في مشاهد متكررة يبثها جنود الاحتلال الإسرائيلي أثناء تدميرهم عشرات المباني والمساكن الفلسطينية في المناطق الشرقية والشمالية للقطاع بشكل ممنهج، تظهر نوايا دولة الاحتلال الإسرائيلي الحقيقية بخلق واقع جديد للخريطة السكانية والعمرانية لقطاع غزة.
وقد أثارت عملية المغازي الأخيرة التي أدت لمقتل 21 من جنود الاحتلال الجدل حول طبيعة المجهود الحربي الذي تقوم به قوات الاحتلال في المناطق الشرقية المحادية للسياج الأمني، مما يشير لخطوات عملية فرضها الاحتلال الإسرائيلي لخلق منطقة عازلة داخل القطاع.
في هذا التقرير نحاول الإجابة عن الأسئلة التالية بشأن هذه المنطقة العازلة:
ما الخلفية الأمنية والعسكرية للمنطقة العازلة التي تنوي إسرائيل إنشاءها؟
هل ستحقق لإسرائيل “الأمن” الذي تبحث عنه؟
ما تأثيرها على الفلسطينيين في القطاع؟
كيف سترى المقاومة هذه الخطوة؟
هل تلقى الخطوة قبولا دوليا؟
تناولت التقديرات الإسرائيلية خطة الجيش الإسرائيلي إقامة منطقة عازلة على طول السياج الأمني مع قطاع غزة بذريعة توفير الأمن والسماح لمستوطني الغلاف بالعودة، ودمر الجيش الإسرائيلي 1072 مبنى من أصل 2824 مبنى كانت على بعد كيلومتر واحد أو أقل من الحدود، مما يشكل 40% من المباني في المناطق الحدودية.
ومنذ بدأ الهجوم البري الذي يشنه الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، كرر عدد من المسؤولين الإسرائيليين نية جيش الاحتلال إقامة منطقة عازلة داخل القطاع، في محاولة لمحاصرة المقاومة الفلسطينية، والحد من تأثير عملياتها عبر السياج الفاصل.
فقد أعلن وزير الطاقة والبنية التحتية إيلي كوهين صراحة أن أراضي غزة سوف “تتقلص”، في حين دعا وزير الدفاع يوآف غالانت إلى إنشاء منطقة عازلة إلى أجل غير مسمى داخل القطاع على النحو الذي من شأنه أن يدفع المقاومة الفلسطينية بعيدا عن “الحدود”، وهو الموقف الذي يدعمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بشكل كبير.
وحسمت تصريحات جيش الاحتلال الإسرائيلي الأمر، حيث جاء أول تأكيد علني بأن الإستراتيجية “قيد التنفيذ”، وفق تقرير لصحيفة “واشنطن بوست”.
وقال المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي اللفتنانت كولونيل جوناثان كونريكوس، في وقت سابق من هذا الشهر، “إنها من الجهود الإضافية التي يتم تنفيذها بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول الماضي)”.
تجارب فاشلة
تنتمي فكرة “المنطقة العازلة” التي تنوي دولة الاحتلال الإسرائيلي إنشاءها في قطاع غزة إلى إستراتيجية تقليدية سابقة في النظرية الأمنية الإسرائيلية المسماة “العمق الإستراتيجي”، وتهدف هذه الإستراتيجية إلى السيطرة إلى أجل غير مسمى على أراض أجنبية من أجل تعزيز الأمن من تهديدات خارجية.
فقد سعت إسرائيل لتطبيقها إبان عدوانها على القطاع صيف العام 2014، لكنها فشلت في تحقيقها، وهي محاولة للالتفاف على فكرة إعادة احتلال القطاع التي تلقى معارضة كبيرة.
أدت عملية طوفان الأقصى المفاجئة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى تصور لدى الاحتلال الإسرائيلي مفاده أن إستراتيجيات احتواء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وخلق معادلات ردع معها غير قادرة على ضمان أمن إسرائيل. الأمر الذي يفرض على الاحتلال مقاربات جديدة للتعامل مع القطاع.
وتشير تجارب الاحتلال الإسرائيلي في غزة وجنوب لبنان إلى فشل إستراتيجية “العمق الإستراتيجي” في توفير الأمن.
يقول المدير السابق لقسم التخطيط الإستراتيجي في قوات الدفاع الإسرائيلية شلومو بروم إن إسرائيل سعت إلى “حماية حدودنا حول غزة من خلال تزويد حماس بأهداف أكثر ملاءمة: الجنود والمستوطنون في قطاع غزة”، في إشارة إلى مرحلة الوجود العسكري الإسرائيلي في القطاع قبل العام 2005.
