لم يوجه الانقلابيون في النيجر حتى الآن أي تهديد أو إساءة إلى الولايات المتحدة الأميركية، كما لم تتجه المظاهرات الشعبية الغاضبة نحو أي من المصالح الأميركية، وحدها فرنسا تلقت من الغضب والشتائم ما لم تسمعه -ربما- منذ عقود على أي لسان أفريقي.
ربما لا يعتقد الانقلابيون أن واشنطن تمثل تهديدا يماثل التهديد الفرنسي، أو هكذا يبدو الأمر لأول وهلة للمراقبين الذين لم يخف عليهم كما لم يخف على انقلابيي نيامي أن الموقفين الفرنسي والأميركي غير متماثلين.
وفي حين يكتنف الغموض طبيعة الموقف الأميركي الحقيقي تجاه الانقلاب، قال مصدر للجزيرة نت -نقلا عن دبلوماسي أفريقي متابع لتطورات الأحداث في النيجر- إن أميركا ليست بعيدة من انقلاب النيجر، ولكنه لم يكشف مزيدا من المعلومات بشأن تفاصيل هذا الموقف وخلفياته وتداعياته.
ومعلوم أن العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية والنيجر تتشابك فيها أبعاد متعددة، يتربع الأمن على هرمها، فالنيجر تقع في عمق الإستراتيجية الأميركية تجاه أفريقيا، وتحت غطاء نيران قوة “أفريكوم” التي تمثل الذراع الأميركي الأكثر خشونة تجاه القارة السمراء، والتي تضم بشكل معلن أكثر من 6 آلاف عسكري، من بينهم أكثر من ألف جندي على الأراضي النيجرية.
وقبل سنة تقريبا، كان التقييم الأميركي للنيجر متفائلا جدا، إذ اعتبرها أساس الاستقرار في المنطقة، ورعت واشنطن فيها مشاريع متعددة، خصوصا من خلال تدريب وتعزيز القدرات القتالية والاستخباراتية لقوات النخبة النيجرية التي يرأسها الجنرال موسى صلاح برمو وهو أحد الضباط النيجريين الأكثر قربا من واشنطن.
وقد تسارع الدعم الأميركي للنيجر ليصل إلى قرابة 500 مليون دولار منذ عام 2012 إلى عام 2021، وشمل من بين أمور متعددة إقامة قاعدة عسكرية للطيران المسير في ولاية أغاديز شمالي النيجر، وتمكّن هذه القاعدة الجيش الأميركي من شن ضرباته بشكل مباشر تجاه ما يصفها بالأهداف الإرهابية في مالي وليبيا وغيرهما.
التنديد الناعم.. مؤشرات لافتة
ويمكن تلمس مظاهر متعددة للهدوء الأميركي تجاه الانقلابيين في النيجر، من خلال ملاحظات ومؤشرات بعضها لافت، ومن أبرزها:
- اللغة الهادئة تجاه حكام نيامي الجدد، والنأي عن وصف ما جرى بالانقلاب، لتجعله مجرد عرقلة للديمقراطية، وهو موقف يأخذ مسافة من عموم الموقف الغربي وبالذات الأوروبي تجاه الانقلاب.
- أوفدت واشنطن مبعوثة إلى النيجر، وهي وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ونائبة وزير الخارجية بالوكالة فيكتوريا نولاند، وربما تكون المسؤولة الغربية الوحيدة التي زارت النيجر منذ الانقلاب، كما أنها أرفع مسؤولة أجنبية زارت النيجر منذ الانقلاب -بعد الرئيس التشادي- والتقت قادة المجلس العسكري الحاكم باستثناء الجنرال عبد الرحمن تياني.
- في أوج التصعيد الإقليمي ضد الانقلابيين، وفي ذروة النقاش بشأن مساعي عزلهم وصولا إلى التدخل العسكري لإنهاء الانقلاب، أعلنت واشنطن موافقة مجلس الشيوخ على تعيين كاثلين فيتزجيبون سفيرة لواشنطن في نيامي. وأكدت أنها ستسافر إلى النيجر وتبدأ ممارسة مهامها من دون أن تقدم أوراق اعتمادها للحاكم العسكري.
- تجنب الولايات المتحدة القيام بعمليات إجلاء لمواطنيها ورعاياها في النيجر، على غرار ما قامت به دول أوروبية عديدة بعد الانقلاب.
- وفي خطوة أخرى لافتة، أعادت الولايات المتحدة نحو ألف جندي أميركي إلى قاعدة أغاديز بالنيجر بعد وقت قصير من الإطاحة بالرئيس بازوم، وفق شبكة “سي إن إن”.
