لا يتوقف عدّاد الشهداء والمصابين في قطاع غزة عن الارتفاع منذ بدء العدوان الإسرائيلي، حتى اعتاد الناس على سماع أرقام الشهداء بالعشرات أو المئات، وقد يصبح وقع القتل والتدمير والقصف باردا مثل غرف العمليات نتيجة اعتياد فعل المشرط في جسد المريض.
لكن الأمر يصبح غير عادي عندما يصرخ هؤلاء المصابون بآهات الألم معلنين أنهم ليسوا مجرد أرقام أو مجرد خبر عاجل تتسابق إليه الفضائيات، وتصبح أنّاتهم سياطا تلهب الأحاسيس الحية والفطرة السليمة التي تتحسر على عائلات بأكملها دفنت تحت ركام بيوتها، أو دمار أحياء وإحالتها إلى كومة من المخلفات، أو فقدان أولاد وأحفاد بين غمضة عين وانتباهتها.
العم أحمد صوت واحد تتجسد فيه كل أصوات المأساة بوجعها وجرحها النازف، وترسم كلماته معالم الكارثة التي ضربت جنبات القطاع من الحد إلى الحد، ويمثل انتقاله من حي إلى آخر -نجاة بالنفس والولد والأحفاد- مثالا واقعيا ينطبق على كل من يعيشون في هذه البقعة الجغرافية.
3 صواريخ
العم أحمد من منطقة الدرج (وسط مدينة غزة) يعمل مقاولا، ويمتلك بيتا تبلغ مساحته 500 متر، مقسما إلى 5 شقق، وضع فيه -إلى جانب أولاده وأحفاده- مدخرات الجهد والعرق وذكريات العمر، ولكنه فقد كل ذلك في القصف الإسرائيلي على القطاع وتركه حائرا بين “معاناة الجسد ومعاناة الفكر على ما حدث”، حسب تعبيره.
العم أحمد يحكي عن هول الضربة الأولى التي تلقاها بيته، فيقول “سمعت أنين طفل صغير بجواري، والظلام حالك لا أرى شيئا، وإذا بجزء من الجدار سقط على حفيدي الذي لا يتجاوز عاما واحدا و8 أشهر، وأزلت 5 دبشات (حجارة) تعتلي صدره الضعيف، وأبرقت عينه في الظلام خالعة قلبي، ورفعته لابنتي”.
لم تكن هذه إلا البداية، فنيران الصاروخ الأول لم تبتعد عن العم أحمد غير متر أو أكثر بقليل، فأوقعته في حفرة أحدثها القصف، وقبل أن يخرج منها باغته الصاروخ الثاني الذي حوّل كل من في المكان إلى ما يشبه “الكفتة”، حسب وصفه.
العم أحمد حاول الخروج من البيت، لكن آثار القصف غيّرت الملامح التي تعوّد عليها، وعندما حاول النجاة بنفسه وبحياة أولاده جاءهم الصاروخ الثالث، فهدم الدرج وما تبقى من البيت، ولم يجد طريقا للخروج إلا من شباك بعيد بمعاونة الشباب في الخارج، لكن بعد أن مزق الحديد الناتئ أطرافه وهو يسحب نفسه فوق الركام.
العم أحمد فقد 11 فردا من عائلته دفعة واحدة من أولاده وأحفاده بعد قصفهم بـ3 صواريخ إسرائيلية
4 عمليات جراحية
يفيق العم أحمد من هول ما حدث، لكنه لا يستطيع التنفس، كأن الروح تهم بمفارقته، ويجاهد متمسكا بأمل أخير للنجاة، وينتقل سريعا بسيارة الإسعاف إلى مستشفى خان يونس، وهناك وجد الأطباء كميات كبيرة من الدم المتجلط في رئتيه ويجب إجراء عملية جراحية سريعة لإنقاذ حياته، والعملية الواحدة أصبحت 4 عمليات حتى يتمكن من التنفس واستعادة بعض وعيه.
العم أحمد أجرى العمليات كلها من دون مخدر الذي تحول إلى رفاهية غير متاحة في مستشفيات قطاع غزة، ليس المخدر وحده الذي عز وجوده في القطاع، فلا خبز ولا ماء للشرب ولا كهرباء ولا وقود، وفوق هذا كله لا مكان آمنا هناك.
العم أحمد يبدأ التقاط أنفاسه قليلا، ويستعلم ممن حوله عن أفراد أسرته، وهنا ينفتح جرح جديد غائر لن يندمل أبدا، ولن تتوقف روحه عن النزف مهما التأمت جروح جسده، لقد فقد 11 فردا من عائلته دفعة واحدة من أولاده وأحفاده بعد قصفهم بـ3 صواريخ إسرائيلية.
رحلة العلاج
عائلة العم أحمد تم تهجيرها قسرا في بداية العدوان من شمال القطاع إلى خان يونس ثم إلى رفح، وكان هذا آخر تجمّع لأفراد العائلة وآخر عهده بمن بقي حيا منهم، فمنذ دمار البيت الذي تجمعت فيه العائلة لم يتوقف العم أحمد عن التنقل، فقد خرج من القطاع إلى مستشفى بالعريش المصرية، وهناك أجرى جراحات عدة، ثم انتقل بعدها للعلاج في العاصمة القطرية الدوحة ضمن العديد من مصابي قطاع غزة الذين استقبلتهم قطر لاستكمال علاجهم.
وفي المستشفى الذي يعالج فيه بالدوحة كان العم أحمد يجاهد النفس والروح والدمع ويظهر بعضا من تماسكه أمام كاميرا الجزيرة نت، لكن جهاده هذا ينهار وتسبقه دموعه الحارة لمرارة ما مر به على نفسه، ونتيجة أحاسيس الاغتراب والفقد والقهر بعد كل ما مرت به أسرته التي لا يدري عنها شيئا حاليا إلا عبر نشرات الأخبار.
لقد نقل العم أحمد صورة عن الأيام التي قضاها في مستشفى خان يونس، ذلك المشفى الكبير الذي تحول إلى مأوى لأكثر من 70 ألف شخص داخله، وأكثر من 50 ألفا ضربوا خياما حوله ظنا منهم أن المستشفيات في مأمن من القصف الإسرائيلي، لكن جيش الاحتلال لم يترك محرما في هذا العدوان.