تكتسب فكرة ملاحقة إسرائيل في المحاكم الدولية اهتماما متزايدا في الأوساط الحقوقية الدولية. يأتي ذلك في ظل ارتفاع الخسائر البشرية التي نتجت عن قصف قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، أسفر حتى الآن عن استشهاد أكثر من 15 ألف مدني، وهو ما تعتبره منظمات حقوقية جرائم حرب وقتل ممنهج ضد السكان.
محكمة الجنايات الدولية
سجلت الأسابيع الماضية تحركات قانونية في أكثر من بلد بهدف ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين. كان آخرها الشكوى التي قدمتها دول جنوب أفريقيا، وبوليفيا، وبنغلاديش، وجيبوتي، وجزر القمر إلى محكمة الجنايات الدولية في 17 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي. إلا أن الأمل في تحركٍ جادٍ من قبل محكمة الجنايات الدولية وقدرتها على ملاحقة قادة الاحتلال يبقى موضع شك في ظل خضوع الآليات الجنائية للحسابات السياسية للدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة الأميركية.
فبالرغم من العدد الكبير من الشكاوى التي قدمتها دول ومنظمات حقوقية، فإن الإرادة السياسية الدولية لاتزال العنصر الأهم في تفعيل آليات المحكمة، وترجمتها كإجراءات عملية، خاصةً فيما يتعلق بجرائم الحرب الإسرائيلية التي لم تتوقف بحق الفلسطينيين منذ عقود.
تتسم آليات عمل محكمة الجنايات الدولية بالتعقيد مما يقلل من فاعلية جهود الملاحقة. وبحسب الدكتور محمد الموسى، الخبير في القانون الدولي، فإن محكمة الجنايات الدولية تعمل وفقا لمبدأ التكامل، أي إنها لا تتدخل إلا إن كانت الدول المعنية غير قادرة، ولا راغبة في ملاحقة المتورطين في ارتكاب جرائم حرب تدخل في اختصاص الجنائية الدولية، وهي جرائم الحرب أو جرائم الإبادة الجماعية والعدوان. ويبدي الدكتور الموسى قلقه من احتمالية أن ترى الجنائية الدولية في كون النظام القضائي الإسرائيلي مؤهلا للقيام بمثل هذه الآليات. من جانبٍ مختلف، فإن عدم توقيع إسرائيل على ميثاق روما يمثل هو الآخر عائقا في جانبٍ ما، رغم إمكانية تجاوز هذا العائق في حال إثبات الجرائم الواقعة ضمن إقليم دولة عضو في المحكمة، وهي في هذه الحالة فلسطين.
مع ذلك لا تبدو محكمة الجنايات الدولية الآلية الوحيدة لملاحقة مجرمي الحرب، إذ يؤكد الدكتور الموسى أن الآليات الجنائية الدولية تتيح عدة مسارات من أجل ملاحقة مجرمي الحرب. ويضيف بأن الولاية القضائية قد تتيح محاكمة مجرمي الحرب في بعض المحاكم الوطنية، التي منحتها قوانين بلادها اختصاصا قضائيا عالميا على الجرائم الدولية، أو التي يمكن تصنيفها كجرائم حرب.
الملاحقة عبر الآليات الجنائية الوطنية
تمثل المحاكم الوطنية ذات الاختصاص الجنائي الدولي مدخلا هاما لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين. فالنظام القانوني في معظم الدول الأوروبية على سبيل المثال يتيح مثل هذا الاختصاص. ويبدو هذا الخيار اليوم أكثر فاعلية، بسبب سهولة تطبيقه وعدم حاجته إلى الكثير من التعقيدات الإجرائية والبروتوكولية القائمة في المحاكم الدولية. إضافةً لكونه يخضع للمظلة القانونية الوطنية. وقد شهدت السنوات القليلة الماضية نماذج في أوروبا، حيث تمّت محاكمة بعض المتهمين بالتورط في جرائم حرب في سوريا، إذ حكمت محكمة ألمانية في وقت سابق من هذا العام شخصا مدى الحياة بعد إدانته بالانتماء إلى مليشيا تابعة لنظام الأسد في سوريا.
كما أن عددا من القادة الإسرائيليين واجهوا تحديات خلال تجولهم في بعض الدول الأوروبية بعد قيام نشطاء بالتقدم بشكوى ضدهم في البلدان التي يزورونها. ففي عام 2009، اضطرت وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة، تسيبي ليفني، لإلغاء زيارتها المقررة إلى لندن بعد إصدار قاضٍ بريطاني مذكرة توقيف بحقها إثر شكوى بسبب دورها في جرائم حرب محتملة في غزة خلال حرب 2008. وتكرر هذا الأمر لاحقا بحق ليفني في 2016، إلا أن تدخل الحكومة البريطانية حال دون إلقاء القبض عليها في المرتين. وفي 2005 اضطر جنرال إسرائيلي للعودة إلى إسرائيل بعد بقائه عدة ساعات على متن الطائرة في مطار هيثرو خوفا من اعتقاله. كما تكرر إصدار مذكرات توقيف بحق مجرمي حرب إسرائيليين محتملين في أكثر من بلد أوروبي مثل بلجيكا وإسبانيا.
