منذ انفصالها عن اتحاد ماليزيا عام 1965 وحتى اليوم لم تعرف سنغافورة غير 3 رؤساء وزراء فقط، بينما تعاقب 8 رؤساء على تلك الدولة الصغيرة الواقعة في جنوب شرق آسيا والتي توصف بـ”الدولة المدينة”؛ حيث تبلغ مساحتها 710 كيلومترات مربعة، وعدد سكانها 5 ملايين نسمة نصفهم من الأجانب القادمين للعمل، ما يجعلها رابع دولة في العالم من ناحية الكثافة السكانية.
سنغافورة دولة متعددة الأجناس والعرقيات والأديان، 3 أرباع مواطنيها هم من العرق الصيني، بينما ينتمي باقي السكان إلى العرق الماليزي أو العرق الهندي أو الأوراسي المختلط. وبقدر تعدد الأعراق تتعدد الأديان في سنغافورة أيضا وتشمل البوذية، والإسلام، والطاوية، والهندوسية والمسيحية.
وجاء جميع رؤساء الوزراء الثلاث الذين عرفتهم ماليزيا من العرقية الصينية -أكبر عرقيات سنغافورةـ ومن حزب واحد هو “حزب العمل الشعبي” (PAP)، الذي يحكم سنغافورة بشكل متواصل منذ عام 1959.
وبينما ظلت رئاسة الحكومة قاصرة على العرقية الصينية، تنوعت عرقيات من تولوا منصب رئيس الدولة، وهو منصب شرفي، حيث تشمل إلى جانب العرقية الصينية العرقية المالاوية والهندية، وآخرين من عرقيات مختلطة أيضا.
كما تنوعت ديانات هؤلاء الرؤساء أيضا بين البوذية، والهندوسية والإسلام، فأول رئيس للدولة هو يوسف بن إسحاق، الذي توضع صورته على أوراق النقد في البلاد، وهو مسلم من عرقية الملايو تولى المنصب مدة 3 دورات متتالية منذ تأسيس الدولة حتى وفاته عام 1970. بينما كانت السلطة التنفيذية في يد لي كوان يو، مؤسس سنغافورة وباني نهضتها وأول رئيس وزراء لها وظل يشغل المنصب طيلة 3 عقود متواصلة.
كما أن الرئيسة الحالية حليمة يعقوب (70 عاما) مسلمة من العرقية المالاوية، تولت المنصب عام 2017 بعد فوزها بالتزكية، من دون منافس، معلنة اكتفاءها بدورة واحدة مدتها 6 سنوات تنتهي في 17 سبتمبر/أيلول الجاري. ومن ثم تجري اليوم الجمعة انتخابات رئاسية تعددية لاختيار خليفة لها.
شروط وصلاحيات
وعلى العكس من منصب رئيس الوزراء الذي تتنافس عليه الأحزاب في انتخابات تشريعية عامة؛ فإن منصب الرئيس غير حزبي بموجب الدستور، وظل البرلمان هو من ينتخب الرئيس، حتى جرى تعديل الدستور عام 1991 حيث يسمح بانتخابه من خلال انتخابات رئاسية. وانتخابات اليوم الجمعة هي الثالثة فقط منذ التعديل الدستوري الذي حول هذا المنصب إلى منصب ينتخبه الجمهور وأعطى الجمهور حق الاختيار.
ومما تنفرد به سنغافورة في شروط المرشح للرئاسة هو أن يكون قد عمل إما كموظف حكومي كبير، أو رئيس تنفيذي لشركة تبلغ قيمة مساهميها 500 مليون دولار سنغافوري على الأقل (370 مليون دولار أميركي).
ورغم أن دور الرئيس في سنغافورة يعد شرفيا إلى حد كبير، لكن هناك متطلبات صارمة للمنصب، الذي يشرف رسميا على الاحتياطيات المالية المتراكمة للدولة والتي لا يمكن الاعتماد عليها إلا في ظروف استثنائية، مثل جائحة كوفيد-19، والأزمة المالية العالمية عام 2009. كما يتمتع بسلطة الاعتراض على بعض الإجراءات والموافقة على تحقيقات مكافحة الفساد.
