أحمد حموش
إقليم الحوز- هنا إقليم الحوز، هنا مركز الزلزال، هذه المنطقة التي كانت إلى وقت قريب إحدى الوجهات المفضلة للزوار من عشاق السياحة الجبلية وتسلق الجبال؛ وأصبح اسمها اليوم مقترنا بزلزال قوي مدمر لم يعرف المغرب مثله منذ قرن.
تحناوت، وإسني، ومولاي إبراهيم، وستي فاطمة (تنطق محليا ستي فاضمة)، ويرغان، وإيجوكاك، وثلاث نيعقوب، وتنمل، وأغمات، وأوكايمدن، وأمزميز، وأغبالو؛ هي أسماء لمناطق في حضن سلسلة جبال الأطلس كانت -ومدن وقرى أخرى غيرها- محجا للسياح وعشاق التاريخ، وكل واحدة منها الآن تحمل هما ثقيلا ثقل الركام الذي بات يغطي كثيرا من معالمها.
صمت غريب يلف الطريق المؤدية إلى مدينة تحناوت (أهم مدن الإقليم)، وعادة ما كانت تعج هذه الطريق بالغادين والرائحين، لكنها هذا الصباح شبه فارغة، إلا من أسر منتشرة هنا وهناك تحت الأشجار، نصبت لها ما تشبه الخيام من قطع ثياب منزلية رُبطت بأغصان الأشجار، تحفظ بها خصوصيتها من أنظار المارة، خاصة الصحفيين الذين باتوا -بسبب الزلزال- أكثر من يزور المنطقة في الوقت الحاضر.
وابتداء من مدخل مدينة مراكش إلى الطريق المؤدية إلى مدن وقرى إقليم الحوز، تفترش الأسر الحدائق العمومية وكل منطقة بعيدة عن الأبنية العالية، وتحرص على ضمان بعض خصوصيتها، وباتت جراحها معرضا لزوار جدد يعشقون جمع الصور.
كانت هنا حياة
تحناوت شبه فارغة من سكانها، والدكاكين البسيطة التي تشكل شريان الحياة بالنسبة للناس الآن مغلقة، وحتى جل محطات الاستراحة السياحية بقرية إسني أقفلت أبوابها، وعشرات الكراسي التي وضعت في المنطقة المطلة على الجبال الشاهقة فارغة الآن من السياح والمسافرين الذين اعتادت المنطقة استقبالهم في هذا الوقت من العام.
وفي الشارع الرئيسي بمدينة إسني، انتشر عناصر الدرك الملكي والقوات المساعدة والوقاية المدنية وقوات من الجيش، بعضهم ينظم حركة المرور على الطريق الرئيسية الوحيدة، والبعض الآخر يضمن الأمن خلال توزيع المساعدات، في حين يساعد آخرون في نصب الخيام التي جلبت خصيصا لاحتضان العائلات التي باتت بلا مأوى بعد زلزال ليلة الثامن من سبتمبر/أيلول الجاري.
الحكايات في إسني تتشابه، ولا تكاد تختلف إلا في بعض التفاصيل البسيطة؛ فجل الناس كانوا نائمين عندما ضرب الزلزال عند الساعة 11:11 ليلا، وجل من نجوا كانوا مستيقظين أو خارج بيوتهم.
وكلما سألت تسمع الجواب نفسه “نحن الآن في حاجة إلى مساعدات عاجلة، إلى الأكل والشراب والخيام”، الناس همها الأول هنا التشبث بالحياة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
رائحة الموت
رائحة الموت منتشرة في كل مكان، ووجوه الناس حزينة شاحبة، أعياها الخوف والسهر والجوع والعطش، ورغم المساعدات التي جُلبت إليهم من كل مكان فإنها لا تكفي؛ إذ الحاجة إلى الدعم عملية يجب أن تستمر يوميا.
وما يزيد الوضع تعقيدا أن الكثير من سكان الدواوير المجاورة التي كانت أكثر من تضرر من الزلزال المدمر فضلوا النزول إلى إسني وباقي المراكز الحضرية للحصول على نصيبهم من المساعدات التي تصل، والتي قد لا يستفيدون منها إن بقوا في دواويرهم المنعزلة في أقاصي الجبال.
وهنا في إسني، نصبت السلطات العديد من الخيام، ووضعت دورات مياه، وهي في سباق مع الزمن لنصب كل ما يصل من خيام، وضمان الأمن.
الطريق من إسني إلى ماريغا ضيقة ملتصقة بجبال حجرية شاهقة، تنظر إلى عظمة الموقف وأنت تمر بجانبها وترى حجم الأحجار الهائلة التي إن سقطت لن تقطع الطريق فحسب، بل ستخلف ضحايا جددا.
وهذه الطريق قُطعت بعد الزلزال، إذ تناثرت الحجارة الضخمة على جنباتها، وقضت آليات وزارة التجهيز ساعات طويلة في فتحها لضمان نقل المصابين إلى المستشفيات، وتزويد القرى والدواوير بالمساعدات اللازمة لبقائهم على قيد الحياة.
