غزة- في يوميات الأسرى في سجون الاحتلال “لا تختلف ضربات الهراوات عن سياط الحر اللاهبة طالما أنهم مضطرون للتعايش معها انتظارا لبلوغهم نهاية النفق الذي آنسوا نوره منذ أمد، إلى ذلك الحين سيبقون في معاناة الحر اللاهب بأبوابه الأشد، حر القهر وحر الشوق وحر الجو”.
بهذه الكلمات المؤلمة عبّر الأسير أحمد التلفيتي من داخل سجن النقب الصحراوي للجزيرة نت عن معاناة الأسرى في ظل موجة الحر التي تجتاح المنطقة وتتأثر بها الأراضي الفلسطينية المحتلة.
التلفيتي -الذي ينحدر من نابلس ويقبع في السجن منذ أكثر من 7 سنوات- وصف حال الأسرى في الظروف المناخية الاستثنائية الحالية قائلا “الحر في السجون عذاب لا يواجه ومعاناة لا ترحم، فوسائل التخفيف والتلطيف التي يمتلكها البشر ليست متاحة لآلاف الأسرى المضطرين لقبول سياط الحر اللاهبة فوق أوضاعهم وظروفهم القاهرة”.
ويقبع في سجون الاحتلال 5 آلاف أسير يتوزعون على 23 سجنا ومعتقلا ومركز توقيف، منهم 32 أسيرة و160 طفلا وأكثر من 1100 معتقل إداري وما يزيد على 700 أسير يعانون من أمراض مختلفة.
ونقل الأسير التلفيتي بعض ما يعانيه الأسرى في هذه الأجواء، فقال “ليس الاكتظاظ وفقدان وسائل التهوية والتبريد هما ما يعانيهما الأسرى فقط، فالاحتلال يتعمد التنكيل بنا في هذه الأيام الحارة فتكثر “البوسطات”، وهي نقليات بآليات حديدية بالكامل إلى سجون أخرى ومحاكم، في غرف انتظار عديمة التهوية يحشر فيها 15 أو 20 أسيرا في مساحة لا تتجاوز 5 أو 6 أمتار مربعة”.
السجون الكبرى
بدوره، يوضح رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحررين عبد الناصر فروانة أن الاحتلال لم يكتف بما ورثه من سجون عن الانتداب البريطاني، بل أضاف إليها منذ مطلع السبعينيات 4 سجون كبرى.
وأضاف فروانة في حديث للجزيرة نت أن السجون الأربعة المستحدثة تقع في عمق صحراء النقب جنوب فلسطين، ويقبع فيها نصف إجمالي عدد الأسرى، ويتحالف فيها سوء المناخ مع قسوة ظروف الاحتجاز وبشاعة السجان، فتتفاقم معاناة الأسرى ويزداد ألمهم وعذابهم مع ارتفاع درجات الحرارة.
وتابع “في يونيو/حزيران ويوليو/تموز وأغسطس/آب -خاصة مع ارتفاع معدلات الموجات الحارة- تتحول غرف الأسرى إلى جحيم، وزنازين التحقيق والعزل الانفرادي إلى أفران، فالصيف ضيف ثقيل على الأسرى في النقب وعوفر ومجدو، وفي نفحة وعسقلان والدامون وبئر السبع وجلبوع والرملة وفي كل سجون الاحتلال”.
وأكد فروانة أن استغاثات كثيرة وردت إليه في الأيام الأخيرة من سجون الاحتلال تعكس صورا موجعة لآلاف الأسرى يشتكون اكتظاظ الغرف وسوء المناخ وقلة التهوية وانتشار الزواحف الخطيرة والسامة والحشرات الضارة والقوارض، بالتزامن مع سخونة الهواء وشدة الحرارة وشح الأدوات المخففة لدرجة الحرارة.
صورة قاتمة.. البلاطة والمروحة والمنشفة
وفي السياق ذاته، تحدث الأسير المقدسي المحرر محمد حمادة عن تجربته مع 14 صيفا قضاها في سجون الاحتلال، قائلا “أصعب الظروف التي تمر على الأسير هي فصول الصيف اللاهبة، ففي الشتاء قد يجد الأسير في بعض البطانيات أو في الزنزانة المخنوقة الضيقة ما يخفف عنه زمهريره، لكن الصيف يأتي وكل ظروف الأسر هي بيئة مساعدة لمضاعفة صعوبته”.
