يبدوا أن دائما ما تكون لبلاد المغرب طابع خاص، وكما اختلفت المغرب عن العالم الإسلامي في يوم العيد، حيث كان بداية العيد لديها الخميس الماضي، يبدوا أن لها أيضا طقوس خاصة بها تتميز بها عن باق الدول العربية، إنها طقوس “بوجلود”، والتي يحرص عليها شباب الأمازيغ بالمغرب، وذلك بعد الانتهاء من طقوس الأضاحي، وتوزيعها، حيث يأتي الدور على طقوس خاصة بتلك العشائر، والتي حرصت على إحيائها على مدار عقود من الزمن.
خياطة بدل الأضاحي
وفي تقرير عن تلك العادة نشرته صحيفة هسبريس المغربية، تروى قصة شباب داخل منزل قديم بدوار “أفودنتكيضا” التابع للنفوذ الترابي لجماعة اثنين أكلو بإقليم تيزنيت، تفاوتت أعمارهم ومستوياتهم التعليمية، حيث سارعوا الزمن لخياطة بذل من جلود الأضاحي الملطخة بالدماء، استعدادا لإحياء طقس “بيلماون” أو “بوجلود” الذي دأبت ساكنة سوس على إحيائه خلال هذه الفترة من كل سنة.
وبعزيمة المحارب المتأهب للمعركة، شرع أيوب، الذي يبلغ من العمر 26 سنة، في قياس الجلد تلو الآخر وسط كومة من الجلود تتوسط باحة المنزل، تارة على أطرافه السفلى وتارة أخرى على أطرافه العليا، وحين سؤاله حول سر هذه العملية، لا يفكر كثيرا بما أن الجواب جاهز، وقال: “أقيس الجلود لأختار الأخف منها والأقل تلطيخا بالدماء؛ ذلك أن الجلد الثقيل يعيق الحركة ويسبب التعب، كما أن تلك الملطخة كثيرا بالدم لا تستطيع الصمود أمام التعفن لأكثر من يومين”.
وحين سؤاله أيضا، بهل هذه هي المرة الأولى التي يشارك فيها في هذا الطقس؟ أجاب الشاب عينه بحماس أهل سوس قائلا: “دأبت، منذ أكثر من خمس سنوات، على المشاركة في هذه الاحتفالية؛ إلى جانب عدد من الأصدقاء”، ثم أضاف: “نحاول الحفاظ على استمرارية هذه الاحتفالية، وغايتنا الوحيدة هي الفرجة وإمتاع الناس”.
“أسايس”.. قصة فضاء
ويكمن السر في المكان التى تمارس بها تلك الطقوس الخاصة في الساحة العمومية للدوار، أو “أسايس” كما يصطلح عليها في اللغة المحلية، حيث كثافة من البشر تجتمع بتراص، رجال ونساء وأطفال يحلقون جميعا بفرح حول مجموعة من أفراد “بيلماون” الذين يرقصون على أنغام الموسيقى الأمازيغية الصادرة عن مكبرات الصوت التي تتوسط المكان، وهكذا يصبح الفرح عقيدة عند أهل سوس، وهكذا يصير “بيلماون” تعبيرا دقيقا وأمينا عن تفاصيل خصبة حول ثقافة أهل المنطقة.
ويبدوا أن أسايس، ساحة لها سحر تجذب الجميع، حيث كان متواجد بها كافة الأعمار، وليس الشباب فقط، فكان أحد المشاركين في هذا الاحتفال، رجل بنيته الجسمانية توحي بأنه كبير السن، وحين سؤاله: ما الذي يحضرك إلى هنا؟، ضحك ثم أزال جلد الماعز الأسود الذي يغطي وجهه، وأجاب: “أنا متزوج وأبلغ من العمر 45 سنة.. أشارك، منذ أزيد من ثلاثين سنة، في هذا الاحتفال الذي نريده أن يستمر ونعمل على توريثه إلى أبنائنا وأحفادنا”.
سر الشارة الخاصة التى تفرضها اللجنة المنظمة
وكان كل فرد من أفراد “بوجلود” يحمل شارة كتب عليها رقم يختلف من واحد إلى آخر، حيث كان هناك لجنة منظمة للحفل، وحين سؤال أحد أفراد اللجنة عن سر تلك الأرقام، قال بإنه في إطار محاولة الحفاظ على الطابع الفرجوي لهذا الطقس، ومن أجل محاربة بعض أشكال الانحرافات على غرار العنف أو التحرش، فإننا نضع مسبقا مجموعة من الشروط أمام كل راغب في ارتداء الجلود والمشاركة في الاحتفال.
وأول هذه الشروط، أن يكون الشخص بالغا سن الرشد القانوني، ثم يوقع التزاما مصادقا عليه يلتزم فيه بحسن السلوك واحترام مجموعة من الضوابط، أضاف: “تُعطى لكل واحد من المشاركين شارة تحمل رقما معينا لتسهيل التعرف عليه أو الإبلاغ ضده في حال أخل بالضوابط المتعارف عليها”.
