بعد المواجهات المسلحة التي شهدها أخيرا إقليم أزواد (شمال مالي)، يواجه اتفاق الجزائر بين باماكو والحركات المسلحة لقبائل الطوارق أصعب امتحان له منذ توقيعه عام 2015.
ويسعى الجيش المالي لبسط سيطرته على المنطقة عقب شروع القوات الأممية في الانسحاب من هناك.
فمنذ أغسطس/آب الماضي، اندلعت عدة معارك واشتباكات بين تنسيقية حركات أزواد (سيما) والجيش المالي؛ المدعوم بعناصر من شركة فاغنر الروسية.
وهذا التطور دفع ممثلي تنسيقية حركات أزواد في باماكو لمغادرة العاصمة المالية بناء على تعليمات قادتهم، وإعلان التعبئة في صفوف مقاتليهم؛ وهو ما يعد مؤشرا على بداية انهيار اتفاق السلام.
تبادل الاتهامات
ويتبادل الطرفان مسؤولية بدء العمليات القتالية التي توقفت رسميا منذ التوقيع على اتفاق الجزائر عام 2015.
ووضع اتفاق الجزائر حدا لمعارك اشتعلت في 2012، إثر إعلان الحركات الأزوادية الاستقلال والانفصال عن مالي، بعد مشاركتها في معارك ضد الجيش الحكومي.
وتتهم تنسيقية حركات أزواد قوات المجلس العسكري في باماكو وعناصر فاغنر بقصف مواقعها بالطائرات الحربية، ومهاجمة وحداتها.
وشهدت مالي أخيرا هجمات مسلحة استهدفت قاربا نهريا ومواقع عسكرية، واتخذها الجيش ذريعة لبدء عملية عسكرية في الشمال؛ مما أدى إلى اصطدامه بحركات أزواد الموقعة على اتفاق السلام.
واتهمت الحكومة المالية حركات أزواد بالتواطؤ مع ما وصفتها بالجماعات الإرهابية، وشددت على رغبتها في بسط سلطتها على كامل البلاد، بما فيها المناطق التي تنسحب منها القوات الأممية في الشمال.
وفي الوقت نفسه، اعتبرت أن ذلك لا يشكل بأي حال من الأحوال عملا عدائيا من جانب الدولة المالية تجاه الحركات الموقعة على اتفاق الجزائر.
وشددت باماكو على هذا الموقف في الخطاب الذي ألقاه وزير خارجيتها عبد الله ديوب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، في 23 سبتمبر/أيلول الجاري.
إلى الميدان
غير أن حركات أزواد -التي غيرت اسمها إلى الجيش الوطني لأزواد- رأت أنها في “زمن حرب” مع المجلس العسكري في باماكو، ودعت في بيان سكان المنطقة إلى التوجه للميدان للمساهمة في الجهد الحربي.
وأدى هذا الوضع إلى وقوع عدة اشتباكات بين الطرفين؛ ففي 17 سبتمبر/أيلول الجاري هاجم مسلحون من حركات أزواد -التي يغلب عليها عنصر الطوارق- ثكنة في بلدة ليري (شمال غرب) بالقرب من الحدود الموريتانية.
وأعلن المسلحون إسقاطهم طائرة للجيش المالي قالوا إنها قصفت مواقعهم، في حين أعلن الجيش تصديه للهجوم، واعترف بسقوط إحدى طائراته لكنه لم يتحدث عن إسقاطها بنيران مسلحي أزواد.
وفي منطقة بير (شمال)، اتهمت تنسيقية حركات أزواد الجيش المالي بالهجوم على قواتها، كما ردّ الجيش المالي بتأكيد مقتل 6 من جنوده وجرح 4 في هجوم شنته جماعات “متشددة”؛ أسفر عن مقتل 24 من المهاجمين.
وتبلغ مساحة إقليم أزواد نحو 820 ألف كيلومتر مربع، أو ما يعادل ثلثي مساحة مالي البالغة 1.24 مليون كيلومتر مربع، غير أن الإقليم لا يقطنه سوى نحو 1.3 مليون نسمة، وفقا لآخر تعداد جرى في 2009، وأغلبهم من الطوارق والعرب، ويمثلون نحو 8.7% من سكان البلاد.
ويفصل أزواد عن بقية الأراضي المالية الأكثر خصوبة نهر النيجر، الذي يعد الفاصل الطبيعي بين منطقتين مختلفتين في كثير من الجوانب الثقافية والعرقية واللغوية، وإن كان جميعهم يدينون بالإسلام.
سجل التمرد
ومنذ استقلال مالي عن فرنسا عام 1960، شهدت المنطقة 4 تمردات سعيا للانفصال عن باماكو؛ أولها عام 1963، كما رعت الجزائر 3 اتفاقات للسلام أعوام 1992 و2006 وأخيرا 2015.
ويتمثل الهدف الرئيسي لاتفاق الجزائر 2015 في منع انفصال إقليم أزواد عن مالي، وفي المقابل يسعى لضمان تكفل باماكو بتنمية الإقليم المهمش، وإدماج مسلحيه في قوات الأمن والجيش، وأيضا في المناصب المدنية.
وبعد تمرد 2012، سعت الجزائر لجمع الفرقاء الماليين في حوارات بدأت في 2013 وانتهت بتوقيع اتفاق السلام، الذي لم يُرض كثيرا قادة الجيش، خاصة أنه جاء بعد تعرضهم لسلسلة هزائم عسكرية في 2014.
