مع مرور أكثر من 125 يوما على بدء الحرب في غزة، تتصاعد الانتقادات داخل إسرائيل من طرف المستوطنين النازحين تجاه أداء أجهزة الحكومة، وفي مقدمتها ما يعرف بقيادة الجبهة الداخلية.
وانتقد بعض كبار القادة العسكريين “إخلاء بلدات حدودية جراء الحرب”، مما حدا برئيس أركان الجيش السابق أفيف كوخافي إلى القول إن “إسرائيل تتقلص”، وهو انتقاد صريح للفاعلية التي ظهرت بها “قيادة الجبهة الداخلية”، ويدل على إخفاقها في تنفيذ خطط الطوارئ خلال الحرب.
خلفيات التأسيس
تعود جذور “قيادة الجبهة الداخلية” إلى “الدفاع المدني” الذي تأسس عقب تعرض تل أبيب لقصف من الطيران المصري أثناء حرب فلسطين عام 1948 ردا على المجازر الإسرائيلية، ثم أصدر الكنيست في عام 1951 قانونا يحدد مهام الدفاع المدني.
وطوال 4 عقود لم تواجه إسرائيل تهديدات جوهرية من خارجها تجاه الداخل، ولم يُختبر الدفاع المدني بشكل حقيقي.
حدثت المفاجأة في حرب الخليج الثانية، ففي الليلة التالية لبدء هجوم قوات التحالف في يناير/كانون الثاني 1991 على القوات العراقية في الكويت، حين بدأت صواريخ سكود المنطلقة من غرب العراق تتساقط على تل أبيب وحيفا بمجموع 39 صاروخا أثناء فترة الحرب.
لجأت إسرائيل للاحتماء ببطاريات باتريوت الأميركية، وتبين أن الدفاع المدني يعمل بمنهجية تعود لحقبة الحرب العالمية الثانية حيث يعتمد على أنظمة بدائية للإنذار المبكر، ولذا غادر العديد من سكان تل أبيب منازلهم.
على إثر ذلك، ثار جدل واسع حول الإخلاء الجماعي للسكان أثناء الحرب في ظل رفض الجيش لمفهوم الدفاع في العمق، وتبنيه لعقيدة هجومية تقوم على نقل المعارك لأراضي الخصم.
عقيد الدفاع المدني
بناء على دروس الحرب، تأسست “قيادة الجبهة الداخلية” كقيادة عسكرية تابعة للجيش الإسرائيلي في الثاني من فبراير/شباط 1992، أي بعد مرور عام تقريبا على انتهاء حرب الخليج الثانية، لتتولى المسؤولية المدنية أثناء الحرب، في حين تتفرغ بقية أفرع الجيش للجانب العسكري.
وخُصص لها مقر قيادة رئيسي في مدينة الرملة فضلا عن 6 مقار فرعية، وكلية عسكرية للتدريب، ونحو 65 ألف جندي أغلبهم من قوات الاحتياط.
وأوكلت لهذه القوات عدة مهام في مقدمتها صياغة وتنفيذ عقيدة للدفاع المدني، وتدريب السكان بالتعاون مع المؤسسات المدنية على التعامل في أوقات الطوارئ، وتنسيق أنشطة الوزارات والسلطات المحلية والقطاع الخاص في مجال الدفاع المدني.
ودشنت قيادة الجبهة الداخلية أبرز أعمالها بتجهيز كافة المساكن الجديدة المبنية منذ عام 1994 بغرف محصنة للحماية من الأسلحة التقليدية والكيميائية.
الانكشاف بحرب لبنان
جاءت حرب لبنان في عام 2006 لتكشف ثغرات جوهرية في القدرات التشغيلية للجبهة الداخلية، حيث سقط ما متوسطه 120 صاروخا يوميا طوال مدة الحرب التي جاوزت الشهر، مما أدى إلى مقتل 39 إسرائيليا من غير العسكريين وإصابة ألفين آخرين.
