“لقد تلقيت دعوة إلهية للقيام بعمل الله”، تلك الجملة الأهم التي بحث فيها المؤرخون وكتاب السير الذين شغلتهم فلورنس نايتينجيل رغم مرور عقدين على وفاتها، كانت تلك الجملة تزين مذكرات سيدة المصباح وذكرتها في كتابها “اقتراحات في الفكر”، وكررتها لمن زاروها في غرفتها التي استقبلت جسدها الملقى منذ بلوغها الثلاثين ولم تغادرها بسبب العجز والمرض، في مراهقتها وكما حددت هي في فبراير 1837 رأت ما يشبه الهاتف ان عليها دور في خدمة الخير والإنسانية واعمال الله في الأرض، لم تكن الفتاة ذات ال 16 عاما تدرك ماهية هذا الهاتف في قلبها، وما الطريق الذي سوف تسلك لتلبية هذا الهاتف، ربما أتى هذا الصوت في ظل جحيم من الأفكار يطاردها دائما عن حقيقة الافكار السائدة في مجتمعها، كانت منذ نعومة اظافرها في نزاع متواصل مع أفكار المجتمع خاصة الأفكار نحو المرأة التي كانت في قرون اوروبا الوسطى تتصدر متابعة اعمال المنزل وخدمة الرجل والأطفال وتمنع تماما من أي منصب اجتماعي وتقذف بالعار ان خرجت من المنزل، بحد وصف نايتينجيل عن نفسها انها كانت تمتلك طاقة مهنية طاحنة ورغبة عميقة في تغيير العالم، دائما ما كانت تشعر بالقيود والاضطهاد بسبب الأعراف الاجتماعية آن ذاك ناهيك عن التمييز الجنسي خاصة عند دخولها مجال التمريض ورفض الأطباء قيادتها عمل الممرضات المدربات والمتعلمات على يدها فقط لانها “امرأة”، أسرتها الارستقراطية رفضت بالأساس دخولها مجال التمريض ومنعتها نظرا للعار الذي سيلحقهم لارتياد فتاة في وضعها المرموق هذه المهنة “المحقرة” في اعراف المجتمع وقتها، تحدثت فلورنس عن مأزق النساء الفيكتوريات من الطبقة الوسطى وانتصرت في خضم معركتها الفكرية في نقل المرأة من المنزل الى عالم الفكر والثقافة والعمل والانجاز، واكتسبت مكانتها كبطل قومي بعد انقاذ أرواح آلاف من الجنود البرطانيين في حرب القرم ضد روسيا، عززت تلك المكانة اعمال فلورنس في بلوغ المرأة ومهنة التمريض ما تستحقه في واقعها الذي تعيش وأسست اول مدرسة للتمريض قائمة حتى الان في مستشفى سانت توماس عام 1860. أرّخ فليدينج جاريسون Fielding Garriso المؤرخ الطبي الأهم أن النصف الأخير من القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر هو “العصر المظلم للتمريض”، وجاءت فلورنس “المريضة” لتداوي المرضى والتمريض.
“لا يوجد جزء من حياتي يمكنني ان انظر اليه من دون ألم”، هذا هو وصف فلورنس نايتينجيل لآلام مرضها الذي لم يغادر جسدها، يأكل الفيبروميالجيا والإم إي طاقتها ويعاند خروجها من المنزل وهي التي كانت أنشط من جال إنجلترا وألمانيا وفرنسا من أجل جمع العلم، وكانت آخر من غادرت حدود القسطنطينية في بعثة جيش بلادها في حرب القرم، وأول من حطت بأرض الشرق قادمة من أوروبا في رحلة البحث عن كنوز حكمة “الروحانية والتمريض” باختيارها اليونان ومصر لذلك، بمجرد ان بلغت الثلاثين توقف جسدها النحيل عن المواصلة والقدرة على الحركة، فيما أخذت تعمل بإخلاص اكثر من وجه اخر من أجل احراج البشرية التي ظنتها “معاقة بلا أمل”، وظلت تقدم ما لم يقدمه الصحيح والمعافى، في غرفتها التي يستلقي بها جسدها المنهك ب south street بلندن حضر الرسام من اجل رسم “لوحة فلورنس”، كان قد سبق ورسمها ويليام وايت في لوحته الشهيرة مع بارثينوب اختها الكاتبة والاديبة المعروفة آن ذاك، وجد نظرة من الألم الشديد مكتومة على ملامحها، أسرّت له ان الجزء الرئيسي من المعاناة من مرض طويل الأمد هو الاجهاد الذهني لشخص وراء قضبان، ليس لديه تنوع ولا تسلية ولا اشباع او تغيير من أي نوع، كانت سيدة المصباح ترفض تماما ان يلتقط لها أحدا صورا او يرسمها، ووافقت على مضض رغما عنها، لقد كانت توفر طاقتها المحدودة من اجل استقبال أعضاء من الحكومة او من أصحاب القرار والنفوذ والمال وتنويريي عصر فيكتوريا البريطاني، وذلك من اجل متابعة العمل والمنجز والمشروع الفكري المأمول. “ليتون ستراشي” الناقد والرسام والأديب المجدد في كتابة السير الذاتية وصفها في كتابه عند زيارتها بأنها كانت المراة المنهكة المستلقية على أريكة غرفة علوية صغيرة، الأنثى التي جمعت بين الحيوية الشديدة لامرأة مسيطرة في العالم والبريق الرومانسي الغامض لأسطورة.
