جاهدة تسعى الهند لامتصاص الصدمة ومعالجة الآثار التي تركها إعلان بكين غياب الرئيس الصيني شي جين بينغ عن قمة دول مجموعة العشرين التي ستعقد على أراضيها يومي السبت والأحد.
وتواصل نيودلهي محاولات الاحتفاظ برباطة الجأش والتقليل من شأن الغياب المفاجئ غير المتوقع للرئيس الصيني -والذي سيكون المرة الأولى- عن مثل هذه القمة منذ توليه السلطة، وسبقه أيضا غياب متوقع للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ضربة مزدوجة
ومع اتساع التباينات بين الدول الأعضاء في المجموعة، فإن للغياب دلالته الكبيرة مما قد يهدد وضع المجموعة، كما أنه يعتبر ضربة صينية مزدوجة للمنتدى بحد ذاته كواجهة للقيادة العالمية، وللهند كدولة مستضيفة.
ويرى مراقبون أن غياب شي عن القمة هو أوضح تعبير عن حجم التوتر القوي الذي يحكم العلاقة بين البلدين الجارين، كما أن له دلالات تشير إلى محاولات بكين ومن بعدها موسكو لسحب البساط من تحت أقدام الولايات المتحدة التي تتصدر قيادة المنتديات العالمية، وتلويحهما بقدرتهما على إفشال هذا التجمع الكبير.
ورغم تأكيدات وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جايشانكار أن غياب الرئيسين الصيني شي جين بينغ والروسي فلاديمير بوتين عن القمة “أمر عادي، ولا علاقة له ببلاده”، فإن زفرات غاضبة من مسؤولين هنود وغربيين كشفت حجم الانزعاج في دوائر صنع القرار الغربية ومن قبلها الهندية.
فها هو الرئيس الأميركي جو بايدن يصرح بأنه يشعر بـ”خيبة أمل” جراء ذلك الغياب، كما توالت التصريحات التي وصفت الغياب عن القمة بأنه لا يعني سوى شيء واحد وهو إفسادها، ولقد ظهر ذلك على لسان أكثر من مسؤول “لقد كانوا يعملون على إفساد عملنا المشترك طوال العام”.
توتر شديد
كانت العلاقات بين عملاقي آسيا حتى وقت قريب تسير نحو التقارب، لكنها توترت في الآونة الأخيرة بشكل واضح.
وكما أن أسباب التقارب بين الجارتين كثيرة، فإن ما يوتر علاقاتهما يبدو في المستوى المنظور أقوى، خصوصا مع حدوث تحولات وإعادة تموضع لعلاقاتهما الدولية والإقليمية، ويضاف لذلك حالة الاصطفاف الدولي الناجمة عن التنافس الغربي مع الصين.
ويعود التوتر إلى أسباب كثيرة، بعضها يعتبر منطقيا في الأعراف السياسية، فما ظنك ببلدين نوويين جارين يشتركان بحدود تمتد آلاف الكيلومترات، بينهما تباين واضح في المواقف السياسية، وتنافس شديد لتوسيع دوائر النفوذ وبسط السيطرة إقليميا ودوليا، بينما يحكم العامل الاقتصادي أي تقارب بينهما.
النزاع الحدودي
تشترك الهند والصين في حدود يبلغ طولها نحو 3500 كيلومتر، بها مناطق متداخلة يتنازع البلدان السيادة عليها، ورغم أن البلدين التزما باتفاقات قائمة منذ فترة طويلة لتجنب استخدام أي أسلحة نارية على طول الحدود القائمة بحكم الواقع والمعروفة باسم “خط السيطرة الفعلية”، فإن وقوع اشتباكات بين قواتهما يعيد الأمر في كل مرة إلى حافة المواجهة بينهما.
ويعلن وزير الخارجية الهندي قبل أشهر أن العلاقات الهندية الصينية لا يمكن أن تعود إلى طبيعتها قبل حل النزاع الحدودي بما يتماشى مع اتفاق سبتمبر/أيلول 2020 المبدئي، الذي تم التوصل إليه مع الصين، في إشارة إلى جولات من المحادثات الدبلوماسية والعسكرية عقب اشتباكات حدودية أسفرت عن قتلى في صفوف الجانبين.
وفي تقرير نشره معهد الولايات المتحدة للسلام في مايو/أيار الماضي تحت عنوان “لماذا يجب أن نقلق بشأن النزاع الحدودي بين الهند والصين”، وصف التقرير الحالة هناك بأنها “خطوة إلى الأمام، وخطوتان إلى الوراء”.
