في وقت مبكر من يوم 19 سبتمبر/أيلول الماضي، أعطى رئيس أذربيجان إلهام علييف إشارة البدء لهجوم عسكري خاطف في إطار خطة أُعدت قبل أشهر بهدف إعادة ترسيم الخريطة الجيوسياسية، والثأر لهزيمة مذلة مُني بها والده قبل نحو 30 عاما.
وكثيرا ما تحدث علييف، الذي يتولى السلطة منذ عقدين وخاض حربا ناجحة بالفعل، عن إعادة إقليم ناغورني قره باغ الجبلي إلى السيطرة الكاملة لأذربيجان بعدما انفصل سكانه الذين ينتمون لعرقية الأرمن عن حكم باكو في أوائل تسعينيات القرن الماضي.
بعد شخصي
قرار استعادة الإقليم الانفصالي له بعد شخصي بالنسبة للرئيس علييف، تبلور على مدى أشهر في ظل تغير الواقع الدبلوماسي، وفقما أكد مسؤولان كبيران ومصدر يعمل مع علييف.
ونقلت وكالة رويترز عن أحد المصادر -الذي طلب عدم ذكر اسمه لأنه غير مخول الإدلاء بتعليقات للإعلام- قوله إن الرئيس علييف يكمل شيئا لم يستطع والده فعله لأن الوقت لم يمهله.
أفلت إقليم قره باغ من قبضة أذربيجان في الفوضى التي تلت تفكك الاتحاد السوفياتي. وقُتل زهاء 30 ألف شخص ونزح أكثر من مليون، أكثر من نصفهم من مواطني أذربيجان، خلال حرب امتدت من عام 1988 إلى عام 1994.
وأُجبر حيدر علييف، والد إلهام علييف ورئيس أذربيجان آنذاك، على الموافقة على وقف إطلاق نار رسّخ انتصار أرمينيا.
ولأعوام، تسبب تحالف موسكو ومعاهدتها الدفاعية المبرمة مع أرمينيا، التي تملك فيها روسيا منشآت عسكرية، في ردع باكو عن استخدام القوة حتى مع بيع السلطات الروسية أسلحة لكلا البلدين.
لكن علاقات موسكو مع أرمينيا بدأت في التدهور في 2018 حينما قاد رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان احتجاجات في الشوارع، صعدت به إلى السلطة على حساب عدد كبير من الزعماء الأرمن الموالين لروسيا.
وفي ظل تكثيف حملة جيش أذربيجان تعديل وتحديث صفوفه، لم تلبث أرمينيا أن تقع في أزمة بعد خروجها من أخرى، ومع ملاحظة كون الكراهية متبادلة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وباشينيان الذي رجّح إقامة علاقات مع الغرب، اختبر علييف حساسية الموقف قبل المضي قدما.
ففي 2020، شن حربا استمرت 44 يوما، انتصر فيها جيشه بمساعدة من طائرات مسيرة تركية متقدمة، مما قادهم إلى استعادة جزء من أراضي قره باغ.
وتوسطت السلطات الروسية في وقف لإطلاق النار بدا أنه انتصار لموسكو، مما سمح لها بنشر قرابة ألفي جندي حفظ سلام في قره باغ. وأكسبت الخطوة روسيا حضورا عسكريا في أذربيجان، فيما يبدو أنها تهدئة لأي تحركات عسكرية إضافية من طرف أذربيجان.
لكن حرب روسيا على أوكرانيا والتي انطلقت في فبراير/شباط 2022، غيّرت المعادلة من جديد، إذ انشغلت موسكو بحرب ضروس مع كييف.
استشعار الفرصة
ازداد غليان المشكلة منذ أشهر، وبدا أن علييف استشعر وجود فرصة سانحة مع انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا.
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، بدأ مواطنون من أذربيجان يصفون أنفسهم بأنهم ناشطون بيئيون غير راضين عن عمليات التعدين غير القانونية، بإغلاق ممر لاتشين، وهو الطريق الوحيد الذي يربط قره باغ بأرمينيا.
وقال مسؤولو قره باغ حينئذ إن المحتجين يشكلون غطاء، ويوجد بينهم مسؤولون من أذربيجان. ونفت باكو الاتهام.
ولم تتحرك قوات حفظ السلام الروسية المسلحة، التي بدت أنها تحجم عن المخاطرة بتصعيد الموقف، لفض المحتجين بالقوة.
وفي محاولة في مايو/أيار الماضي لتحريك مفاوضات السلام، قدّم رئيس الوزراء الأرميني ما بدا أنه عرض يمثل انفراجا، وهو أن أرمينيا مستعدة للاعتراف بقره باغ بوصفها جزءا من أذربيجان إذا ضمنت باكو أمن عرقية الأرمن في الإقليم.