ويشير الدكتور الموسى إلى أهمية الاختصاص الجنائي الشخصي للمحاكم الوطنية، ويراها من أكثر الخطوات العملية فاعليةً من وجهة نظره. ورغم أن التحرك القضائي الوحيد في ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين كان عبر المحاكم الوطنية، ففي كل مرة كانت السياسة السبب الرئيسي في إفلاتهم من العقاب.
محكمة دولية خاصة
تعتبر المحاكم الدولية الخاصة تطورا هاما في الآليات الجنائية الدولية المعاصرة. وقد فتحت محاكمات نورمبرغ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية الباب لمثل هذا النوع من المحاسبة. وتسجل المحاكم الدولية الخاصة تجارب ناجحة في الملفات التي استهدفتها لملاحقة جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية، مثل محكمة يوغسلافيا (1993)، ومحكمة رواندا (1994)، ومحكمة كمبوديا (2003)، ومحكمة لبنان (2005).
وتشير منشورات اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أن المحاكم الدولية الخاصة هي آليات محاسبة مكمّلة لمحكمة الجنايات الدولية، ويمكن أن تنعقد في إطار وطني أو دولي. وقد طرح الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي تشكيل محكمة خاصة خلال القمة العربية الإسلامية المنعقدة في الرياض في وقت سابق من هذا الشهر. ويشير الدكتور محمد الموسى إلى أن فكرة تشكيل محكمة دولية خاصة في إطار منظمة التعاون الإسلامي أو في إطار الجمعية العامة للأمم المتحدة أمر ممكن قانونيا، وخطوة عملية وواقعية لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، خاصةً في ظل الاحتمال شبه المؤكد من الفيتو الأميركي في حال التوجه إلى مجلس الأمن من أجل هذا الغرض.
في هذا السياق، فإن المحاكم الدولية الأربعة الآنفة الذكر قد تشكلت في إطار الأمم المتحدة، 3 منها بقرار من مجلس الأمن الدولي، فيما تشكلت محكمة كمبوديا باتفاقية بين كمبوديا والجمعية العامة للأمم المتحدة.
في هذا الصدد، يقول خالد الشولي، المحامي المختص في القانون الجنائي الدولي، إن تشكيل محكمة جنايات دولية خاصة قد لا يحظى باتفاق دولي، وهو ما سيقلل من فاعليتها، مشيرا إلى أن تشكيل هذه المحاكم يعود إلى اختصاص مجلس الأمن الذي سيعطل مثل هذه الجهود بحكم الفيتو الأميركي الجاهز.
لجان التحقيق أو تقصي الحقائق الدولية
تعتبر لجان تقصي الحقائق آلية مهمة في تعزيز المساءلة، وخطوة لا غنى عنها لملاحقة مجرمي الحرب. حيث يمكن استخدام نتائج هذه اللجان وتوصياتها في توفير المعلومات والأدلة والشهود أمام القضاء الدولي. وتأتي أهمية هذه اللجان من توفر آليات إنشائها وسرعة تشكلها. ويمكن لمجلس الأمن أو الجمعية العامة أو الأمين العام للأمم المتحدة، أو مجلس حقوق الإنسان أو المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة أن يطلب إنشاء لجنة تقصي حقائق دولية. كما يمكن تشكيل لجان تقصي حقائق في إطار دولي خارج الأمم المتحدة.
ومن أمثلة ذلك، لجنة الأمم المتحدة المستقلة للتحقيق بشأن النزاع في غزة عام 2014 التي تشكلت بقرار من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف. وعادة ما يكون تشكيل هذه اللجان منفصلا عن الآليات القضائية المحتملة، إلا أن نتائجها تحمل أهمية خاصة في توفير سجل تاريخي وتحقيقات مستقلة من شأنها خدمة الآليات القضائية في حال توافرها.
تستعين لجان التحقيق الدولية التي تتشكل عادة بعد انتهاء النزاع المسلح بجهود المنظمات غير الحكومية التي واكبت النزاع ووثقت الانتهاكات. فعلى سبيل المثال طلبت لجنة الأمم المتحدة المستقلة بشأن النزاع في غزة عام 2014 من منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية، خاصة تلك التي لها صفة استشارية في الأمم المتحدة، التعاون في تقديم مساهماتها وتقاريرها حول الانتهاكات التي حدثت خلال حرب 2014. وهنا تكمن أهمية الدور المنوط بالمنظمات الحقوقية خلال فترة الحرب، حيث يمثل توثيق الانتهاكات واحدة من أهم الخطوات العملية في الملاحقة القضائية لمجرمي الحرب الإسرائيليين. وفي هذا الصدد يشير المحامي الدولي، خالد الشولي، إلى أن مسألة توثيق الانتهاكات وجمع الشهادات وحماية الشهود هي خطوات مهمة وأساسية في طريق ملاحقة إسرائيل، وغالبا ما تقوم بهذه المهام منظمات حقوقية مدنية وغير حكومية، وطالب الشولي بأهمية دعمها حتى تتمكن من القيام بعملها على أكمل وجه.