ويقول إنه على الرغم من أن الاشتباكات الحدودية غالبا ما يتبعها حوار وخطوات أخرى للحد من التوترات، فإن كلا الجانبين قاما على نحو متزايد بعسكرة سياساتهما الحدودية ولم يظهرا أي مؤشر على التراجع.
ويضاف لذلك، احتضان الهند للزعيم الروحي في التبت الدالاي لاما، الذي فر إلى الهند في أعقاب انتفاضة فاشلة في التبت عام 1959.
العلاقة مع الغرب
تبرز العلاقات مع الدول الغربية كواحدة من نقاطة التوتر بين بكين ونيودلهي، ويقف البلدان على طرفين متناقضين خصوصا في العلاقة مع الولايات المتحدة، ومقابل التقارب الهندي الأميركي، فهناك نقاط توتر كبيرة تحكم علاقة بكين بواشنطن.
وإن كانت الصين لا تخشى من أطماع جارتها، فإنها تتخوف من تحالفات مع منافسيها التقليديين من أمثال الولايات المتحدة واليابان وأستراليا.
كما فرضت الحرب في أوكرانيا إيقاعها على طبيعة علاقات بكين مع روسيا من ناحية والدول الغربية من ناحية أخرى، بينما سعت الهند إلى إمساك العصا من المنتصف.
وقلصت الهند تعاملها التجاري مع الصين، في مقابل عقد صفقات تجارية كبرى مع دول الاتحاد الأوروبي، ودول غربية أخرى.
التحالف مع باكستان
تثير العلاقات القوية التي تصل إلى شبه تحالف بين الصين وباكستان قلقا شديدا لدى نيودلهي التي تتهم بكين بمساعدة إسلام آباد في الحصول على التكنولوجيا النووية وصناعة الصواريخ.
وتبرز قضية كشمير كنقطة خلاف تضاف إلى ملف العلاقة المتوترة بين الهند والصين، إذ يعتقد قياديون في حكومة حزب بهاراتيا جاناتا القومي الحاكم في الهند أن مواقف الصين من القضية تصب مباشرة لصالح باكستان، ويطالبون باستعادة الجزء الخاضع للإدارة الباكستانية في كشمير.
أما مبادرة الحزام والطريق الصينية، فإن أهم مشاريعها ستنفذ انطلاقا من باكستان حيث استثمرت الصين نحو 60 مليار دولار في مشاريع بنى تحتية في باكستان، ضمن ما يسمى الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني.
وتشمل المشاريع إنشاء طريق سريع رئيسي لنقل البضائع من ميناء غوادر جنوبي باكستان، إذ يعطي الوصول إلى هذا الميناء الصين موطئ قدم في بحر العرب، ما يثير قلق نيودلهي في أن يستخدم ذلك لدعم عمليات البحرية الصينية في بحر العرب.
عقدة الاقتصاد
يقدر مراقبون أن حجم الاقتصاد الصيني يبلغ 5 أضعاف الاقتصاد الهندي، وفيما ترى الصين نفسها منافسا قويا للولايات المتحدة، تعتمد الهند على عالم متعدد الأقطاب يكون لها فيه دور مهم.
لكن في الوقت ذاته، تمتلك الهند مقومات نمو اقتصادي هائلة، ومن الممكن أن تحقق ذلك فيما لو توجهت للانفتاح على الاستثمارات الأميركية في عدد من المجالات خصوصا التقنية منها.
وتحاول واشنطن أن تقدم إغراءات كبيرة للشركات لترك الصين والتوجه إلى الهند، لكن المخاوف من عدم توفر البنى التحتية لنمو اقتصادي حقيقي تثني كثيرا من هذه الشركات عن اتخاذ خطوات للتوجه للهند، إضافة إلى الخوف على مصالحهم في السوق الصيني الضخم.
ورغم أن الولايات المتحدة هي أكبر شريك تجاري للهند، في العام الماضي، فإن ذلك لا يعني عدم وجود خلافات بين البلدين أهمها عضوية نيودلهي في منظمة بريكس جنبا إلى جنب مع خصمي واشنطن اللدودين بكين وموسكو.
وفي الختام، جدير بأن نذكر أن بكين لا تزال تعتبر الهند جزءا من إستراتيجية الولايات المتحدة لاحتواء النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الهندي-الهادي، لذلك فهي تعارض أي دور للهند على هذا الصعيد.