أعلن الناقد الأدبي حسين حمودة صدور دورية نجيب محفوظ صدورها بعد توقُّف دام نحو خمسة أعوام، وكان الفضل في هذه المعاودة يرجع إلى وزيرة الثقافة.
قال حسين حمودة أستاذ الادب العربي الحديث بجامعة القاهرة ورئيس تحرير دورية نجيب محفوظ في تصريحات خاصة لصدى البلد شاعت أوهام عدَّة حول كتابات نجيب محفوظ، كان من بينها أنه لم ينصف المرأة، أو أنه قدَّم في أعماله صورة سلبية لها، أو أنه توقَّف عند نماذج سيئة لها على المستوى الأخلاقي، والحقيقة أن هذا الوهم الذي يقارب أحيانًا حدود الاتهام، بكل “التنويعات” عليه، انطلق من “إساءة قراءة”، وأحيانًا من “عدم قراءة” لأعمال نجيب محفوظ، حكم على هذه الأعمال بعض من حكم مكتفيًا بمشاهدة الأفلام المأخوذة عنها، وحكم عليها بعض من حكم خلال قراءة سطحية لها، دون قراءتها القراءة التي تستحقها، والتي يستحقها كل عمل أدبي بوجه عام، وهي القراءة التي يجب، كما نعرف جميعًا، ألا تتعامل مع العمل الأدبي معزولًا عن سياقه، وألا تغفل الملابسات التي ترتبط بـ”الزمن المرجعي” الذي يجسِّده هذا العمل، وأن تضع في الاعتبار أن العمل الأدبي، وخصوصًا العمل الروائي، لا يقدِّم بطرائق توجيهية “نماذج” إيجابية أو مثالية من أجل الاقتداء بها، بما يشبه وضع “لافتات” تشير إلى طريق ما ينبغي المضي فيه، وهذه الوجهة الأخيرة كانت وراء تصوُّرات مضلِّلة، سادت في بعض الفترات، حول طبيعة أو وظيفة الدور الذي”يجب” للأدب الروائي أن يقوم به في خدمة بعض الأفكار أو العقائد أوالإيديولوجيات.
وأستطرد حسين متابعًا بعيدًا عن القراءات السطحية أو الأخلاقية، وعلى سبيل التمثيل فحسب، يمكن ملاحظة أن شخصية “المرأة السلبية” الأوضح والأشهر في كتابات محفوظ، التي تمثِّلها “أمينة” في رواية “الثلاثية”، لا يمكن الحكم عليها مع إغفال الملابسات التاريخية والاجتماعية التي أحاطت بها. صياغة شخصية “أمينة”، خلال ربطها بسياق الزمن المرجعي التاريخي الذي تحتفي به “الثلاثية”، كانت تشخيصًا روائيًّا لتقاليدوأعراف ظلَّت تسلب المرأة أغلب حقوقها في العقود الأولى من القرن الماضي، وفي ذلك القطاع من المجتمع المصري، ومن وجهة أخرى، إذا نظرنا إلى صياغة هذه الشخصية نفسها داخل المسار الذي قطعتهالرواية، وهي “رواية زمن” بقدر ما هي “رواية مكان وشخصيات”،فسوف نصل بين هذه الصياغة وأبعاد “التحول” و”التغير” التي احتفت بها هذه الرواية فيما احتفت به، “الثلاثية” في القراءة المنصفة لها، اهتمَّت برصد حركة الزمن وتحوُّلاته التي تطرأ على البيت وعلى أهله، وفي هذا المنحى يمكن أن نلحظ، بسهولة، اختلافات واضحة مشهودة تتحقَّق على مستوى علاقات الشخصيات فيما بين بدايات الرواية ونهاياتها، وإذا كانت أمينة في مواضع مبكِّرة زمنيًّا بالرواية قد عوقبت من زوجها السيد أحمد عبدالجواد لأنها خرجت من البيت دون إذنه، فإنها في مواضع متأخِّرة بالرواية تحصل على قدر من التحرُّر النسبي، حيث لم تعد بحاجة إلى مثل هذا الإذن، بل إننا نشهد في تلكالمواضع المتأخِّرة زمنيًّا نوعًا من “تبادل” الأدوار بين أمينة وزوجها: هو يصبح، بسبب المرض، قعيد البيت لا يغادره، بينما تمضي هي، بحريَّة، لتزور المزارات القاهرية المتعدِّدة. وفضلًا عن هذا، يمكن أن نجد أيضًا في “الثلاثية” نفسها، وفي زمنها المرجعي المتأخِّر، شخصية مثل “سوسن حماد”، الفتاة العصرية المثقَّفة الثائرة التي تعمل بالصحافة وتنتمي إلى عالم جديد ذاهب في طريق التحرُّر من ربقة المواضعات المكبِّلة للحرية، وهي تقريبًا تقع موقع المفارقة الواضحة مع شخصية “أمينة”.
