.8 مليار دولار إلى 13.2 مليار دولار للعام المالي 2024/2025، ومن ثم إلى 15.6 مليار دولار في 2025/2026.
واللافت أن التوقعات تمتد لتصل إلى 19.8 مليار دولار بحلول العام المالي 2028/2029، وهو ما يعكس تحسنًا تدريجيًا ومستدامًا في مناخ الاستثمار.
قفزة في ترتيب مصر عالميًا
ما يعزز هذه الرؤية، هو ما كشفه تقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، والذي أوضح أن مصر جذبت استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 47 مليار دولار في عام 2024، متقدمة من المركز 32 عالميًا في 2023 إلى المركز التاسع في 2024. هذا الارتفاع اللافت يعد شهادة دولية جديدة على نجاح الإصلاحات الاقتصادية التي تبنتها الحكومة.
رأي الخبراء.. مؤشرات واعدة
توقعات أكثر تفاؤلًا
قال الدكتور هاني الشامي، عميد كلية إدارة الأعمال بجامعة المستقبل، إن رفع صندوق النقد الدولي لتوقعاته لصافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مصر من 10.8 مليار دولار إلى 13.2 مليار دولار بنهاية العام المالي 2024/2025، ثم إلى 15.6 مليار دولار في العام المالي التالي، يعكس تحسناً ملحوظاً في مؤشرات الجاذبية الاستثمارية. ويؤكد أن هذا التحسن مدفوع بجملة من الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية التي نفذتها الحكومة المصرية مؤخرًا.
إصلاحات هيكلية محفزة
أشار الشامي إلى أن الحكومة المصرية قامت بخطوات مهمة، من أبرزها تحرير سعر الصرف، وتسهيل بيئة الأعمال، وتقليص الإجراءات البيروقراطية، وزيادة مستويات الشفافية، وهو ما ساهم في تعزيز مناخ الاستثمار، واستعادة ثقة المؤسسات المالية الدولية. وأضاف أن هذه التغيرات تتماشى مع توجه الدولة نحو فتح المجال أمام الاستثمارات الخاصة، سواء الأجنبية أو المحلية.
دور القطاع الخاص في دفع النمو
ورأى الشامي أن مؤشرات التحسن لا ترتبط فقط بالأرقام، بل تعكس توجهاً استراتيجياً نحو إعادة تمكين القطاع الخاص ليكون محركًا رئيسيًا للنمو الاقتصادي.
التحدي الحقيقي.. من التوقعات إلى التنفيذ
يشدد الشامي من أن التحدي الحقيقي لا يكمن في رفع التوقعات، بل في القدرة على تحويلها إلى واقع ملموس. ويتطلب ذلك استمرار الدولة في دعم الاستقرار المالي والنقدي، وتقديم المزيد من الحوافز والتسهيلات للمستثمرين، فضلًا عن تحقيق استقرار تشريعي واقتصادي طويل الأمد.
التزام طويل الأمد.. ورسالة إيجابية
يرى الدكتور رمضان معن، أستاذ الاقتصاد بكلية إدارة الأعمال، أن هذا الإعلان يمثل دلالة قوية على التزام الحكومة المصرية بمسؤولياتها المالية والتعهدات الدولية، وهذا مؤشر إيجابي على استقرار السياسة المالية في مصر، ويعزز مصداقية الدولة أمام المؤسسات الدولية والمستثمرين.
ويشير الدكتور معن إلى أن تحديد جدول زمني واضح ومعلن لسداد الديون يعد من أهم الرسائل التي يمكن أن تصل للمجتمع الدولي، حيث يعزز الثقة في قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها طويلة الأجل، ما يشجع مؤسسات التمويل العالمية على التعاون مع مصر بشروط أفضل.
أثر اقتصادي مباشر.. وتصنيف ائتماني أقوى
يوضح معن أن تحديد موعد نهائي لسداد القروض لا يحمل فقط بعدًا رمزيًا، بل يسهم فعليًا في تحسين التصنيف الائتماني لمصر على المدى البعيد. ذلك أن هذا الالتزام الصريح يُترجم لدى المستثمرين الدوليين على أنه علامة على الجدية في إدارة الملف الاقتصادي والمالي، بما يدفع نحو ضخ استثمارات جديدة وتخفيض تكلفة الاقتراض.
كما يضيف أن هذا التوجه سيُخفف تدريجيًا من الضغوط التي ترهق الموازنة العامة، مما يفتح الباب أمام إعادة توجيه الموارد إلى مشروعات تنموية واستثمارية أكثر استدامة، مثل التعليم، والصحة، والبنية التحتية، والتصنيع.
مرونة في إدارة الموارد وتفادي الأزمات
يشدد الدكتور معن على أن الأثر الأبرز لهذا الإعلان هو أنه يمنح مصر “مساحة مرنة” في إدارة مواردها المالية، بعيدًا عن الضغوط قصيرة الأجل التي قد تؤثر على النمو أو على برامج الحماية الاجتماعية.
ولكنه في الوقت ذاته يحذر من الاكتفاء بالإعلان فقط، مؤكدًا أن “الالتزام لا بد أن يوازيه خطوات إصلاحية فاعلة على الأرض”، في إشارة إلى أهمية استكمال مسار الإصلاح الهيكلي وتوفير بيئة محفزة للنمو والاستثمار.
إصلاحات هيكلية… وقاعدة اقتصادية أوسع
يرى الخبراء أن تحقيق هذه الأهداف يتطلب استمرار الإصلاحات الهيكلية، وتوسيع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد، وتحسين مناخ الأعمال من خلال قوانين وتشريعات مستقرة وجاذبة. فكلما زاد حجم النشاط الاقتصادي، زادت الإيرادات الحكومية، وتقلص الاعتماد على القروض والتمويل الخارجي.
ليس الطريق سهلاً، لكنه ليس مستحيلاً أيضًا. ما كشف عنه صندوق النقد الدولي من أرقام وتوقعات ليس مجرد إشادة ببرنامج اقتصادي، بل هو شهادة ثقة في شعب قرر أن يكتب مستقبله بيده. في الأفق القريب، تحديات كبيرة، ولكن في المدى البعيد هناك فرصة حقيقية لاقتصاد أكثر استقرارًا، وشعب يتمتع بثمار تنمية مستدامة. فالمعادلة الآن واضحة التزام، إصلاح، وثقة.. وهذا ما تحتاجه مصر كي تنهض على أسس قوية لا تهزها الأزمات، بل تزيدها صلابة.