أحمد حموش
قرية تنزيرت- “لا شك أنها ندمت على ترك بنتيها تقضيان الليل في بيت جدهما”، هكذا صاح عبد الرحمن وهو يرى أمّا مكلومة فقدت فلذتي كبدها وأفرادا من أسرتها في زلزال إقليم الحوز (جنوبي مراكش).
الأم أصبح فؤادها فارغا بعد الكارثة، تبدو حائرة تائهة لا تحس بأحد، ولا تأبه لسؤال أحد لفجيعتها الكبرى، غير أن قصتها لا تكاد تختلف كثيرا عن قصص سكان قرية تنزيرت، التي استيقظ من بقي حيا من سكانها صبيحة التاسع من الشهر الجاري وقد اكتشفوا أن الزلزال مسح القرية من الخريطة.
تبعد تنزيرت نحو 80 كيلومترا إلى جنوب مدينة مراكش، وتقع في حضن جبل حجري مرعب، وتقابلها جبال رهيبة من سلسلة جبال الأطلس، وبين الجبال منحدرات خطرة يتخللها واد جاف، وقطع فلاحية متناثرة، ولا يكاد يلتفت أحد لتنزيرت لوجودها في هذه المنطقة الخطرة المعزولة.
وكلما ابتعدت عن مراكش، واقتربت من المدن والقرى المؤدية إلى المناطق التي تقع في مركز الزلزال المدمر -وبينها إسني وماريغا- تضيق الطريق وتصبح أكثر وعورة وخطورة لوجودها بين جبال شاهقة.
وتسبب الزلزال في انهيار حجارتها وقطع الطريق، وتواصل أجهزة وزارة التجهيز والسلطات المحلية العمل ليل نهار لإبقائها مفتوحة لنقل الضحايا والمصابين ولتزويد القرى المعزولة بما يبقي سكانها على قيد الحياة.
اذهب إلى تنزيرت
كل من تلتقيه بمدينة إسني وقرية ماريغا وتسأله عن الزلزال يقول لك “عليك أن ترى تنزيرت، يجب أن ترى تنزيرت”.
وإن سألت عن مكان وجودها يخبروك عن منعطف ضيق صغير عند الخروج من قرية ماريغا، ولا بد لك أن تركز وأنت تقود سيارتك لتنتبه لوجوده.
“كيف عشتم تجربة الزلزال هنا في ماريغا؟” ويجيب محمد (أحد سكان ماريغا) “نحن هنا بخير، لكن تنزيرت ليست على ما يرام”.
“ما الذي جرى بالضبط في تنزيرت، الكل ينصحنا بالذهاب إلى هناك؟” فيقول محمد “لا حول ولا قوة إلا بالله، ما حصل هناك لا يمكن أن يوصف”.
قرية منكوبة
بدأنا نبحث عن “المنعطف” الذي يقود إلى تنزيرت عند الخروج من ماريغا، وفجأة رأينا منفذا صغيرا، أكد لنا بعض من كانوا يقفون هناك ينتظرون من ينقلهم إلى قريتهم أنها هي الطريق المؤدية إلى القرية المعزولة.
عدد من المتجمهرين أكدوا لنا أنهم من أبناء القرية، ممن هاجروا إلى مراكش ومدن مغربية أخرى بحثا عن عمل، وعندما سمعوا بهول الكارثة التي ضربت قريتهم جاؤوا للاطمئنان على ذويهم، وهم ينتظرون من يقلهم إلى قريتهم.
تبعد القرية المنكوبة عن ماريغا نحو 10 كيلومترات فقط، صعودا في جبل شاهق، وعبر طريق ضيقة جدا، ومتعرجة بشكل لا يوصف، وغير معبدة، ولم تنجز إلا قبل نحو عام كما أكد لنا سكان القرية. 10 كيلومترات هي لا شيء عندما تكون الطريق معبدة سلسلة، لكن بالنسبة لسكان تنزيرت هي ليل طويل يرفض أن ينجلي.
لصعوبة تلك الطريق، لا توجد وسائل نقل عمومية تحمل الناس من وإلى تنزيرت، فقط فرد واحد من أبناء القرية يجتهد في قضاء حوائج السكان، لأن لديه شاحنة صغيرة، يمارس التجارة بفضلها بين قرى ومدن المنطقة، ويلبي طلبات قريته، وينقل المرضى والحوامل وكل من يحتاج إلى رعاية طبية.
وفي أيام الكارثة هذه، يحمل الرجل المرضى إلى مستشفى مراكش، وأخبرنا صديقه عبد الله أنه نقل صباحا سيدة حامل إلى المستشفى بعدما اقترب وقت الوضع.