حمادة -الذي أفرج عنه ضمن صفقة وفاء الأحرار عام 2011- يقول إن بين صنوف المعاناة وضع 8 أسرى في غرفة صغيرة يعيشون فيها لسنوات، لكل أسيرين منهم مروحة واحدة.
يُذكر أن المروحة وغيرها من أدوات بسيطة لدى الأسير انتزعها الأسرى من إدارة السجون بإضرابات جماعية خاضوها على فترات خلال سنوات طويلة، ويستخدم الاحتلال هذه الأدوات لمساومة الأسير وابتزازه في كثير من الأحيان.
ويرسم حمادة صورة قاتمة لوضع الأسرى، فيشرح كيف أن ما تسمى “البلاطة” التي يطبخ عليها الأسرى في الغرفة تضاعف حرارة الغرفة، وهكذا يجد الأسير نفسه في غرفة “ساوانا” وبالكاد يحصل على هواء للتنفس، وفي كثير من الأحيان يتنازل الأسرى عن حقهم في وجبة ساخنة أو ناضجة مقابل الحصول على بعض الهواء في الغرفة.
ويستذكر حمادة تجربته في فترة التحقيق، وهي تبدأ من لحظة الاعتقال وقد تمتد لأسابيع أو شهور، فيقول إن “أصعب ما يواجه الأسير فيها شدة الحر، في زنزانة صغيرة بالكاد تتسع لشخصين وأحيانا تكون بحجم الفرشة، يجمع الاحتلال فيها 6 أسرى كتلك التي أمضيت فيها 10 أيام في عام 1997 خالية من النوافذ إلا من كوة صغيرة في الباب يرقبنا منها السجان، وهنا حدّث عن ساعات تشعر من شدة الاختناق أن الموت قد أزف”.
ويضيف “لا زلت أذكر رفيقي في الزنزانة في فترة التحقيق الذي كان يعاني من أزمة ربو حادة، كان لا ينام إلا وأنفه تحت فتحة باب الزنزانة، كي يتنسم بعضا من الهواء الذي يتسلل من الأسفل”.
وفي تلك الفترة “كنا نتبادل الدور بحمل منشفة، ويقوم كل واحد بتدويرها كالمروحة لفترة، ثم يرتاح ويستلم مكانه أسير آخر، ومع أنه لا يوجد هواء لتحريكه أصلا لكن الأمر كان يخفف عنا قليلا ولو نفسيا، ويفضل بعضنا النوم على أرضية الغرفة دون فراش أو غطاء”.
محنة النقل والتحقيق
وعن نقل الأسرى في “البوسطات” يقول حمادة “إنها بلا نوافذ وإنما ثقوب يصعب على الهواء التسلل من خلالها، ومقاعدها من الحديد، الأمر الذي يزيد قسوة الجو، فيتصبب الأسرى عرقا، ثم بعد ذلك يتم إنزالهم بعد رحلة تمتد لساعات طويلة في زنازين الانتظار للمحكمة”.
وهذه الزنازين رأى فيها حمادة الموت ألف مرة بسبب الحر الشديد، وكان ينظر إلى الأسرى بجواره فلا يكاد يميز وجه الواحد منهم من كمية العرق والإرهاق.
أما الأسرى المرضى فهم في “سجن فوق السجن، إذ تجتمع على الجريح أو المريض أثقال المرض والحر الشديد في ظل غياب الرعاية الصحية، بل الإهمال الطبي المتعمد”.
ويتذكر حمادة أن كثيرا من الجرحى تعفنت جروحهم بسبب ارتفاع الحرارة وتلوث الجرح، وكان آخرون يعانون من أمراض القلب والضغط والسكري وغيرها ولا يملكون دفع غول الحر عن أنفسهم لتصبح مواسم الشتاء أمنية بل حلما ورديا يحلم به الأسير كحلمه بالحرية.
وبين أمنية واستنجاد من داخل زنزانته يتحدث أحمد التلفيتي بلسان حال الأسرى قائلا “سيتوحد الأسرى عند سؤالهم: بماذا يمكن مساعدتكم؟ فيجيبون: بالتحرير، وما الذي سيبرّد هذا الحر عنكم؟ سيجيبون: الحرية، إنها كلمة السر في صمود الذين قضوا في غياهب السجن 20 و30، بل و40 عاما وتزيد”.