لم يكن اجتماع حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتشدد مع نظيره النمساوي حزب “الهوية” ونازيون جدد ورجال أعمال في بوتسدام في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 وبحث سبل تفعيل “الهجرة العكسية” وطرد مئات آلاف المهاجرين واللاجئين سوى الجزء البارز من جبل الجليد.
فمعظم اليمين المتطرف الأوروبي يتبنى بشكل ما نفس الأطروحات سرا وعلنا، في حين تسعى حكومات أوروبية وسطية تتماهى مع اليمين إلى تطبيق سياسة صفر لجوء. ويعول اليمين المتطرف الأوروبي على كسبه مزيدا من النفوذ السياسي في انتخابات 2024 لتحقيق اختراقات سياسية إضافية وتطبيق إستراتيجياته في هذا السياق.
وتظهر مؤشرات عديدة أن عام 2024 سيكون حاسما في اكتساب اليمين المتطرف الأوروبي مساحات سياسية جديدة بالبرلمانات والمجالس المحلية وخصوصا البرلمان الأوروبي. واستفادت الأحزاب والمجموعات اليمينية بشقيها المتطرف أو المحافظ من الأزمات الداخلية والخارجية، لتعميق حضورها ودورها في المشهد السياسي الأوروبي وارتفع سقف طموحاتها.
وتجري الانتخابات البرلمانية في بعض البلدان الأوروبية العام الجاري وكذلك البرلمان الأوروبي من 6 إلى 9 يونيو/حزيران المقبل. وتؤكد استطلاعات الرأي أن الأحزاب اليمينية المتطرفة قد قويت شوكتها بشكل لافت في 12 دولة من دول الاتحاد، مع مؤشرات بإمكانية زيادة نفوذها في تحديد السياسات الأوروبية العامة وتمرير أجنداتها.
ومنذ انتخابات عام 2019، يحظى اليمين المتطرف بمختلف تكتلاته بنحو 130 مقعدا (من أصل 705) داخل البرلمان الأوروبي، ويتوقع محللون ومراقبون أن يحصل على 180 مقعدا في انتخابات يونيو/حزيران، أي أنه سيستحوذ على نحو ربع المقاعد تقريبا.
وتظهر مقدمات واضحة لذلك، برزت في نتائج الانتخابات الهولندية والألمانية المحلية عام 2023، وتمرير قانون الهجرة الجديد في فرنسا، والذي تم عبر تأييد غالبية حزب التجمع الوطني المتطرف بزعامة مارين لوبان في تحالف ضمني مع حزب “النهضة” الحاكم بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون.
التطرف الأوروبي والعودة إلى الجذور
كان السابع من ديسمبر/كانون الأول 2022 صادما وغير مسبوق بالتاريخ الأوروبي خلال العقود القليلة الماضية، حين اعتقل 25 فردا من مجموعة “مواطني الرايخ” اليمينية المتطرفة بتهمة التخطيط لشنّ هجوم على البرلمان الألماني والإعداد لإسقاط الدولة.
وتتبنى هذه المجموعة ذات النهج النازي طروحات وأفكارا عنصرية فجة، وهي رافضة للنظام والدستور، ولا تعترف بمؤسّسات الدولة الألمانيّة الحديثة التي تأسست بعد انهيار النازية عام 1945.
ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتبنيها الديمقراطية الليبرالية والتعددية السياسية والتداول على السلطة، غادرت أوروبا (الغربية) منطق الانقلابات وحكم الفرد والنزعات الفوضوية، لكن ظهور “مواطني الرايخ” يؤشر إلى حالة نكوص في أحد أهم معاقل الليبرالية الاجتماعية الأوروبية. وكان تورط أعضاء من حزب “البديل من أجل ألمانيا” الذي يعادي المهاجرين بشدة ويدعو للانفصال عن الاتّحاد الأوروبي في هذا التحرك؛ دليلا على خروج الفكر العنصري المتطرف من الهامش إلى العلنية والفاعلية السياسية.