وبادر آلاف السكان للنزوح بشكل طوعي من المستوطنات الحدودية دون صدور قرار حكومي بذلك، وأقام العديد منهم في خيام مؤقتة.
وأثناء الحرب تركز عمل “الجبهة الداخلية” على عمليات البحث والإنقاذ، في حين عجزت عن توفير الحماية للسكان أو تزويدهم بالاحتياجات المعيشية أو تقديم الدعم النفسي والاجتماعي لهم، كما ظهر ضعف التنسيق بينها وبين بقية المؤسسات المدنية.
وخلص تقرير “مراقب الدولة” إلى وجود غموض وارتباك فيما يتعلق بإعداد الجبهة المدنية لحالات الطوارئ، كما برز تداخل الجبهتين العسكرية والمدنية، حيث شكلت التهديدات التي تعرض لها المستوطنون ضغطا على صناع القرار، في حين أثرت التطورات العسكرية على معنويات السكان وقدرتهم على الصمود.
وبناء على الدروس المستفادة من حرب 2006 شرعت “الجبهة الداخلية” في توفير أنظمة إنذار مبكر متطورة، فقُسمت إسرائيل إلى 25 منطقة للإنذار بدلا من 6 مناطق فقط في عام 1990، بهدف تمكين السكان من مواصلة روتين حياتهم اليومي في المناطق غير المعرضة للاستهداف، ثم زيدت لاحقا إلى أكثر من 250 منطقة مع تطور منظومات الدفاع الصاروخي وربط كل صاروخ بالمنطقة المحتمل سقوطه فيها.
ولحل مشكلة التدخل بين المؤسسات والوزارات المعنية بالجبهة المدنية، تأسست الوكالة الوطنية لإدارة الطوارئ في عام 2007، ووُضعت تحت إشراف وزارة الدفاع، لكنها انخرطت في صراع مع “الجبهة الداخلية” بخصوص المسؤوليات وتحديد الأولويات وإعداد الميزانية المطلوبة من كل وزارة.
بعد ذلك، تأسست للمرة الأولى في عام 2011 “وزارة الدفاع الداخلي” بهدف توجيه وتنسيق مهام مختلف المؤسسات الحكومية والجهات غير الحكومية في أوقات الطوارئ، لكن سرعان ما ألغيت الوزارة المذكورة في عام 2014 لاعتبارات سياسية تتعلق بتحفظ الجيش على دورها.
ورفض موشيه يعالون وزير الدفاع آنذاك نقل بعض صلاحياته لوزير الدفاع الوطني فيما يخص الدفاع المدني.
حرب 2014
أقرت الحكومة الإسرائيلية في عام 2012 خطة لإجلاء السكان من المناطق القريبة من القتال، واعتمدت خطة “الفندق المضيف” التي يُطلب بموجبها من كل مجلس محلي بناء قدرة تستوعب عددا من النازحين بما يصل إلى 4% من سكان كل بلدية.
وعلى وقع حرب 2014 التي استغرقت 55 يوما، وتخللها إطلاق صواريخ من غزة طوال مدة الحرب، ومقتل أحد سكان كيبوتس “ناحال عوز” بقذيفة هاون، نوقشت مسألة إخلاء التجمعات السكانية الإسرائيلية في المواجهات المستقبلية، وبدأ التشكيك في السردية التي تعتبر أن إجلاء المستوطنين تحت النار يمثل استسلاما لضغوط المقاومة الفلسطينية.
أدرك جيش الاحتلال وجود فوائد عملياتية في إخلاء المستوطنات الحدودية حال تعرضها لتهديدات جسيمة، ولذا بدأ في إعداد خطط إجلاء وقت الطوارئ بالتنسيق مع قيادة الجبهة الداخلية.