ركام من الطين
انطلقنا نحو تنزيرت، ومعنا أحد أبناء القرية الذي طلب منا مساعدته ونقله للقرية، فقد ترك عمله في مراكش، وجاء ليطل على أسرته.
خلال الأمتار الأولى، بدت الطريق ضيقة بين جدران متهدمة، لكنها رغم ذلك كانت سهلة وميسرة، لكن بعد نحو دقيقتين، انقلبت الطريق إلى كابوس حقيقي؛ فهي إلى جانب كونها ضيقة فهي غير معبدة، ومليئة بالتعرجات الخطرة بحيث إن لم تتحكم في سيارتك بشكل كامل ستجد نفسك في أسفل الوادي الجبلي.
“كيف تصلون إذن إلى تنزيرت، وكيف يعيش الناس حياتهم هناك؟” يجيب عبد الله “الناس لا حياة لهم هناك، هم منعزلون عن العالم، والشباب لا فرصة لديهم للعمل؛ لذلك فهم يهاجرون”.
بعد نحو نصف ساعة من القيادة/المغامرة، وصلنا إلى تنزيرت أخيرا، أو إلى ما تبقى منها؛ بيوت طينية مهدمة، وأناس مجتمعون في أسفل الجبل يتلقفون مساعدات بسيطة جلبها ناشطون ومحسنون، ومعالم الحزن تغطي وجوه الشيوخ والعجائز، في حين يكابر الشباب والصغار لإخفاء مشاعر الصدمة والحزن لديهم.
هم الآن أعمدة القرية، وبفضل جهودهم يتمكن الآباء والأطفال من الصمود، فلا وقت لديهم للحزن.
هنا كانت تنزيرت
“تنزيرت كانت.. لم يعد هناك شيء اسمه تنزيرت”، يشرح محمد بدارجة مغربية ذات لكنة أمازيغية، مضيفا أن القرية دمرت عن آخرها تقريبا.
يوضح المتحدث للجزيرة نت أن القرية كانت تضم نحو 110 منازل، جلها مبنية بالطين والحجر، وعدد سكانها لا يتجاوز 600 شخص، لقي حتى الآن 22 منهم حتفه مباشرة خلال الزلزال، في حين أصيب نحو 24 شخصا بكسور وإصابات حرجة، زادها خطورة وتعقيدا عدم وجود وسيلة لتنقلهم مباشرة بعد استخراجهم من تحت الأنقاض إلى أحد مستشفيات مراكش.
يؤكد عبد الله (أحد سكان القرية) للجزيرة نت أن بعض الجرحى نقلوا إلى المستشفى في صباح اليوم التالي للزلزال، بل يزيد أنه لم يتم إنقاذ بعض من علقوا تحت الأنقاض إلا بعد ساعات طويلة من حدوث الزلزال، إذ تكلف شباب القرية -وحدهم- بإنقاذهم بوسائل بدائية.
والآن جل تلك المنازل أصبحت أثرا بعد عين إثر الزلزال المدمر، وما أن تتمشى بضعة أمتار حتى تطل على حجم الكارثة التي ضربت المنطقة.
يقول محدثنا عبد الله “هنا كانت تنزيرت”، وهو يشير إلى مكان يعتقد الرائي في البداية أنها مجرد تلال من التراب، قبل أن يتيقن وهو يمشي مذهولا أنها كانت -إلى الأمس القريب- بيوتا مليئة بالسعادة، يتجمع داخلها الأحباب والأصحاب، ويتسامرون الليل كله في بطن هذا الجبل الرهيب.
في ذلك المكان كان يوجد بيت أسرة فقدت الأب والأم وكل الأطفال باستثناء شاب يبلغ من العمر 15 عاما وجد نفسه بعد الزلزال وحيدا.
وهنا لقي شخصان مصرعهما، وهناك أسرة فقدت 3 من أفرادها، وهنالك 4، ويستمر المتحدث في العد وهو يشير بأصبعه إلى أماكن هي الآن مغطاة بالطين والتراب، بينما كانت بالأمس بيوتا قائمة بذاتها وتضم جيرانا طيبين.
تعبنا من الدفن
“لقد تعبنا من الدفن، واضطررنا للحفر بكل وسيلة بدائية ممكنة لنواري الثرى جثث 22 من الجيران الطيبين الذين فقدناهم”، يتابع محمد وهو يحكي تفاصيل المأساة للجزيرة نت، مضيفا وهو ينظر إلى مكان ما أعلى الجبل “كان هنا شيء يسمى تنزيرت”.
في هذا المكان تبدو ثلاجة مغطاة بالطين، وهناك تُرى حقيبة طالما احتضنت أحلام أصحابها بالسفر للقاء الأحباب أو للبحث عن عمل، وتحت ذلك الركام الطيني توجد سيارة محطمة لرجل جاء إلى القرية ناقلا صديقه الذي أراد زيارة عائلته، فوجد نفسه تحت الركام وهو الآن بأحد مستشفيات مراكش بين الحياة والموت.