- كان من اللافت أن المقال الوحيد الذي كتبه بازوم منذ اعتقاله لم يكن في صحيفة فرنسية أو أفريقية، بل في صحيفة “واشنطن بوست”، وهو ما يعني -ربما- أنه أحس بـ”خذلان” من واشنطن أو “تخاذل” في موقفها تجاه الانقلاب، ولذلك خاطب النخبة الأميركية بلسانها، وعبر إحدى أهم مؤسساتها الإعلامية، كما تناول في مقاله عددا من القضايا التي تشغل بال الساسة الأميركيين وتحدد بوصلة رؤيتهم ومواقفهم، مثل قضايا الإرهاب وقدرته على مواجهته، وما قد يؤدي إليه الانقلاب من تمدد روسي بالمنطقة وحضور لفاغنر في البلد، وبدا الرئيس المحتجز -في استعطافه للملأ الأميركي- كمن يقدم “أوراق اعتماد”، مؤكدا أن النيجريين لن ينسوا دعم الأميركيين لهم في هذه اللحظة المحورية.
- لا يختلف كثيرون في أن إفشال الانقلاب وإعادة الشرعية لن يتحقق دون تدخل عسكري، وهو خيار مشكوك في نتائجه وترتفع الأصوات المحذرة من تبعاته، وتهدد به المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، وتدعمه فرنسا بقوة، بيد أن واشنطن ظلت منذ اليوم الأول تتحفظ ضمنيا على هذا الخيار الذي يمثل البوابة الوحيدة لعودة الشرعية، وفقا لكثير من المحللين، مما يعني عمليا أن واشنطن تركت الأمر لـ”ضمائر الانقلابيين” وغيرتهم على التجربة الديمقراطية في البلاد.
- إضافة إلى ذلك، لم تخف تصريحات وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن توجه بلاده نحو الحل السلمي، إذ أكد في تصريحات للإعلاميين أن واشنطن تركز “بشدة على الدبلوماسية، لتحقيق النتائج التي نريد، أي عودة النظام الدستوري”، ولا يمكن أن تحصر عودة النظام الدستوري في رجوع بازوم إلى السلطة، فهي تعني في الأعراف الأفريقية أيضا منح الانقلابيين فرصة للتحول إلى فريق مدني حاكم عبر فترة انتقالية تنتهي بانتخابات على مقاس الحكام المسيطرين.
- تحدثت وسائل إعلام أميركية وغربية عديدة عن العلاقة الوثيقة التي تربط واشنطن بعدد من كبار العسكريين في النيجر، ومنهم العميد موسى سالاو بارمو أحد أبرز مدبري الانقلاب، وتناولت بالنقاش والتحليل طبيعة العلاقة “المتميزة” التي تربطه بالمؤسسة العسكرية الأميركية.
وقال تقرير نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية إن بارمو يحتفظ بعلاقات وثيقة بالعسكريين الأميركيين، وإنه حصل على اهتمام أميركي خاص تمثل في إلحاقه بعديد من الدورات العسكرية المتخصصة في أكاديميات أميركا العسكرية، وإنه دعا الضباط الأميركيين إلى منزله لتناول العشاء، وهو مسؤول عن قوات النخبة الحاسمة لوقف تدفق مقاتلي تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية في جميع أنحاء غرب أفريقيا.
وذكر أن الضباط والدبلوماسيين الأميركيين يحملون رقم بارمو في هواتفهم المحمولة، ويعتقدون أنه أفضل فرصة لهم لاستعادة الديمقراطية ومنع حرب إقليمية فوضوية من شأنها أن تغرق واحدة من أفقر أجزاء العالم في أزمة أعمق.
ومضى التقرير يتحدث عن بارمو، قائلا إن الجيش كان مركز حياته منذ أن كان عمره 12 عاما، إذ غادر النيجر إلى المدرسة العسكرية في ساحل العاج، ثم انتقل إلى أكاديمية عسكرية بالكاميرون، وانضم إلى الجيش عام 1989، وربطه الجيش الأميركي في وقت مبكر كنجم صاعد واتخذ خطوات لجذبه إلى المدار الأميركي.
واشنطن ونيامي.. علاقات تحت سقف الأمن
يمكن الجزم بأن واشنطن حريصة على حماية مصالحها في النيجر أكثر من حرصها على عودة بازوم، وهو ما يفسر ترددها في إعلان موقف حاسم ونهائي تجاه الانقلاب العسكري في النيجر، كما أن وجود بعض رجالها الأقوياء في السلطة العسكرية الجديدة في نيامي قد يعزز حظوظها في علاقة تفضيلية مع الحكام الجدد.
ينضاف إلى هذا بعدٌ آخر بالغ الأهمية، وهو أهمية المحافظة على الوجود في النيجر بعد أن أدالت الانقلابات أنظمة قوية وصديقة للولايات المتحدة في مالي التي طردت القوات الفرنسية والأممية، وكذا في بوركينا فاسو وغينيا كوناكري.
وإلى جانب ذلك، لا يخفى أيضا أن في سعي الولايات المتحدة الأميركية إلى احتواء الانقلابيين محاولة لإبعاد الروس عن آخر حصن أميركي في أفريقيا، وإبعاد شبح المواجهة من جديد بين الغرب وروسيا في أفريقيا، ولأن الغرب سيستميت من دون شك في الدفاع عن آخر معاقله الأفريقية، فإن واشنطن ربما لا تكون مستعجلة على استحداث أوكرانيا جديدة في منطقة الساحل.