طريق متعرجة، خطرة، وما يزيدها خطورة كثرة أصحاب الدراجات النارية من سكان المنطقة، وهناك آخرون أتوا من مناطق مجاورة “للمساعدة” على حد قولهم، يتسابقون مع السيارات ومع شاحنات الدعم للوصول أولا إلى أقرب قرية.
وجلهم عندما يصلون إلى دوار أو قرية تبدو عليها آثار الزلزال الرهيب، يقفون -كما عاينت الجزيرة نت- ويشرعون في التقاط الصور.
الوصول إنجاز
الوصول إلى ماريغا في حد ذاته إنجاز؛ فرغم أن المسافة لا تتجاوز 15 كيلومترا، فإننا قضينا نحو ساعة للوصول إليها، والخوف من هزة مفاجئة قد تسقط هذه الأحجار الهائلة التي تقع في أعالي الجبال فوق قافلة السيارات، وهذا ما أخذ بلب تفكيرنا جميعا.
الشاحنات الكبرى تمشي ببطء، وخلفها كل هذا العدد الكبير من السيارات التي تنقل سكانا محليين وصحفيين ومحسنين يحملون ما يطيقونه لنقله للدواوير التي لم يصلها أي دعم بعد.
ولم يكن الوضع مختلفا عند خروجنا من ماريغا إلى قرية ويرغان ومن ويرغان باتجاه قرية تينمل، إلا في درجة خطورة الطريق؛ فهذه الطريق مرعبة لوجودها بمحاذاة جبال حجرية شاهقة، وكأن ذلك لا يكفي ففوجئنا بأن الطريق من ويرغان إلى تينمل غير ممهدة، وتشهد إصلاحات جذرية يعلم الله منذ متى.
“وحدها السيارات رباعية الدفع تصلح لهذه المنطقة ذات التضاريس الجبلية القاسية”، ويصيح السائق وهو يتذمر غاضبا من المسؤولين الذين لم يسعوا لتمهيد هذه الطريق التي إن مررت منها مرتين أو 3 فلا داعي لأن تفرح بسيارتك حتى لو كانت جديدة.
“كيف إذن هي حال الأسر التي تعيش هنا يا ترى؟ كيف تتصرف الحوامل وأصحاب الحالات المستعجلة التي تحتاج تدخلا طبيا عاجلا؟ كيف يمكنهم أن يصلوا إلى أقرب مركز صحي؟ يلقي السائق كل هذه الأسئلة تباعا ولا ينتظر جوابا؛ فالحال أبلغ من المقال، وهي أسئلة لا شك تراود كل من يمر من هذه الطريق لأول مرة، ويطلع على وعورتها.
الحياة متوقفة
بمنطقة ويرغان، يوجد السد الشهير بالمنطقة، الذي عادة يستقطب السكان والسياح، وهو الآن شبه مهجور، وتقابله دكاكين بسيطة مغلقة اعتادت على بيع زيت أرغان الشهير للمسافرين عبر هذه الطريق الحجرية الصعبة.
بعض النساء خارج أحد البيوت على الطريق فضلن افتراش الأرض هربا من أي هزة مفاجئة قد تسقط السقوف على رؤوسهن.
عند خروجنا من ويرغان باتجاه إيجوكاك وبعدها تينمل، صادفنا عددا من السيارات متوقفة، بينها سيارات إسعاف وشاحنات إمداد، فأكد لنا عناصر وزارة التجهيز أنهم يبذلون جهودا ليل نهار ليس لفتح الطريق فقط، بل لتوسيعها لتمكين سيارات الإسعاف والشاحنات الكبرى التي تحمل المساعدات من المرور بلا مشاكل.
الأولوية للإسعاف والإمداد
فالأولوية الآن لسيارات الإسعاف والشاحنات التي تحمل مساعدات، ونظرا لكون خطر الانهيارات المفاجئة يبقى قائما -خاصة إذا حدثت هزة ارتدادية- فهؤلاء المهندسون والعمال يفعلون كل ما يلزم لفتح الطريق ومحاولة توسيعها من الجانب القريب من الجبل، لأن الجهة المقابلة عبارة عن واد سحيق.
أحد المهندسين المشرفين على العمل أخبرنا أن هذه النقطة ستفتح قريبا، لكن هناك محاور أخرى من الطريق المؤدية لتينمل مقطوعة، وستفتح خلال ساعات.
داخل السيارة، سأل محدثنا وهو يتأمل هذه الجبال الشاهقة، والوديان السحيقة التي أنسته هموم الزلزال: “كيف لرجل مثل المهدي بن تومرت أن يخرج من هذا المكان الذي نعجز عن المرور عبر طرقه الوعرة بسياراتنا الحديثة، لكنه انطلق من هنا قبل قرون وبنى إمبراطورية مترامية الأطراف؟”
رد عليه أحدهم “ربما نستشرف معالم الجواب المرة القادمة عندما نعود غدا إن شاء الله إلى تينمل، مهد الإمبراطورية الموحدية”، أما الآن فهناك أولويات أخرى.
عدنا باتجاه دواوير محيطة بإسني وتحناوت، حيث هناك أناس يقضون الليل في العراء، ولم تصلهم مساعدات بعد، وينتظرون من ينقل قصصهم إلى العالم.