سبل أخرى لملاحقة إسرائيل
لا تقتصر طرق الملاحقة القضائية على المسارات السابقة فقط، إذ يمكن اللجوء إلى محكمة العدل الدولية في حالات محددة. وفي هذا الصدد يشير خالد الشولي إلى أن اختصاص محكمة العدل الدولية يمكن أن يدخل في الجرائم المرتكبة في فلسطين في حال إثبات أن الجرائم الواقعة هي أفعال ترقى إلى أن تكون جرائم إبادة جماعية، وذلك بتفعيل المادة التاسعة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، حيث إن إسرائيل صادقت على الاتفاقية دون التحفظ على أي من موادها. ويتابع الشولي أن مثل هذه الخطوة ستحتاج إجراءات تقوم بها دولة مصادقة على الاتفاقية وغير متحفظة على المادة التاسعة. ومن الجدير ذكره أن هذا الإجراء الأخير هو اختصاص قضائي دولي يتم بين أطراف دولية حصرا.
ويشير المحامي الشولي إلى وجود إجراءات عملية أخرى في إطار ملاحقة إسرائيل ترتكز إلى القواعد العامة من أجل حفظ السلم الدولي عبر الأمم المتحدة، خاصة ما يتعلق بقرار الاتحاد من أجل السلام الصادر عن الجمعية العامة عام 1950، والذي يتيح تدخل الجمعية العامة في حال عجز مجلس الأمن عن القيام بدوره في حفظ الأمن والسلم الدوليين. حيث يؤكد الشولي أن اللجوء المتكرر إلى مجلس الأمن والجمعية العامة يحمل أهمية كبيرة، إذ إنه يحفز تفعيل هذه القواعد والإجراءات خلال فترات النزاع المسلح والعدوان.
قد لا تقتصر ملاحقة إسرائيل على الجرائم المرتكبة في قطاع غزة على المستوى الجنائي. فاحترام المبادئ القانونية الدولية، وعدم انتهاك حقوق الإنسان معايير جوهرية في الاتفاقات الاقتصادية التجارية الدولية. وحول هذه النقطة يؤكد المحامي الشولي أن ملاحقة إسرائيل ممكنة من خلال تعقب الاتفاقيات التجارية الثنائية أو الجماعية التي تكون دولة الاحتلال عضوا فيها. ويلفت إلى أن مثل هذه الاتفاقيات تتضمن في الغالب آليات للمحاسبة في حال عدم احترام الأطراف لقواعد حقوق الإنسان. ويتابع الشولي أن مثل هذا التحرك ليس فقط مهما في جانب الملاحقة، وإنما في تسليط الضوء على حقوق الشعب الفلسطيني، وتشجيع الأطراف الدولية على وضع حد للتعاون مع الاحتلال. وطرح الشولي اتفاقية الشراكة والتعاون بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي كمثال غير حصري على تلك الاتفاقيات.
حتى اليوم لاتزال جهود ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين تواجه تحديات كبيرة واسثنائية، قد لا تواجهها أي ملاحقات أخرى من هذا القبيل، بسبب الحماية الغربية التي تمتلك سجلا طويلا في حماية إسرائيل وإفلات مجرميها من العقاب.
وتمثل لجان التحقيق الدولية، واحتمالية الملاحقة عبر القضاء الوطني المتوافر في عدد كبير من دول العالم، الإجراءات الأكثر عملية في الوقت الراهن من أجل ملاحقة المجرمين الإسرائيليين. حيث لا يزال الانحياز السياسي من قبل الدول الغربية يمثل أهم عائق أمام تحقيق العدالة عبر تعطيل الآليات الجنائية الدولية المتمثلة بمحكمة الجنايات الدولية عندما يتعلق الأمر بمجرمي الحرب الإسرائيليين.
كما إن الإمكانية العملية لإنشاء محكمة دولية خاصة خارج ولاية مجلس الأمن الدولي لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، قد يمثل هو الآخر احتمالا عمليا في حال توافر الإرادة السياسية وتفعليها من قبل الدول الإسلامية على وجه التحديد.
وإلى أن يتم توافر آلية جنائية عادلة وممكنة، تبقى الجهود الحقوقية غير الحكومية المتعلقة بجمع الأدلة وتوثيقها الخطوة التي لا يمكن الاستغناء عنها في هذه المرحلة.