وزادت شعبية هذا حزب البديل، الذي كان منبوذا قبل سنوات، وباتت لديه كتلة مؤيّدة في البرلمان الاتحادي (البوندستاغ) من 79 عضوا (من أصل 736)، ويعد ثالث أكبر حزب في البوندستاغ، كما حقق نجاحا مدويا في انتخابات محلية، وهو ما جعله مرشحا قويا في الانتخابات الفدرالية سنة 2025، رغم انتكاسات انتخابية لاحقة ومظاهرات حاشدة خرجت ضده وطالبت بحله.
ويشير محللون إلى أن برامج الأحزاب اليمينية الأوروبية متشابهة، وهي جزء من المتغيّرات الحاصلة في المجتمعات الأوروبية كافة، وتتغذى هذه الأحزاب من الأزمات الاقتصادية والأمنية وتزايد موجات الهجرة واللجوء، وتقدم نفسها كحارس للثقافة الغربية وهوية الشعوب الأوروبية في حالة باتت تنزاح نحو الشوفينية.
ومنذ الأزمة الاقتصاديّة العالميّة عام 2008، بدأ مسار تعاظم الحضور اليميني في أوروبا وكرسته أزمة وباء كورونا، حيث لجأت الحكومات لانتهاج سياسات الإغلاق والتقشّف، وجاءت حرب روسيا وأوكرانيا حين تدفق مئات الآلاف من الأوكرانيين خصوصا إلى البلدان المحاذية (بولندا سلوفاكيا والمجر ورومانيا)؛ وهو ما تسبب في مشاكل اقتصادية لهذه البلدان استغلتها الأحزاب اليمينة لجذب أصوات الطبقة الوسطى المتضررة.
ومع تراجع “حقبة الوفرة والرخاء” في أوروبا وارتفاع معدلات البطالة وزيادة تدفق المهاجرين واللاجئين من بؤر التوتر والنزاعات، تشكلت أرضيّة ملائمة لنمو خطاب يميني شعبوي مناهض للسياسات الحكومية وللأجانب وأحيانا للاتحاد الأوروبي برمته.
ويتخذ اليمين المتطرف من قضية الهجرة واللجوء شماعة لتبرير كل المشاكل والدفاع عن الهوية الوطنية والقومية، وهو ما أدى إلى تنامي العصبيّة القومية والخطاب العنصري في السنوات الأخيرة، كما تظهر استطلاعات للرأي.
ووجدت تلك المقاربات -التي تلقي بأسباب الأزمات إلى الآخر المهاجر واللاجئ- صدى شعبيا لافتا، وقادت أحزاب اليمين المتطرف إلى تحقيق انتصارات انتخابية غير مسبوقة في حصون الديمقراطية والليبرالية الاجتماعية، كإيطاليا والسويد وفرنسا وألمانيا وهولندا والنمسا وفنلندا وإسبانيا.
ويؤكد الزعيم الفرنسي اليساري ورئيس حزب “فرنسا الأبية” جون لوك ميلانشون هذا الصعود بقوله:
اليوم يقترب اليمين المتطرف من السلطة في كافة أنحاء أوروبا، لقد بدأ صعود المنحدَر، وستهبط كل دول أوروبا منه لا محالة كما حدث في إيطاليا، والسيدة ميلوني خير مثال على ذلك.
وكان اليمين المتطرف في إيطاليا بمشروعه المعادي للمهاجرين وحتى الاتحاد الأوروبي قد حقق نصرا كبيرا بانتخاب زعيمة حزب “فراتيلي ديتاليا” (إخوة إيطاليا) جورجيا ميلوني رئيسة للحكومة الإيطالية في أكتوبر/تشرين الأول 2022، ولكن ميلوني تراجعت “تكتيكيا”، كما يرى مراقبون، حين أبدت رغبتها في التوافق مع القواعد والإجراءات الأوروبية لتستفيد من خطة إنعاش أوروبية بنحو 200 مليار يورو.