ناقش كتاب السير والمؤرخون والأطباء مرض فلورنس الغامض، لم تحدث امرأة هذا الجدل على مدار حياتها وبعد قرون من وفاتها كما أحدثت سيدة المصباح، ولم تكن هناك ملهمة ولا محركة لإحداث الأثر في تاريخ بريطانيا كما كانت فلورنس، علاقتها بالشعراء والادباء وبسياسيي بريطانيا في عصر الملكة فيكتوريا كانت محركا لإحداث الأثر الاجتماعي التحرري الذي كان يصاغ على شكل أفكار وقوانين وتشريعات تحركها فلورنس وتلهم بها، كان لها فضل في تأسيس الصليب الأحمر بعد ان ألهمت به هينري دونان Henry Dunant ودفعته من اجل انشاء الصليب الأحمر البريطاني عام 1870، حاز هينرى في اعقاب ذلك على جائزة نوبل للسلام عن تلك الجهود الإنسانية، تغيرت سياسة بريطانيا تجاه الهند بعد مجاعة 1877 المعروفة وكانت ملهمة للسياسيين من اجل احداث الفارق ” الإنساني” في السياسة نحو الهند.
لك أن تتصور حجم الجحيم والمعاناة مع عدم وجود العلاجات الحديثة التي لم يتم إقرارها الا في السنوات الأخيرة من القرن الواحد وعشرين بل ويجهلها حتى الان كثير من الأطباء والممارسين وأغلب النظم الصحية، بالكاد تؤهل تلك البروتوكولات المرضى بشكل ما وتمنحهم فرصا للاستمرار والتعايش، لم تكن مثبطات استرجاع السيرتونين والنورابينفرين الانتقائية قد اخترعت ولا مضادات الاختلاج ولا عقاقير المعدلات العصبية، لم تكن الخريطة الجينية قد اكتشفت ولا علم ما فوق الجينات الذي مازلنا -منذ العقد الثاني للقرن الواحد وعشرين فقط- نطور علاجات منبثقة من تلك الخرائط فيما يشبه المعجزة حرمت منها فلورنس نايتينجيل ومنحت الامل لآلاف المرضى. لم يتم الاحتفال والتعريف باليوم العالمي لتلك المتلازمات الا بعد العام 1992 واعتمدت منظمة الغذاء والدواء أول علاج متعلق بتلك الحالات في العام 2007 فقط.
تحمل مئات من مراكز الابحاث المتخصصة في تلك المتلازمات في أوروبا والولايات المتحدة اسم “مركز نايينجيل” للأبحاث، وتحمل العديد من جوائز البحث العلمي لمتلازمات “الإم إي” و”الفيبروميالجيا” اسم جائزة نايتينجيل، “ان الاعاقة لا تعني نهاية الحياة المفيدة…لقد اطلقنا اسم نايتينجيل على مؤسستنا لأن العديد من المصابين يمثلون شجاعة وتفاني فلورنس نايتينجيل ويستمرون في عيش حياتهم في ظل اعاقة عظيمة”، كان هذا نص دكتور بايرونهايد مدير مؤسسة نايتينجيل لأبحاث متلازمة الإم إي الكندية، وفي قرءة مغايرة لامتدادات نايتينجيل فان آلاف المرضى والباحثين اجتمعوا حقيقة حول مصباح فلورنس نايتينجيل الذي اضاء حياة ملايين من المرضى منذ ان كانت تحمله منذ مئتي عام.
على طريق قصر لامبث، على الضفة الجنوبية لنهر التايمز وبالقرب من قصر وستمنستر يقف تمثال فلورنس نايتينجيل شامخا متحديا ضباب لندن، ويقف متحف فلورنس نايتينجيل متحديا الرفض والتنمر والتهميش الذي يعانيه اغلب هؤلاء المرضى، ربما هو المتحف الأول حول العالم لمريضة وملهمة وريادية، يحوي متحف فلورنس نايتينجيل على اكثر من 3000 قطعة اثرية وينافس المكتبة الملكية البريطانية في عدد المخطوطات التي كتبتها بخط يدها، تمتلك المكتبة الملكية البريطانية مئات الرسائل التي كتبتها نايتينجيل ومئات الرسائل التراثية الأخرى التي كتبت عن تلك المريضة الملهمة. للمصابين حول العالم ان يفخروا ان لمريضتهم متحف يذكّر العالم بمعاناتهم وبقدراتهم، يصدح للدنيا بمواهبهم وباختلافهم الذي بصمهم بسمات و”باستثناء” قد لا يتكرر كثيرا في العقل والوجدان والشعور، ربما قصدت فلورنس التمريض بشكل مباشر حين قالت ان الممرضة ومقدم الرعاية الصحية يجب ان يتحلى بالقوة كي يتحمل كل شيء، وان يتحلى باللطف كي يتحمل أي شخص، الا ان هذا قد ينسحب أيضا على كافة مرضى الفيبروميالجيا ومتلازمة الإم إي من اجل إيصال قضيتهم ومعاناتهم وقدراتهم، ومن اجل إيصال “وميض الفيبروميالجيا” الذي له ان يغير ويلهم العالم كما فعل “وميض مصباح” فلورنس نايتينجيل.