أعدت خطة طوارئ تُسمى “المسافة الآمنة” لإجلاء 70% من نحو 54 ألف شخص يقيمون في 64 تجمعا سكانيا ومستوطنة على الحدود مع لبنان، و29 تجمعا في غلاف غزة، على بعد 4 كيلومترات من الحدود.
وتقضي الخطة بأن يُنقل النازحون خلال فترة لا تتجاوز 120 ساعة كحد أقصى من صدور قرار الإخلاء إلى مدارس وفنادق محددة مسبقا لاستيعابهم مؤقتا مع مراعاة تكوينهم المجتمعي، على أن يبقى عدد من السكان في مناطق الإجلاء للحفاظ على الحد الأدنى من إدامة النشاط الاقتصادي بها.
واللافت أن الجيش والجبهة الداخلية استبعدا احتمالات إجلاء التجمعات السكانية الأكثر كثافة القريبة من الحدود مثل كريات شمونة قرب لبنان، وسديروت قرب غزة، والبالغ عدد سكانهما 38 ألف شخص، وذلك لوجود مظلة حماية صاروخية لهما بواسطة القبة الحديدية.
كما خلصا إلى أن أي معركة موسعة مع حزب الله ستستهدف الصواريخ خلالها كافة أنحاء إسرائيل، مما يجعل من الصعب تنفيذ عمليات إجلاء واسعة لعدم وجود مناطق آمنة آنذاك، وبالتالي سيكون الخيار آنذاك هو تشجيع السكان على البقاء في منازلهم.
المفاجأة الأخيرة
وفي صباح 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 اجتاز مقاتلو كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة حماس- الجدار العازل في عملية طوفان الأقصى، وسيطروا على مقر فرقة غزة بجيش الاحتلال فضلا عن 22 مستوطنة بعمق تجاوز 30 كيلومترا من قطاع غزة، كما بدأ حزب الله في اليوم التالي شن هجمات على المواقع العسكرية الحدودية مع لبنان.
لجأ الجيش الإسرائيلي إلى إجلاء نحو 100 ألف شخص من المناطق المجاورة لغزة بما فيها مدينة سديروت، كما أجلى 60 ألفا آخرين من المناطق الحدودية الشمالية، منها كريات شمونة، ضمن إجراء استثنائي تجاوز الخطة المعدة سلفا.
أدى العدد الكبير من النازحين إلى فرض تكلفة اقتصادية باهظة على حكومة نتنياهو سواء من جهة انقطاعهم عن العمل أو لتلقيهم مساعدات حكومية حيث يُدفع لكل نازح لم تقدم له الحكومة غرفة فندقية 50 دولارا يوميا، وظهرت حوادث اغتصاب وسرقات، في حين يشتكي الأهالي من عقبات في تعليم أطفالهم.
مع طول أمد الحرب أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في يناير/كانون الثاني 2024 السماح بعودة السكان الذين يسكنون على بعد 4 إلى 7 كيلومترات من الحدود مع غزة، مع منح كل شخص بالغ يعود لبيته 200 شيكل يوميا، فيما سيحصل القاصر على 100 شيكل، على أن يظل العرض الحكومي ساري المفعول حتى نهاية فبراير/شباط 2024، مع قابليته للتمديد.
كذلك أعلن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في الثامن من يناير/كانون الثاني الماضي السماح بعودة سكان سديروت إلى منازلهم بحلول الرابع من فبراير/شباط الجاري، وردا على ذلك قصفت كتائب القسام في اليوم نفسه سديروت بعدد 14 صاروخا.
تلك الأوضاع دفعت عددا من النازحين للاحتجاج أمام مكتب نتنياهو، والنوم أمام مكتبه، رفضا للعودة قبل شعورهم بتوفير الأمن لهم، كما تصاعدت شكاواهم من صعوبات في الحصول على الاحتياجات الحياتية، مما انعكس على تراجع الروح المعنوية، وهو ما يمثل عبئا على حكومة نتنياهو، ويضيف إخفاقا جديدا لقيادة الجبهة الداخلية.