وبشكل مفاجئ، حصد تحالف الأحزاب اليمينية في إيطاليا 44.2% من أصوات الناخبين في انتخابات 25 سبتمبر/أيلول 2022، بينها 26.2% لحزب “إخوة إيطاليا” و8.2% لحزب “الرابطة” بقيادة ماتيو سالفيني، و8% لحزب “فورزا إيطاليا” (تحيا إيطاليا) بزعامة رئيس الوزراء السابق الراحل سيلفيو برلسكوني.
وعلى منوال هذا التحالف الإيطالي، يحذر خبراء من أن اليمين المتطرف بات على أعتاب الوصول إلى السلطة في بلدان أخرى وبينها فرنسا. ويقول الرئيس الفرنسي السابق فرنسوا هولاند، في مقابلة مع صحيفة “لو باريزيان” الفرنسية: “التهديد الحقيقي يأتي من جانب اليمين المتطرف، وفي ظل إدارة ماكرون للبلاد، فإن هذا اليمين سيحكم البلاد لا محالة، عاجلا أو آجلا.. ليكون الخيار الوحيد الذي لم يجربه الفرنسيون”.
مؤشرات الصعود
في انتخابات هولندا التي جرت في نوفمبر/تشرين الأول 2023، فاز “حزب الحرية” اليميني الذي يتزعمه السياسي المتطرف خيرت فيلدرز بـ37 مقعدا في البرلمان (من أصل 150 مقعدا) متفوقا بفارق كبير على التحالف اليساري، وتمحور برنامج الحزب الانتخابي أساسا على معاداة المهاجرين وخصوصا المسلمين.
ويرى الحزب أن خفض تدفق الهجرة واللجوء سيؤدي إلى خفض أسلمة هولندا، ويدعو إلى منع المدارس الإسلامية والمساجد، وحظر ارتداء الحجاب الإسلامي في المؤسسات الحكومية. كما يدعو لتجميد اللجوء وتقييد الهجرة والانسحاب من قوانين الاتحاد الأوروبي للهجرة واللجوء. ورغم التراجعات الأخيرة، فإن الفكر المتطرف يبقى حاضرا بقوة في نهج فيلدرز وحزبه.
ولم يكن اليمين المتطرف في إسبانيا -التي يحكمها اليسار الاجتماعي منذ عقود- أي حضور يذكر، لكنه بدأ يسجل صعودا لافتا ممثلا في حزب “فوكس” الذي بات ثالث حزب في البرلمان إثر انتخابات يوليو/تموز 2023 بـ 33 نائبا (من أصل 350)، ويحكم 10 مدن رئيسية بعد تحالفه مع “الحزب الشعبي” اليميني المحافظ الذي حصل على 136 مقعدا. ومع ذلك لم يتمكن هذا التحالف من تشكيل حكومة.
وفي فرنسا حصل “التجمع الوطني” بزعامة مارين لوبان على 18.7% من أصوات الناخبين في انتخابات 2022، وباتت له كتلة برلمانية وازنة، بينما حصلت لوبان على 41.4% من أصوات الناخبين في الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية. وترجح استطلاعات أن تتفوق لوبان على ماكرون في الانتخابات القادمة.
أما في السويد، فقد حصل حزب “ديمقراطيو السويد” اليميني المتطرف على 73 مقعدا، وفازت الكتلة التي يشترك فيها مع اليمين المحافظ الليبرالي بالانتخابات بنسبة 51% و176 مقعدا، مقابل 173 مقعدا لأحزاب يمين الوسط وحزب الخضر، من أصل 349 مقعدا برلمانيا.
وفي المجر، حصل حزب “فيدز”، بزعامة رئيس الوزراء فيكتور أوربان، على 59%، في انتخابات أبريل/نيسان 2022، وهو رابع فوز له على التوالي منذ 2010، وتمكّن الحزب مع تحالف للأحزاب اليمينية من الحصول على الغالبية المطلقة في البرلمان المكون من 199 مقعدا.