المتنافسون الثلاثة
ويتنافس في الانتخابات التي تجري اليوم 3 مرشحين توفرت فيهم الشروط، وهم نائب رئيس الوزراء ووزير المالية السابق ثارمان شانموغاراتنام، والذي يعد أصغر المرشحين الثلاثة سنا، (65) وأوفرهم حظا، مقارنة بمنافسَيه؛ وهما إنج كوك سونغ، (75 عاما)، وتان كين ليان (75 عاما).
وتبدو الخلفيات الاقتصادية والوظيفة العامة الكبرى هي القاسم المشترك بين المتنافسين الثلاثة الذين أعلنت إدارة الانتخابات أنهم استوفوا المعايير الصارمة للتنافس من بين المتقدمين للترشح.
وجاء إعلان قبولهم للترشح رسميا قبل أقل من أسبوعين فقط من إجراء الانتخابات اليوم، وهي مدة قصيرة للغاية مقارنة ببقية دول العالم، وكانت محل شكوى المرشح تان كين ليان الذي رآها مدة غير كافية للدعاية الانتخابية التي انتهت الأربعاء الماضي قبل يوم الصمت الانتخابي أمس الخميس.
والمرشح “إنج كوك سونغ”، هو كبير مسؤولي الاستثمار السابق في صندوق الثروة السيادية السنغافوري الذي يدير الاحتياطيات الأجنبية للبلاد، وأمضى أكثر من 4 عقود في العمل في الخدمة العامة حتى تقاعده عام 2013. ويشغل إنج حاليا منصب رئيس مجلس إدارة شركة “أفاندا” لإدارة الاستثمارات التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات.
وبعد أن أمضى سنوات في العمل بشكل وثيق مع رئيس الوزراء لي هسين لونغ، اعترف إنج بأنه قد يُنظر إليه على أنه “جزء من المؤسسة”. ومع ذلك، فهو يرى أن عدم وجود انتماء سياسي مباشر يجعله مرشحا مستقلا. ولم ينضم قط إلى حزب العمل الشعبي الذي يحكم البلاد منذ استقلالها قبل 6 عقود. ويرى أن خبرته الطويلة في القطاع المالي تضعه في وضع جيد لحماية الاحتياطيات الوطنية.
أما تان كين ليان، المرشح السابق لانتخابات الرئاسة في سنغافورة، فهذه المحاولة الثانية له للفوز بالمنصب. بعد أن جاء في المركز الأخير من بين 4 مرشحين في الانتخابات الرئاسية لعام 2011، وهو رئيس سابق لإحدى شركات التأمين الرائدة في سنغافورة، وحصل على دعم العديد من زعماء المعارضة.
وترأس ليان الاتحاد الدولي للتأمين التعاوني والمتبادل من عام 1992 إلى عام 1997، والاتحاد منظمة دولية كانت تمثل في ذلك الوقت 123 مجموعة تأمين في 65 دولة، وتوظف 260 ألف شخص. وبلغ إجمالي أصول أعضاء هذا الاتحاد الدولي 1.5 تريليون دولار أميركي عام 1997.
الأوفر حظا
أما المرشح الأوفر حظا نائب رئيس الوزراء ووزير المالية السابق ثارمان شانموغاراتنام، فهو مواطن سنغافوري متعددة الأعراق (تاميلي ـ هندي – سيلاني) يعرف بأنه من أنصار حزب العمل الشعبي الحاكم لكنه قدم استقالته قبل ترشحه. ويُنظر إليه -على نطاق واسع- على أنه يحظى بدعم الحكومة، وقد تم استجوابه حول استقلاليته خلال الحملة الانتخابية.
وقبل الاستقالة من مناصبه الحكومية لخوض هذه الانتخابات، أمضى ثارمان أكثر من عقدين من الزمن في منصبه مع حزب العمل الشعبي، حيث ترقى إلى منصب نائب رئيس الوزراء.
وتم انتخابه لأول مرة عضوا في البرلمان عام 2001، وكان رئيسا لهيئة النقد في سنغافورة. كما شغل منصب الوزير المنسق للسياسات الاجتماعية، وقدم المشورة الاقتصادية لرئيس الوزراء لي.