إتهامات زور
وأضاف حمودة متابعًا أيضًا، في اتجاه إساءة قراءة أعمال محفوظ، وأحيانًا الحكم على هذه الأعمال بشكل “أخلاقي” سطحي، وربما مغرض، تم توجيه اتهام إليه بأنه يهتم بتقديم شخصيات عاهرات في بعض أعماله؛وكأنه بذلك “يدعو إلى الرذيلة”، دون ملاحظة أن هذه الشخصيات من العاهرات مصوغة بنبرة إشفاق، تدين الملابسات الاجتماعية وغير الاجتماعية التي قادتهن إلى هذا المصير التعس، وتهتم باستكشاف الأبعاد الإنسانية في هذه الشخصيات، وترنو إلى سعي بعضهن إلى “حياة نظيفة”، بأكثر مما يسعى بعض الرجال [ولنستعِد شخصية”ريري” مثلًا في رواية (السمان والخريف)].
وأضاف موضح هناك حضور متعدِّد للمرأة في عالم محفوظ، منه حضور واضح للمرأة الباحثة عن تحقُّقها، والمرأة الفاعلة، ونلحظ أيضًا تنويعات على هذا الحضور مع شخصيات مثل “إلهام” في رواية (الطريق)، و”زهرة” في رواية (ميرامار)، و”حليمة” في رواية (الحرافيش) التي تقود “عاشور الأخير” إلى الوعي الحقيقي الذي يتبلور لديه فيجعله يخطو أولى خطواته على سبيل إعادة تشييد علاقات العالم الذي تشوّهت ملامحه بالجور والعدوان، وفضلًا عن هذا يمكن أن نلحظأمثلة أخرى لشخصيات نسائية تكاد تمثِّل “عمود العالم” كما هو الحال مع شخصية “الست عين” في رواية (عصر الحب).
حضور مميز للمرأة
كذلك هناك حضور مميز للمرأة في بعض نصوص محفوظ التي اقتربت من حدود التصوف. وفهم محفوظ للتصوُّف فهم خاص، يصل بين الزهد وعدم الانفصال عن وقائع العيش من ناحية، وحب المرأة باعتبارها عمادًا أساسيًّا للحياة، وربما صائغتها الأولى، من ناحية ثانية. ونجد هذا المعنى واضحًا تمامًا في نصوص كثيرة تضمَّنها عمله (أصداء السيرة الذاتية). لم تكن أبعاد التصوف، في تصوُّر محفوظ، معزولة عن العالم، بل ربط دائمًا في هذا التصوُّر بين التصوُّف وحب الحياة.. والمرأة، في عالم محفوظ كله، هي أكثر من يستحق الحب.
وآكد متابعًا يقارب هذا العدد، في محوره، موضوع المرأة في عالم محفوظ، خلال عدد من المقالات، وعدد من الشهادات التي قدَّمتها للدورية مجموعة من المبدعات والمبدعين. وبالإضافة إلى محور العدد، هناك مقاربات نقدية تناولت بعض أعمال محفوظ انطلاقًا من وجهات متنوعة.وهناك أيضًا قراءات لبعض الكتب التي صدرت عنه، ولبعض الرسائل الجامعية التي تم إنجازها عن بعض أعماله… وكل هذه المقالات والشهادات والمقاربات والرسائل جميعًا تعدُّ استجابات وتجاوبات جديدة لأعمال محفوظ ومعها، وهي الأعمال المتجدِّدة، الغنيَّة بعوالمها،التي تظل قادرة على أن تطرح ما لا انتهاء له من طرائق الاستجابة والتجاوب.
وأنهى حديثه قائلًا بهذا العدد تعاود “دورية نجيب محفوظ” صدورها بعد توقُّف دام نحو خمسة أعوام، والفضل في هذه المعاودة يرجع إلى معالي وزيرة الثقافة المصرية، الدكتورة نيفين الكيلاني، وللمجلس الأعلى للثقافة والدكتور هشام عزمي، وللهيئة المصرية العامة للكتاب والدكتور أحمد بهي الدين العساسي.. فلهم جميعًا كل الشكر. والشكر كله طبعا لكل من أسهمن وأسهموا بالكتابة في هذا العدد.