وبدا أن علييف اغتنم ما اعتبره اعترافا تأخّر كثيرا بالأمر الواقع كدلالة على ضعف أرمينيا. ووصف المصدر الذي يعمل مع علييف التحول بأنه “مهم للغاية”.
في صباح يوم 19 سبتمبر/أيلول الماضي، استيقظ سكان ستيباناكيرت عاصمة قره باغ، المعروفة باسم خاناكندي في أذربيجان، على دوي نيران المدفعية التي تكررت وسط أجواء ضبابية.
فبدأت ما وصفها علييف بأنها عملية لـ”مكافحة الإرهاب” بقيادة من قوات برية مدعومة بطائرات مسيرة وستار من المدفعية من أجل اجتياح خطوط قره باغ الدفاعية.
وقُتل 5 روس في العنف الذي تلا العملية فيما يبدو أنه حادث اعتذر عنه علييف لبوتين.
وأعلنت باكو الانتصار في غضون 24 ساعة، ووافق مقاتلو قره باغ الأرمن على وقف إطلاق نار ألزمهم بتسليم أسلحتهم. وقال أرمن قره باغ إنهم شعروا بالخيانة من جميع الأطراف.
وذكر ديفيد بابايان، مستشار لزعيم حكومة قره باغ، لرويترز بعد يوم من العملية شاكيا “تُركت قره باغ بمفردها، لم توفّ قوات حفظ السلام الروسية عمليا بالتزاماتها، تخلى عنا الغرب الديمقراطي، وغضت أرمينيا أيضا طرفها عنا”.
ظروف مواتية
وقال سفير أذربيجان لدى بريطانيا إلين سليمانوف لوكالة رويترز إن مجموعة من العوامل أقنعت علييف (61 عاما) بأن الوقت بات مناسبا.
وأوضح سليمانوف “يسلك التاريخ منعطفات ومنحنيات”، وأردف “لم يكن بوسعنا فعل هذا سابقا، وربما لن تكون فكرة سديدة أن نفعل ذلك لاحقا”.
وأضاف سليمانوف الذي عمل سابقا في مكتب علييف، “صارت الظروف مواتية لأسباب معينة واغتنم الرئيس علييف الفرصة”.
ومن بين هذه “الظروف” البارزة عدم قدرة روسيا أو الغرب أو أرمينيا على التدخل لحماية ناغورني قره باغ، أو عدم استعدادهم للقيام بذلك في الأساس.
وذكرت أذربيجان أن إقليم قره باغ الذي كان يتمتع بالحكم الذاتي كان لديه 10 آلاف مقاتل تحت تصرفه، لكن جيش أذربيجان -الذي يقدر خبراء غربيون قوامه بأكثر من 120 ألف جندي- بدا كالعملاق مقارنة بمقاتلي الإقليم.
وقال علييف متحدثا إلى شعب أذربيجان بعد يوم من تنفيذ العملية العسكرية إنه أمر جنوده بعدم إيذاء المدنيين. وقالت باكو لاحقا إن 192 من جنودها قُتلوا خلال العملية. وقال أرمن قره باغ إنهم فقدوا أكثر من 200 شخص.
وتنحت روسيا، التي تملك قوات حفظ سلام على الأرض لكنها منشغلة بحربها مع أوكرانيا، جانبا خلال العملية.
وقال حكمت حاجييف مستشار السياسة الخارجية لعلييف إن أذربيجان أرسلت إلى الروس “إخطارا قبل دقائق” من بدء العملية.
ولم يستجب رئيس وزراء أرمينيا، التي خاضت حربين كبيرين بسبب قره باغ، لدعوات السياسيين المعارضين للتدخل، وقال إن بلاده بحاجة إلى أن تكون “خالية من الصراع” من أجل استقلالها.
واكتفى الغرب، الذي حاول التوسط سابقا، بدعوة علييف إلى إيقاف العملية، لكنها دعوة وصلت إلى أذان صماء.
بعد 4 أيام من العملية، بدأ بعض أرمن قره باغ البالغ عددهم 120 ألف نسمة نزوحا جماعيا بالسيارات صوب أرمينيا، قائلين إنهم يخشون الاضطهاد والتطهير العرقي، رغم تعهد أذربيجان بضمان سلامتهم. وقالت سلطات يريفان إن 98 ألف شخص فروا إلى أرمينيا بعد 10 أيام من هجوم أذربيجان.
وبالنسبة لأذربيجان، تمهد استعادة قره باغ الطريق أمام عودة عشرات الآلاف من مواطني أذربيجان الذين فروا سابقا، وهي عودة تعهد بها حيدر علييف مرارا وتكرارا.
وقال سليمانوف سفير أذربيجان لدى بريطانيا “وفّى الرئيس (إلهام) علييف بتعهد والده”.