وفي الدانمارك، فاز “الحزب الاشتراكي الديمقراطي” في الانتخابات التشريعية في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، لكن هذا الحزب بتاريخه اليساري مال إلى تبنى أفكار اليمين المتطرف التي يمثلها “حزب الشعب الدانماركي” حتى يحقق النجاح الانتخابي.
وفي بولندا، حصل حزب “القانون والعدالة” بزعامة ياروسلاف كاتشينسكي في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2019، على غالبية ضئيلة في البرلمان بنسبة 51%، ونال 235 مقعدا من أصل 460 في البرلمان، ليحكم البلاد، لكنه تراجع في انتخابات 2023 بحصوله على نحو 35% من الأصوات فقط.
وفي البرتغال، ارتفع تمثيل حزب “شيغا” (Chega) اليميني المتطرف بزعامة أندريه فينتورا إلى 12 نائبا في البرلمان (من أصل 230) بعد نيله 8.3% من الأصوات في انتخابات يناير/كانون الثاني 2022، بعدما كان ممثلا بنائب واحد إثر انتخابات 2019. وأصبح بذلك القوة السياسية الثالثة في البلاد، وينتظر أن تزيد حصته في الانتخابات المبكرة في مارس/آذار 2024.
وفي تشيكيا، حصل حزب “الحرية والديمقراطية المباشرة”، المعروف بعدائه للمهاجرين والمسلمين منهم على نحو 10% من أصوات الناخبين في انتخابات يناير/كانون الثاني 2021، ليحوز 20 مقعدا (من أصل 200) بالبرلمان، بينما حصل حزب “التحالف من أجل اتحاد الرومانيين” الشعبوي الذي تأسس عام 2019، على 44 مقعدا في البرلمان الروماني (من بين 329 مقعدا) في انتخابات عام 2020.
وفي سلوفاكيا حصل حزب “سميير إس دي” بزعامة روبرت فيكو والمعروف بمعاداته للمهاجرين واللاجئين وانتقاده للاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي (ناتو) على 23% من أصوات الناخبين في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2023 وبات رئيسا للحكومة، ويعد فيكو قريبا جدا من أفكار الرئيس المجري فيكتور أوربان، وينهج السياسة نفسها في الداخل والخارج.
وفي انتخابات أبريل/نيسان 2023 بفنلندا، حصل الحزب الشعبوي اليميني حزب الفنلنديين “بي إس” (PS) المناهض للهجرة على 20% من الأصوات و46 مقعدا في البرلمان المؤلف من 200 مقعدا ارتفاعا من 39 مقعدا حصل عليها في انتخابات عام 2019، ليصبح الحزب الثاني في البرلمان.
أما في النمسا، التي شهد فيها اليمين انتكاسة على وقع ما عرف بـ”فضيحة إيبيزا”، فقد عاد حزب “الحرية” بزعامة هربرت كيكل ليتصدر نوايا التصويت في الانتخابات التشريعية في 2024 وفق آخر استطلاعات الرأي وبنسبة 29% من الأصوات.
وفي بلجيكا، تشير التقديرات إلى صعود حزب “فلامس بيلانغ” (المصلحة الفلمنكية) في بلجيكا بعد أن كان قد تراجع إلى الهامش. وتضاعفت الأصوات التي حصل عليها الحزب في انتخابات 2019 بمعدل 3 مرات مقارنة بعام 2014، وينتظر أن تزيد حصة هذا الحزب والأحزاب اليمينية المتطرفة بما فيها “الحزب القومي الفلامنكي” وحركة “بيغيدا”، في انتخابات تجديد البرلمانات الإقليمية الخمسة في الخامس من يونيو/حزيران المقبل.