وقال إنه إذا أتيحت له الفرصة للقيادة فسيكون “شاملا ونزيها في الوفاء بالواجبات الدستورية للمنصب فيما يتعلق بالاستخدام الحكيم لاحتياطيات البلاد”.
وبينما بدا منافسوه مشغولين باستقلالهم الحزبي، حث ثارمان الناخبين على الحكم على المرشحين بناء على سجلهم، بدلا من انتماءاتهم السابقة.
وقال “إذا كنت محظوظا بما فيه الكفاية لانتخابي رئيسا، فسأمثل وحدة السنغافوريين، من جميع الأعراق والأديان والخلفيات الاجتماعية والميول السياسية، في وقت أصبحت فيه وجهات النظر بين السكان أكثر تنوعا”.
ومنذ أن دخل ثارمان عالم السياسة السنغافوري قبل ما يزيد قليلا على عقدين من الزمن، تجنب النداءات المستمرة من جانب عامة الناس بأنه ينبغي له أن يصبح رئيس الوزراء المقبل لهذه الدولة الواقعة في جنوب شرق آسيا.
التمريرات تكفي
ويصر ثارمان -الذي يتمتع بشعبية كبيرة وترقى في صفوف حزب العمل الشعبي الحاكم، ويحظى بشعبية كبيرة بين أعضاء المعارضةـ على أنه ليس مناسبا لتولي منصب رئيس الوزراء. حتى إنه شبّه مهاراته في الحكم بمهارات صانع الأهداف في كرة القدم، قائلا إنه أفضل كلاعب فريق يمكنه تقديم التمريرات الحاسمة بدلا من النجم الذي يسجل الأهداف. قال “أنا أستمتع بالقيام بالتمريرات الطويلة. لكنني لست المهاجم”.
ومن ثم يعد ترشحه خطوة بعيدة كل البعد عن السعي للحصول على رئاسة الوزراء التي يتولاها حاليا لي هسين لونغ، وهو نجل رئيس الوزراء المؤسس لسنغافورة. ويتوقع أن يتقاعد ويختار خليفته قبل الانتخابات العامة المقبلة في البلاد عام 2025.
ولكنها خطوة تساعد على تجنب السؤال الذي يلوح في الأفق حول ما إذا كانت الدولة ذات الأغلبية الصينية (أو الحزب الحاكم) والتي تروج لمجتمعها المتعدد الأعراق والتعددية، مستعدة أو مترددة لرفع أقلية عنصرية إلى رئيس الحكومة.
اختبار
ومما يميز التصويت في سنغافورة أيضا أنه إلزامي لأكثر من 2.7 مليون مواطن مؤهل في سنغافورة. ويتعرض الذين لا يصوتون بدون سبب وجيه للشطب من قائمة الناخبين.
كما يلاحظ غياب الطوابير الطويلة المنظمة أمام مراكز الاقتراع، كذلك الأجواء الصاخبة التي يمكن أن تصاحب الانتخابات في بلدان أخرى، حيث يهتف المؤيدون أو يوزعون منشورات للضغط من أجل التصويت في اللحظة الأخيرة. و”يتم التعامل مع الانتخابات الرئاسية بشكل متزايد على أنها انتخابات عامة”.
وتحظى الانتخابات الرئاسية اليوم بمتابعة وثيقة باعتبارها مؤشرا على دعم حزب العمل الشعبي الحاكم بعد سلسلة نادرة من الفضائح السياسية هزت الحزب مؤخرا، وهو أمر نادر في بلد استفاد من سمعة حكومته النظيفة، فأصبح مركزا دوليا لمجموعة من الصناعات مثل التمويل والطيران، خصوصا أن الحزب عانى من أسوأ أداء انتخابي له على الإطلاق عام 2020؛ لكنه حافظ على أغلبيته التي تزيد على الثلثين.
وقال مراقبون إن التصويت يمكن أن يشير إلى مستوى دعم حزب العمل الشعبي قبل الانتخابات العامة المقرر إجراؤها عام 2025 أو السخط بعد الفضائح الأخيرة التي تشمل تحقيق فساد مع وزير النقل واستقالة اثنين من مشرعي حزب العمل الشعبي بسبب علاقة غرامية.