يجمع من تحدثنا إليهم من سكان القرية على أن الضحايا فوجئوا بالزلزال وهم نائمون، فانهارت البيوت الطينية على رؤوسهم، وقضوا حتفهم، في حين نجا آخرون بأعجوبة.
يؤكد الشاب عبد الرحمن للجزيرة نت أن نحو 90% من بيوت القرية تهدمت، وما يبدو من بيوت قائمة لا تستطيع أن تدخل إليها أبدا، فهي من الداخل مبنية بالطين، ومن الخارج مغطاة بطبقة رقيقة جدا من الإسمنت، بحيث يظن الرائي أنها مبنية بالإسمنت.
وعاينت الجزيرة نت شقوقا خطرة بجدران ما تبقى قائما من منازل تنزيرت، وهي لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة. ولا شك أن كون البيوت مبنية بالطين، وبعضها قائم منذ سنوات طويلة، زاد حجم المأساة.
نبيت في العراء
“أين يبيت من بقي حيا من أفراد القرية إذن، وبينهم نساء وأطفال وشيوخ؟” سألنا محدثنا عبد الرحمن الذي أجاب -وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة حزينة- “نحن نبيت في العراء”!
ويتابع “الليلة الماضية كدنا نموت من البرد، وما استطعنا إنقاذه من بطاطين نعطيه للنساء والأطفال، بينما نحن الرجال نصبر ونكافح حتى يطلع النهار”.
لكن كيف لإنسان في أعالي هذه الجبال أن يصمد مع البرد الشديد الذي يضرب المنطقة ليلا، فرغم أن الأجواء صيفية نهارا، إلا أنها في جبال الأطلس باردة جدا ليلا.
“أكثر ما يؤلمنا بكاء الأطفال من شدة البرد ليلا، أما بالنسبة لنا فنحن نتدبر أمرنا ونصرخ نحن أيضا من البرد، لكنه صراخ صامت”.
أين المساعدات؟
ينتقد سكان القرية تأخر وصول المساعدات إليهم، وأكدوا للجزيرة نت أنه لحدود مساء الأحد لم يصل إليهم أي شخص يمثل السلطة، باستثناء إطلالة سريعة قام بها أحدهم، ثم ما لبث أن قفل راجعا من حيث أتى.
يصرخ أحد سكان القرية في حديثه مع الجزيرة نت بأن السلطة يجب أن تنتبه إلى أن تنزيرت اندثرت كقرية، لكن من بقي حيا من سكانها يقضون الليل في العراء وهم في حاجة ماسة إلى الماء والأكل والدواء، ولولا مساعدات فردية من بعض المحسنين لكان الوضع أكثر قتامة.
والخيام في مثل هذه الظروف تصبح ذات أولوية قصوى، كما يشدد على ذلك محدثونا من سكان القرية.
“إيلّي”
وبينما انطلق الجميع يتحدث عن أحوال القرية المنقرضة، ومناقشة الدعم الذي يحتاجه السكان، مرت بجانبنا سيدة عجوز وهي تبكي بأنين يؤلم سامعه، ويصبرها محدثها وينطق بكلمة “إيلي”، وتعني بالأمازيغية “ابنتي”.
ربما فقدت ابنتها، أو حفيدتها، لم تستطع العجوز الكلام، لكن لن ينسى أحد صوت ذلك البكاء المؤلم، مثلما لن ينسى أحد أبدا مشهد الأم التي فقدت بنتيها في الكارثة.
يحكي عبد الرحمن للجزيرة نت أن تلك السيدة المكلومة تركت فلذتي كبدها تقضيان الليلة ببيت جدهما، كما اعتادت على ذلك، فهما لا شك كانتا تحبان أحاديث جدهما، وقصصه و”حجاياته” (أحاجيه)، كما كانتا تحبان ضحكاته بفم لا توجد فيه أسنان، وتشاغبان معه، بينما هو لا شك كان يعشق شغبهما ويتمتع بالسعادة التي تخلقانها في البيت كلما زارتاه.
لكن الآن بعد الزلزال، كل شيء تغير؛ فقد توفيت البنتان، كما لقي الجد هو الآخر مصرعه، وانهدم البيت على رأس كل من فيه، فلم ينج أحد.
وأضيفت حكاية البنتين وجدهما إلى الحكايات الحزينة التي سيحكيها من عاشوا كارثة الزلزال لأبنائهم، وترويها الأجيال جيلا بعد جيل، فيتذكر الجميع قصص من رحلوا، ولا ينسوا أبدا أنه كانت هناك في هذا المكان المعزول في حضن جبال الأطلس قرية تسمى تنزيرت.