اختلافات بجوهر واحد
وحول هذا الطقس، يعلق محمد بنيدير، رئيس مركز أكلو للبحث والتوثيق، والذي أكد أن “مسميات هذا الطقس قد تختلف من منطقة إلى أخرى؛ فهناك من يسميه بوجلود أو “بيلماون”، وهناك من يسميه بـ”هرما”، ويمكن إدراج هذا الطقس ضمن طقوس وعادات التقنع المنتشرة في مناطق عديدة من العالم، المتمثل في ارتداء جلود تؤلف بشكل معين لتصنع منها بذلة يرتديها الأشخاص المشاركون في هذا الطقس”.
وأضاف بحسب الصحيفة المغربية، أن هذه العادة تنشر في مناطق أمازيغية عديدة؛ ومنها بلدة أكلو التي تختار لها عيد الأضحى، وتقيمها بغرض الفرجة، مشيرا إلى أنه في الماضي، كان الاحتفال لا يتجاوز يومين عكس ما نراه اليوم، حيث يمكن أن يمتد إلى أربعة أيام حسب الطقس وحالة البذلة المصنوعة من جلود الأضاحي، وأوضح أن البذلة التي يرتديها المشاركون في هذا الاحتفال، تصنع من أربعة جلود للأغنام، يتم خياطتها بشكل منسجم، أما الوجه فيتم تغطيه بجلد للماعز ذي لون أسود في الغالب، أو بجلد وجه الخروف مع الحفاظ على القرون، كما يحمل الشخص الذي يرتدي البذلة في يديه الأطراف السفلية من قوائم الخروف”.
تلك هي الطقوس المتبعة
وحول معايير وشروط الانخراط في هذه العادة، أوضح رئيس مركز أكلو للبحث والتوثيق بأنه “كان معظم المنخرطين في أداء هذه العادة من الراشدين، عزابا ومتزوجين، وفي المتوسط لا يتجاوز عدد أفراد بيلماون بكل دوار أربعة. أما اليوم، فالعدد يتجاوز ذلك بكثير، قال : “خروج أفراد بيلماون إلى أزقة الدوار، يكون عادة بعد العصر، يجوبها ويجري خلف منتظري خروجه من الصبية وغيرهم، قبل أن يلتحق بأسايس، الساحة العمومية، أو غيره من الأماكن التي تجتمع بها الساكنة لمشاهدته، فيبدؤون بتقمص شخصيات وتمثيل أدوار مختلفة بشكل هزلي لإضحاك المشاهدين الذين يجودون عليهم بعطايا مختلفة، لتتوج هذه العادة بجمع العطايا التي يحصل عليها أفراد بيلماون لإقامة وليمة يحضرها المشاركون فيها مع أشخاص آخرين من نفس الدوار”.
وتابع: ” هذا الطقس الفرجوي كانت له ضوابط لا ينبغي لأي منخرط الخروج عنها؛ فهو لا يفصح عن هويته، وممنوع عليه الكلام والكشف عن وجهه. أما اليوم، لم يعد ينضبط لأي من هذه الضوابط، غير أن ما يبدو منها مخلا كون بعض الأفراد يتخذونها وسيلة لتسول بعض المبالغ من المال يضعونها في جيوبهم، مع بعض مظاهر الانحراف التي لا يقبلها المجتمع المحلي”.
جذور ضاربة
عزيز ياسين، أستاذ التاريخ والحضارة بجامعة ابن زهر بأكادير، قال إن “الأمر يتعلق بطقوس واحتفالات عريقة جدا في تاريخ ثقافة سكان شمال إفريقيا، لها امتدادات تاريخية عميقة تعود إلى ما قبل دخول الإسلام إلى المنطقة، إذ يعود بنا هذا الطقس إلى عادات وتقاليد مرتبطة لفترة كان في السكان يقدسون الأغنام، وأضاف: “هذا الطقس الفرجوي يجد له صدى في أنحاء متفرقة من شمال إفريقيا وليس فقط في المغرب، على غرار جبال الأوراس ومنطقة تيزي وزو بالجزائر. كما نجد احتفالات شبيهة في مناطق أخرى خارج حوض البحر الأبيض المتوسط، كجزر الكناري على سبيل المثال”.
وأشار لى أن تبعا لما لحق الحضارة والمجتمع من تطورات، فإن هذا الطقس الثقافي بدوره عرف مجموعة من التعديلات على مستوى أشكال الاحتفال به؛ فقد كان هذا الأخير يتم ضمن فضاء داخلي ضيق، أما الآن فقد بدأ هذا الطقس يتخذ شكل كرنفالات وسط الشوارع العامة؛ لكن المهم هو استمراريته في حاضر سكان المغرب”.
وختم حديثه قائلا: “طقس بوجلود وغيره من الاحتفالات الفرجوية في تاريخ المغرب ظلت شأنا جماعيا للقبائل وسكان القرى؛ لكنها اليوم دخلت ضمن اهتمام الجمعيات والفعاليات المدنية”، مشددا على أن “المأمول هو أن يتخذ هذا الاهتمام مسارا آخر ليشمل المؤسسات المنتخبة والإدارات المغربية على رأسها وزارة الثقافة، لأهمية المسألة في الحفاظ على هذا الموروث الثقافي الذي يميز الشخصية المغربية”.