ويقول رئيس الوزراء السابق إيهود باراك “كنا نحمي خطنا الأمامي في جنوب لبنان كما لو كان أسوار القدس. لقد أحضرنا أسلحة أثقل والمزيد من القوات ودون أن نلاحظ حتى أننا لم نكن ندافع عن أي شيء إستراتيجي”.
توضح هذه الاقتباسات عيوب إعادة ترسيخ “العمق الإستراتيجي” في قطاع غزة اليوم سواء على مستوى إعادة احتلاله أو إنشاء منطقة عازلة داخله.
وقد تدفع المنطقة العازلة بشكل مؤقت القتال بعيدا عن حدود غزة، لكن تجارب إسرائيل داخل غزة ولبنان توضح أن كل احتلال لم يؤد إلا إلى تزويد المقاومة بشرعية سياسية لمقاومتها وأهداف سهلة لهجماتها. لذا من غير المرجح أن تؤدي “المنطقة العازلة” إلى الحد من فاعلية أعمال المقاومة وخاصة الجهد الصاروخي المستمر والمنطلق من عمق غزة.
تداعيات على الفلسطينيين
على الصعيد الفلسطيني، فإن أي تقليص لمساحة القطاع ستمثل عدوانا كونها تشكل تشديدا للحصار وضغطاً على الفلسطينيين في القطاع، وستحرم الغزيين من المساحات الزراعية، وسيعمق الأزمة السكانية في ظل هدم إسرائيل أكثر من 70% من المباني في شمال القطاع واحتمالية تكرار ذلك في وسط وجنوب القطاع.
ويعاني سكان القطاع من اكتظاظ سكاني حيث يعد قطاع غزة واحد من المناطق الاكثر كثافة للسكان في العالم، مما سيسبب ضغطاً سكانياً كبيراً داخل مدن القطاع ومخيماته، وهو ما يطرح تساؤلات حول علاقة إنشاء منطقة عازلة تقضم حوالي 20% من مساحة القطاع مع مشاريع التهجير القسري والطوعي التي يتبناها وزراء في حكومة نتنياهو.
خيارات المقاومة
من المرجح أن تتعامل المقاومة الفلسطينية مع أي محاولة للإبقاء على قوات للجيش في قطاع غزة كأهداف مشروعة وهم ما سيمثل تحديا واستنزافاً لقوات الاحتلال الإسرائيلي ستوظفه المقاومة الفلسطينية لصالحها.
وسبق أن حذر عدد من الخبراء والأمنيين السابقين في إسرائيل من مثل هذا الخيار.
كما رجحت التقديرات الإسرائيلية إن المشاكل التي تسببها المنطقة العازلة في قطاع غزة قد تفوق الفائدة من إنشائها، بحيث أن المنطقة تذكر بالمنطقة العازلة في جنوب لبنان وحالة القتال التي عاشتها إسرائيل على مدار سنوات طويلة حتى انسحبت، وهو السيناريو الذي قد يتكرر مع القطاع.
رفض أميركي مؤقت
تلقى فكرة المنطقة العازلة رفضا فلسطينيا وعربياً ودولياً. وعلى الرغم من التشكيك الدائم بالموقف الأميريكي إلا أن إدارة الرئيس جو بايدن عبرت مرارا عن رفضها أي تقليص لمساحة القطاع.
كما ترفض مصر والأردن الفكرة بشكل صريح ومباشر، وقالت صحيفة وول ستريت جورنال إن المشروع يلاقي إحباطا متزايدا لدى المسؤولين الأميركيين الذين يقولون إنهم عبروا عن معارضتهم لخطط إقامة مناطق عازلة في قطاع غزة ثم راقبوا إسرائيل تمضي قدما بما تريده، معتبرين أن إقامة المنطقة العازلة يعد تقليصا لأراضي غزة وانتهاكا للقانون الدولي.
وأكدت “وول ستريت جورنال” أن الإدارة الأميركية تواجه صعوبات بالضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لوقف مشروع المنطقة العازلة، قائلة إنها قد تقبل إنشاء “منطقة عازلة مؤقتة”.
كما حذرت الإدارة الأميركية من أن إنشاء إسرائيل منطقة عازلة قد يجعل من الصعب إقناع الدول العربية بالمساعدة في إعادة إعمار قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، وفق كلامها.
وبدا ظاهراً حالة التخبط التي تعتري دولة الاحتلال الإسرائيل حيال أهداف العدوان على غزة وإمكانية تحقيقها، ويظهر أن هناك تذبذب وعدم استقرار في أهداف العدوان المعلنة ما بين القضاء على حماس والسيطرة الأمنية على القطاع وتهجير سكانه الفلسطينيين إلى مصر ومن ثم الانتقال للحديث عن القضاء على قدرات حماس العسكرية ومنع إدارتها للقطاع، في حين تظهر مؤخراً فكرة المنطقة العازلة.