في صباح هادئ على شواطئ الغردقة، تفاجئ الزوار بخط الساحل وقد تراجع إلى الداخل، كاشفًا عن أراضٍ لم تكن تُرى، ومظهرًا شبكة من الشعاب المرجانية والأحياء البحرية التي كانت تختبئ تحت صفحة المياه.
مشهدٌ غريب للبعض، لكنه في الحقيقة وجه متكرر لظاهرة طبيعية تُعرف بـ”الجَزْر”، تحدث على نحو دوري في البحر الأحمر.
حين يبتعد البحر
لم يكن ما حدث استثناءً، بل تكرارًا لما تشهده المنطقة في منتصف ونهاية كل شهر هجري. مياه البحر انسحبت لمسافات تتراوح بين 100 إلى 200 متر، لتتكوّن منطقة ساحلية جديدة، مؤقتة، يختلط فيها الطين بالحياة. وتتحول هذه المساحات المكتشفة إلى معرض طبيعي يُظهر التنوع المدهش للكائنات البحرية: أصداف متناثرة، وأسماك صغيرة، وشعاب مرجانية عادةً ما تكون مخفية عن الأنظار.
ما وراء الظاهرة
لفهم هذا الانحسار، لا بد من التطرق إلى القوى الكونية التي تتحكم في حركة البحر. الجزر – تمامًا كقرينه المد – يتولد بفعل التفاعل المعقد بين جاذبية القمر، وتأثير الشمس، ودوران الأرض حول محورها. هذا التفاعل يخلق ضغطًا غير متوازن على سطح المحيطات، فيدفع بالمياه بعيدًا عن بعض المناطق ويجذبها نحو أخرى.
ويقول الدكتور محمود دار، الباحث المتخصص في علوم البحار، إن هذه الظواهر مرتبطة بدورات فلكية دقيقة، حيث تختلف قوة الجذب بحسب موقع القمر والشمس، مؤكدًا أن الجزر قد يُحدث انخفاضًا ملحوظًا في منسوب المياه، بينما قد يصل المد إلى ارتفاعات تتجاوز المترين في فترات معينة.
وجه آخر لا تراه العين
ورغم أن ظاهرة الجزر قد تُبهج هواة الاستكشاف والمصورين، فإنها في نظر علماء البيئة تثير القلق. إذ إن الكائنات التي تعيش قرب الشعاب المرجانية غالبًا ما تبقى في أماكنها عند انكشافها، ما يجعلها عرضة لأشعة الشمس والهواء الجاف، وهو ما قد يتسبب في موتها أو الإضرار بها.
الخبراء يحذرون من التهاون في التعامل مع هذه الظاهرة، ويشددون على ضرورة عدم السير فوق الشعاب المكشوفة، أو لمس الكائنات البحرية التي تظهر على السطح. فكل خطوة غير محسوبة قد تعني تدميرًا لصيغة بيئية متوازنة تكونت على مدى مئات السنين.
سلوك بشري تحت المجهر
من اللافت أن الكثير من الزوار يقتربون من هذه المساحات المكتشفة بدافع الفضول، غير مدركين للعواقب. ورغم التحذيرات المتكررة من الجهات البيئية، إلا أن التوعية ما زالت غير كافية. البيئة البحرية في البحر الأحمر تُعد من بين الأغنى عالميًا من حيث التنوع البيولوجي، وأي ضرر فيها يصعب تعويضه.
الطبيعة تُعلّم… فهل نُصغي؟
ظاهرة الجزر في الغردقة لا تنفصل عن السياق الأكبر لفهم البحر ككائن حي، يتنفس ويتغير كل يوم. إنّها تذكير بأن العلاقة بين الإنسان والطبيعة يجب أن تُبنى على الاحترام والفهم، لا على التعدي والاستهلاك.
عندما يُكشف البحر عن أسراره، فالسؤال ليس فقط: ماذا نرى؟ بل: كيف نحمي ما نراه؟
وما إذا كنّا مستعدين لتحمّل مسؤولية المشهد قبل أن يتحول إلى ذكرى من الماضي.