وفي اليونان، حصلت الأحزاب اليمينية المتطرفة في الانتخابات البرلمانية التي جرت في يونيو/حزيران 2023 على 34 مقعدا من مجموع مقاعد البرلمان الـ300، بينما يحكم اليونان حزب “الديمقراطية الجديدة” من يمين الوسط، والذي يتخذ بدوره موقفا متشددا من قضايا الهجرة واللجوء أقرب إلى اليمين.
المشهد الجديد.. التوجه يمينا
وتبيّن هذه الأرقام أن اليمين المتطرف الأوروبي، الذي كان يعتبر مجرد حركات هامشية توصم بالتشدد، بات يكتسب مساحات شعبية، مستفيدا من المخاوف الاقتصادية للناخبين والطبقة المتوسطة الأكثر تضررا من التداعيات الاقتصادية، وثمة إشارات واضحة إلى أن أحزاب اليسار والوسط -الحاكمة في الأغلب- باتت بدورها تتجه يمينا، وتقترب من أجندة الأحزاب المتطرفة أو تتحالف معها، خصوصا في القضايا المتعلقة بالجاليات المسلمة واللجوء والهجرة التي تعتبر الشغل الشاغل لليمين المتطرف.
وكانت مارين لوبان، زعيمة حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف في فرنسا قد أشادت بمشروع قانون الهجرة الجديد في فرنسا، الذي تم تمريره بالتوافق مع حزب ماكرون الوسطي “النهضة”، ووصفته بأنه “نصر أيديولوجي لا يمكن إنكاره”، في إشارة إلى حزبها والتيار اليميني.
قبل ذلك، وفي أكتوبر/تشرين الأول من عام 2020، تماهى الرئيس ماكرون كثيرا مع برنامج حزب “التجمع الوطني” بزعامة لوبان، حين أشار إلى أن مسلمي فرنسا يمكن أن يشكلوا “مجتمعا مضادا أو موازيا”، ينبغي معالجته في فرنسا.
وكان لافتا أيضا تحالف حزب “الائتلاف الوطني” الفنلندي مع حزب “الفنلنديين” اليميني المتطرف عوض الحزب الاشتراكي الديمقراطي (يسار الوسط) لتشكيل حكومة ائتلافية، لينحاز بذلك إلى طروحات متطرفة، وهو ما فعلته الدانمارك حين أقرت قانونا يهدف إلى ترحيل طالبي اللجوء إلى دول أخرى منها راوندا، مستلهمة أفكار اليمين المتطرف، وكانت بريطانيا قد اعتمدت هذا الطرح قبلها.
وفي المقابل، تخلى اليمين المتشدد في أوروبا في برامجه السياسية عن أكثر شعاراته إثارة للجدل، من بينها الخروج من الاتحاد الأوروبي في محاولة للاقتراب أكثر من الناخبين ومن أحزاب الوسط، وهو ما مكّنه من اختراق مربعات الأحزاب الحاكمة وقرّبه أكثر من السلطة. وهي تراجعات أو مراجعات يراها محللون “تكتيكية” وتخدم مصالحه على المدى البعيد.
ويتضخم اليمين المتطرف الأوروبي أيضا مستفيدا من انقسامات في القرار الأوروبي الموحد، خصوصا على وقع الغزو الروسي لأوكرانيا والأزمة الاقتصادية وخاصة ملف الغاز الروسي وإمدادات الطاقة ولجوء الحكومات الأوروبية إلى حلول فردية، وفشل الاتفاق على جيش أوروبي موحد وتقسيم أعباء اللاجئين الأوكرانيين.
ويشير محللون إلى إصرار حكومة بولندا الجديدة المؤيدة للاتحاد الأوروبي على ضرورة أن تدفع ألمانيا تعويضات بقيمة 1.3 تريليون يورو (نحو 4 تريليونات دولار) عن فترة الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية، وهو نفس ما طرحه حزب “القانون والعدالة” الشعبوي قبل خروجه من الحكم، وهذا يشير إلى بداية تصدع في هيكل الاتحاد الأوروبي.