“طعنة أميركية لفرنسا في الظهر”
ويقول العقيد الموريتاني المتقاعد والخبير العسكري البخاري محمد مؤمل -في مقال نشره بموقعه الإلكتروني- إن واشنطن في ما يبدو حصلت من انقلابيي النيجر على ضمانات معتبرة تحقق لها كثيرا مما أرادوا، وهي ضمانات لا تخلو أيضا من سد الأبواب أمام روسيا وذراعها العسكري في أفريقيا (فاغنر)، وفي مقابل ذلك، لا مانع عند الأميركيين من مضايقة الفرنسيين في مناطق نفوذهم التقليدية “عندما يتبادر لهم عجزهم عن الحفاظ عليها، مما يجعل كفة ميزان المنافسة بين الدولتين تميل لأيهما أقوى طبقا لقانون الغاب”.
ويشير إلى أنه “حيثما تبدو ملامح الضعف والوهن على الدول الغربية، يسارع الأميركيون لملء الفراغ قبل أن يحتله الصينيون أو الروس أو منافسون من بلدان صاعدة أخرى: الهند، البرازيل، تركيا”.
وبشأن طبيعة الدور الأميركي في الانقلاب تحضيرا وتنفيذا، يقول البخاري -في حديث مع الجزيرة نت- إنه يميل إلى أن أميركا ليست مشاركة في التحضير والإعداد لانقلاب النيجر، إذ امتازت الانقلابات في الفترات الأخيرة باستقلالية القائمين عليها، بعد أن كانت تدار بيد خلفية -غربية أو شرقية- خلال العقود السابقة وخلال فترات الثنائية القطبية.
ومع ذلك -يضيف البخاري- فإن الفاعلين الدوليين يحاولون استغلال كل وضع وتطويعه لصالحهم من خلال إستراتيجية النفوذ التي يحتدم الصراع عليها. وفي الحالة النيجرية، فإن واشنطن ستستفيد من بعض المعطيات ومنها العلاقة التي تربطها ببعض قادة الانقلاب، إذ استفاد بعضهم من تدريبات في أميركا بمن فيهم قائد الانقلاب نفسه، وهي ورقة ستسعى واشنطن للبناء عليها والاستفادة منها.
ويشير إلى أن ما وصفته الصحافة الفرنسية بـ”طعنة في الظهر تلقتها باريس من واشنطن في ملف النيجر” صحيح إلى حد ما، ويعود ذلك إلى ضعف فرنسا إذ “يعتبر نفوذها متهالكا في أفريقيا والعالم”، وهو ما يفتح المجال أمام فراغ واسع لن تسمح به أميركا، ولن تسمح للأطراف المعادية (الروس والصينيون) بملئه.
رسالة “تأديبية” لباريس
ومن جهته، يرى الكاتب الموريتاني المهتم بقضايا الساحل مولاي عبد الله أن هناك عدة أسباب تجعل واشنطن صاحبة مصلحة في ما حدث بالنيجر، سواء كانت صلتها به “تدبيرا وتخطيطا” منذ البداية، أو “التحاقا مبكرا” من خلال “عقد صفقة” مع منفذيه لكسب ولائهم.
ويشير عبد الله إلى أن من هذه الأسباب ملء الفراغ الذي يتسع مع تآكل المكانة الفرنسية في المنطقة، حيث تجد واشنطن نفسها في هذه الحالة في سباق مع الصين وروسيا، وبدرجة أقل، مع أطراف أخرى.
ولا يستبعد أن ما يصفه ببعض المؤشرات على احتضان واشنطن لجزء من الحركة المناوئة لفرنسا في أفريقيا يأتي كرسالة تأديبية لباريس، التي قادت السنوات الأخيرة حركة أوروبية مناوئة لهيمنة واشنطن في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فكلما فقدت فرنسا مكانتها ومواردها في أفريقيا ستكون أقل قدرة على قيادة أي مشروع إستراتيجي يتعلق بالأمن الأوروبي بعيدا عن واشنطن.
ويضيف أنه رغم أن حرب أوكرانيا أعادت تذكير أوروبا بأهمية حلف الناتو بالنسبة لأمنها الجيوسياسي، فإن العلاقات داخل الحلف بين الأميركيين والأوربيين، خاصة فرنسا، وصلت لمرحلة متقدمة من التوتر، وبالذات في فترة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ثم لاحقا في فترة الرئيس الحالي جو بايدن على خلفية انسحابه من أفغانستان من دون تنسيق كاف مع هذه الدول التي أرغمها ترامب أيضا على رفع حصتها في تمويل أنشطة الحلف.
وبين مختلف هذه التوقعات والاحتمالات، يبقى الموقف الأميركي من عدد من أزمات المنطقة -وفي مقدمتها أزمة السودان وانقلاب النيجر- رسالة واضحة بأن واشنطن تعمل وفق سياسة المصالح، من دون أن تفرط في علاقة مع أي من الأطراف المتنازعة، وذلك وفق الفلسفة الشائعة في منطقة الساحل “من ينتصر سيكون صديقنا”.
المصدر : الجزيرة + وكالات + مواقع إلكترونية + مواقع التواصل الاجتماعي