كما أن الاتفاق لم يلب طموح الطوارق في الاستقلال والانفصال عن باماكو.
كما أن تنفيذ الاتفاق اعتراه بعض التعثر، لاختلاف الطرفين في قراءة مضمونه، خاصة مع الرغبة في تفكيك الحركات المسلحة وإعادة دمج عناصرها في قوات الأمن والجيش، أو تسريحهم ودمجهم في الحياة المدنية، وأن يكون لهم تمثيل في المناصب القيادية.
الجزائر مجددا
وأدى الانقلاب العسكري في مالي عام 2020 إلى تعقيد الوضع أكثر، وهددت تنسيقية أزواد بالانسحاب من اتفاق السلام نظرا لعدم تنفيذ باماكو بنوده طيلة السنوات الماضية، لكن الجزائر تدخلت أكثر من مرة لمنع انهياره.
وفي فبراير/شباط الماضي، استقبل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قادة أزواد، وأكد حينها التزام بلاده بالتطبيق الكامل لاتفاق السلام، وفق ما نقله عنه أمين عام حركة “تحرير أزواد ” بلال أغ شريف الذي حضر اللقاء.
وتبدي الجزائر مؤخرا مرونة في إمكانية تعديل اتفاق السلام بين الطرفين، بالنظر إلى التطورات الجديدة على الأرض.
ورغم إعلان المجلس العسكري في أغسطس/آب 2022 توصله لاتفاق لدمج 26 ألفا من عناصر الحركات الموقعة على اتفاق السلام في الجيش وقوات الأمن، فإن العملية كانت تتم ببطء بسبب الخلاف حول الرتب العسكرية.
كما أن السلطات المؤقتة في مدينة كيدال، القريبة من الحدود الجزائرية، لم تتلق الأموال التي وُعدت بها وفق موقع “ذي كونفرزاشين”، وتركت وحيدة في مواجهة ضربات “الجماعات الإرهابية” بعد رحيل قوات برخان الفرنسية وتاكوبا الأوروبية في 2022.
ميزان القوى
ويرى المجلس العسكري بقيادة العقيد عاصيمي غويتا أن ميزان القوى في إقليم أزواد اختل لصالحه، ويمكنه تحريك قواته شمالا للتمركز في المنطقة وإثبات سيادته الكاملة عليها، حتى لو أدى ذلك إلى انهيار اتفاق السلام مع تنسيقية حركات أزواد.
فالقوات الفرنسية -التي كانت تحول دون دخول الجيش المالي إلى بعض مدن الشمال مثل كيدال وتومبوكتو لتفادي أي احتكاك مع مسلحي الطوارق- رحلت في 2022.
ولم تتمكن القوات الأممية من ملء فراغ رحيل القوات الفرنسية والأوروبية المساندة لها، وأدت ضغوط المجلس العسكري في ما بعد إلى بداية انسحابها من المنطقة.
وعلى الطرف الآخر، لجأ المجلس العسكري إلى الاستعانة بالدعم الروسي، واستفاد من تزويده بطائرات حربية ومروحيات قتالية.
كما قامت الصين بمنح الجيش المالي مدرعات مزودة برشاشات مناسبة لعمليات مكافحة الإرهاب، وهذه الأسلحة عززت ثقة المجلس العسكري في قدراته على تغيير معادلة الصراع في المنطقة، سواء ضد الجماعات الإرهابية أو الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام، أو حتى دول الإيكواس التي تلوح باستخدام القوة ضد انقلابيي النيجر.
وفي 16 سبتمبر/أيلول الجاري، وقع قادة كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو على تحالف ثلاثي للدفاع المشترك عن أي طرف يتعرض لأي تهديد.
ورغم أن الرسالة موجهة ضد فرنسا ودول إيكواس والجماعات الإرهابية، فإنها أيضا موجهة للطوارق الذين لديهم نزعة انفصالية في الدول الثلاث.
ومن المهم في هذا السياق التذكير بأن الحركات المسلحة في أزواد استنزفت في الأشهر الأخيرة في معارك مع تنظيمات مرتبطة بالقاعدة و”الدولة الإسلامية”.
هذا الوضع دفع المجلس العسكري إلى السعي لملء الفراغ والسعي لتركيز سيطرته على الإقليم الشمالي، مستغلا تفوقه الجوي.
غير أنه وبالنظر إلى حروب سابقة، فإن من الصعب على الجيش المالي الانتصار في حرب الصحراء ضد الطوارق والعرب، خاصة إذا لجؤوا إلى حرب العصابات، بالنظر لمعرفتهم الجيدة بالجغرافيا المعقدة للمنطقة، وسهولة أسر الجنود المتوغلين في الصحراء بسبب العطش ونفاد المؤن، أو ببساطة ضياعهم وسط بحر من الرمال متغيرة المعالم.
واندلاع حرب بين قوات المجلس العسكري وحركات أزواد سيخدم بالدرجة الأولى الجماعات الجهادية المنتشرة في شمال البلاد ووسطها، ومن شأن ذلك أن يعيد تمرد الطوارق في النيجر المجاورة وحتى بوركينا فاسو، ويفتح المجال لعودة فرنسا مجددا إلى المنطقة تحت عنوان “حماية الأقليات”، وفق مراقبين.
يذكر أن الطوارق شعب مُسلم من الرحل، ذو أصول أمازيغية، ويستوطن الصحراء الأفريقية الكبرى الممتدة بين ليبيا والجزائر والنيجر ومالي وبوركينا فاسو.