وأدخلت كل تلك المتغيرات الشكوك في الوحدة السياسية الأوروبية، واستغلت أحزاب اليمين هذه الأوضاع التي ترافقت مع تذمر شعبي ناجم عن ارتفاع كبير في تكلفة المعيشة وزيادة معدلات البطالة وتراجع الأمان الاجتماعي في ترسيخ وجودها الذي يستند أساسا إلى النزعات القومية الشعبوية.
وفي الوقت نفسه، لا يبدو معسكر اليمين المتطرف الأوروبي موحدا بالقدر الكافي لتحقيق تفوق حاسم في انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو/حزيران، فجزء منه يصطف وراء مجموعة “الهوية والديمقراطية”، التي يقودها “التجمع الوطني” (الفرنسي) بزعامة مارين لوبان ويضم “رابطة الشمال” بزعامة ماتيو سالفيني (إيطاليا)، و”حزب البديل لأجل ألمانيا” وحزب “الفنلنديون الأساسيون” وحزب “الحرية” النمساوي و”فلامس بيلانغ” البلجيكي. وتعد كتلة “الهوية والديمقراطية” خامس قوة في البرلمان الأوروبي حاليا، وتضم 66 نائبا.
أما كتلة “المحافظون والإصلاحيون الأوروبيون”، فتضم حزب “القانون والعدالة” البولندي و”ديمقراطيو السويد” وحزب “فراتيلي ديتاليا” (إخوة إيطاليا) وحزب “فوكس” الإسباني، وتضم الكتلة 62 نائبا، بينهم أعضاء غير مرتبطين حزبيا.
وتشير التوقعات المعززة بالاستطلاعات إلى إمكانية فوز مجموعة “الهوية والديمقراطية” في الاتحاد الأوروبي بـ87 مقعدا في البرلمان الأوروبي، وحصول كتلة المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين على 82 مقعدا على الأقل.
ومن المنتظر أن يتعزز البرلمان الأوروبي كذلك بأحزاب يمينية متطرفة جديدة مثل “التحالف من أجل اتحاد الرومانيين” (40 مقعدا بالبرلمان الروماني) وتشيغا البرتغالي و”الحزب الوطني” السلوفاكي وحزب “الاسترداد” الفرنسي بزعامة إيريك زمور، الذي ينافس في تطرفه مارين لوبان.
وفي هذا السياق، يقول ستيفان سيغورني رئيس مجموعة “التجديد” في البرلمان الأوروبي لرويترز: “ستكون هناك لحظة إعادة تشكيل سياسي للمشهد الأوروبي في عام 2024”. ويؤكد أيضا على المخاطر المنجرة عن تضخم اليمين المتطرف سياسيا وشعبيا بقوله:
“مع صعود الشعبويين اليمينيين المتطرفين في كل مكان تقريبا في أوروبا، فإننا نخاطر بوجود أوروبا غير قابلة للحكم”.
ويتحسب سيغورني من صعوبة تكوين أغلبية في البرلمان الأوروبي من تكتلات أحزاب الوسط، وإمكانية اللجوء إلى ترتيبات وتحالفات مع اليمين المتطرف.
ويرى مراقبون أنه من غير المرجح أن يكتسب اليمين المتطرف كتلة تمكنه من سلطة القرار النهائي في البرلمان الأوروبي -وهو بالأساس مؤسسة استشارية- في انتخابات 2024، لكنه وفق التقديرات والاستطلاعات سيصبح لاعبا محوريا في السياسات الأوروبية العامة.
أما على الصعيد المحلي فتتقدم الأحزاب والتيارات الشعبوية بخطى حثيثة نحو السلطة في عدة بلدان، أوروبية، مستفيدة من متغيرات جيوسياسية وتصدعات مزمنة وطارئة في الجسم الأوروبي وأزمات اجتماعية واقتصادية إقليمية وعالمية لا يبدو أنها ستحل قريبا. وسيبقى المهاجرون واللاجئون رهان اليمين المتطرف وورقته الرئيسية.