ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال عن أدب المسلم مع غيره عند الإنكار في المسائل المختلف فيها.
وقالت دار الإفتاء، إن الخلاف المعتبر: هو الخلاف الذي له حظ من النظر؛ أي: من الدليل، فلا يلتفت إلى قول في مسألة ليس عليه دليل أو عليه دليل ليس بقوي؛ ونظمها بعضهم بقوله:
وليس كل خلاف جاء معتبرا … إلا خلاف له حظ من النظر.
ولذلك وضع العلماء لجعل الخلاف مُعتبرًا شروطًا؛ لأن الخلاف إن كان مـما يندرج تحت هذه الشروط، اعتُبر وصح القول بمراعاته.
وهذه الشروط هي:
الشرط الأول: أن يكون الخلاف قوي الـمُدْرَك؛ والـمدرك: مكان الإدراك وهو الدليل؛ لأن الدليل محلّ إدراك الحكم، فالسنة مُدْرَك من مدارك الشرع وهي مواضع طلب الأحكام. انظر: “حاشية العطار على شرح الـمحلي لجمع الجوامع” (2/ 250، ط. دار الكتب العلمية)، و”الـمصباح المنير” (1/ 192-193، ط. المكتبة العلمية).
الشرط الثاني: ألَّا يؤدي الخلاف إلى مخالفة سنة ثابتة.
الشرط الثالث: ألَّا يؤدي الخلاف إلى خرق الإجماع.
الشرط الرابع: أن يكون الجمع بين المذاهب ممكنًا.
الشرط الخامس: ألَّا يوقع الخلاف في خلاف آخر.
الخلاف في الفروع
ووقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وهم خير الأمة، وكذلك مَنْ بعدهم مِنْ أئمة التابعين والعلماء، فما خاصم أحد منهم أحدًا، ولا عادى أحدٌ أحدًا، ولا نسب أحدٌ أحدًا إلى خطأ ولا قصور.
وقال الإمام الذهبي -بعد ذكره مسألة خلافية بينه وبين ابن منده-: [ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفورًا له قمنا عليه، وبدَّعناه، وهجرناه، لـما سَلِم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده، ولا مَن هو أكبر منهما والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة] اهـ. ينظر: “سير أعلام النبلاء” (14/ 40، ط. مؤسسة الرسالة).
وتابعت دار الإفتاء: فترى أن الأئمة العلماء نظروا إلى الاختلاف على أنه توسعة من الله ورحمة منه بعباده المكلفين غير القادرين بأنفسهم على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها.
وقد أحبَّ العلماء السعة في التشريع؛ وذلك لإدراكهم أن السعة مقترنة باليسر وهما مقترنان بالرحمة، واليسر مقصد أساسي من مقاصد الشريعة الإسلامية. ينظر: “أدب الاختلاف” (ص: 36، ط. دار قرطبة).
ومن العجب أيضًا مَن يأخذ في تفضيل بعض المذاهب على بعض، تفضيلًا يؤدي إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه، وربـما أدَّى إلى الخصام بين السفهاء، وصارت عصبية وحمية الجاهلية، والعلماء منزهون عن ذلك] اهـ.
وإقرار فكرة التوسعة بتعدد الآراء والاجتهادات من قِبَل الأئمة سلفًا وخلفًا، أمر لا يحتاج إلى دليل ولا برهان، فلسان حالـهم أصرح من مقالـهم، ومن ذلك: ما قام به الإمام عمر بن عبد العزيز إزاء تيار توحيد المذاهب وحمل الناس على اجتهاد واحد، فقد روي أن حميدًا الطويل قال لعمر بن عبد العزيز: لو جمعت الناس على شيء. فقال: “ما يسرني أنـهم لم يختلفوا”. ثم كتب إلى الأمصار: “ليقضِ كل قوم بـما اجتمع عليه فقهاؤهم” أخرجه الدارمي في “سننه”.
ونقل واشتهر عن العلماء من السلف والخلف من حث المسلم على ترك مذهبه أو رأيه في مسألة ما، إذا كانت هناك مصلحة هي أرجى وأنفع له ولغيره من المسلمين.
خطأ الإنكار في المختلف فيه
وذكرت دار الإفتاء، أن الإنكار في مسائل الخلاف الفرعية يُضيِّق على المسلمين حياتـهم ويوقعهم في الحرج، ويخرجهم من دائرة السعة والرحمة، وفيه خلاف أيضًا لما عليه علماء الأمة؛ من أن العامي الـمحض، والعَالم الذي تعلَّم بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، ولكنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد- يلزمهما التقليد، ولا يصح أن ينكر بعض المقلدين على بعض فيما أخذ كل منهم بقول عالم متبع.
وبناء على كل ما تقدم: فلا يجوز للمسلم الإنكار على أخيه وإحداث الفرقة بين المسلمين في المسائل الفرعية الخلافية، لا سيما وأن هناك مَن قال بـها من العلماء المعتبرين، وعلى المسلمين أن يجتمعوا على المتفق عليه ولا يفرقهم المختلف فيه، فقد تقرر بين العلماء إنما يُنكر المتفق عليه ولا ينكر المختلف فيه، فلو خالف أحدهم في مسألة اتفق العلماء على نقيضها جاز حينئذٍ الإنكار.