عندما تسلم الجنرال جان كريستيان سماتس (1870-1950) رئاسة وزراء اتحاد جنوب أفريقيا مؤيدا لسياسة الفصل العنصري، كان الطفل “روليهلاهلا” (المشاكس) قد ولد بقرية “مفيزو” في إقليم ترانسكاي بجنوب أفريقيا في 18 يوليو/تموز 1918، لاحقا عُرف هذا الطفل الذي شب يتيما وصار محاميا ومناضلا أيقونيا ضد نظام التمييز العنصري باسم نيلسون مانديلا (1918-2013).
قيّض لهذين الرجلين أن يلعبا مع الاختلاف البنيوي في الأفكار والتوجهات، دورين متناقضين في تاريخ جنوب أفريقيا وفي علاقتها بالقضية الفلسطينية.
في أوائل القرن العشرين، نشأت علاقة قوية بين عتاة الحركة الصهيونية والجنرال سماتس، رئيس وزراء اتحاد جنوب أفريقيا لفترتين (بين عامي 1919 و1924 وعامي 1939 و1948). تعرف الرجل على ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية العالمية (1860-1904) ونسج صداقة عميقة مع حاييم وايزمان (1874-1952) الصهيوني العتيد، وأول رئيس لإسرائيل، امتدت 33 عاما.
ولد جان سماتس لعائلة هولندية متنفذة وغنية من المستوطنين البيض في مستعمرة كيب بجنوب أفريقيا، وينسب له أول استعمال معروف لكلمة “أبارتايد”.
كانت سياسة التفرقة قائمة منذ الاستعمار البريطاني (شملت أيضا مستعمراتها الأخرى)، لكنها تأصلت أكثر مع خروج بريطانيا عام 1910، واستيلاء اتحاد المستعمرين البريطانيين والأفريكانيين (البوير) الذين ينحدرون من أصول هولندية على السلطة، وبات الفصل العنصري سياسة رسمية للبلاد منذ عام 1948.
تعرّف الأوساط اليهودية الفيلد مارشال جان كريستسان سماتس بكونه كان شديد الإعجاب والتأثر بأفكار هرتزل ووايزمان، ومساندا لمخطط إقامة “وطن قومي لليهود” في فلسطين. وينقل الكاتب ريتشارد ستيفنز أستاذ التاريخ في جامعة لينكولن بولاية بنسلفانيا في كتابه “وايزمان وسماتس: دراسة في التعاون الصهيوني الجنوب أفريقي” الصادر عام 1975 عن حاييم وايزمان قوله: “إنه لولا جان سماتس، لما كان هناك بلفور”، في إشارة إلى وعد بلفور الذي تعهد به وزير الخارجية البريطاني جيمس آرثر بلفور يوم الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 بإنشاء “وطن قومي لليهود في فلسطين”.
لعب جان سماتس بوصفه عضوا في حكومة لويد جورج (1916-1922) وحكومة الحرب الإمبراطورية البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى، دورا كبيرا وراء الكواليس في صياغة وعد بلفور، حيث “أظهر فهما عميقا ومحبة للكتاب المقدس”، ووفقا لما ورد في مقال نشره موقع “ساوث أفريقا جويش ريبورت” (South Africa Jewish report) في يناير/كانون الثاني 2023.
ويصف الكاتب ريتشارد ستيفنز العلاقة الوطيدة بين سماتس ووايزمان بقوله: “ربما أثرت القليل من الصداقات الشخصية على مسار الأحداث السياسية خلال القرن العشرين مثل، العلاقة بين الجنرال جان سماتس وحاييم وايزمان. وتتجاوز أهمية هذه العلاقة بكثير العناصر الشخصية أو مساهمتها في النجاح الصهيوني إلى إلقاء الضوء على تناقضات الليبرالية الغربية والمناخ النفسي الذي كرّس الوضع المهيمن للأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا من ناحية، وللمستوطنة الأوروبية الجديدة في فلسطين من ناحية أخرى”.
في عام 1949، وفي احتفال بعيد ميلاد وايزمان الـ 75 في لندن، أطنب سماتس في مدح وايزيمان والحركة الصهيونية بقوله: “إن انفتاح فلسطين مرة أخرى أمام اليهود هو إحدى النقاط المضيئة في العالم الجديد.. أستطيع أن ألمح رؤية لفلسطين الجديدة، وأرى تدفق عشرات الآلاف من اليهود يعودون إلى وطنهم القديم”. أغفل سماتس تماما الفظاعات والجرائم التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في فلسطين وتجريد شعب من أرضه، والتي نظّر لها صديقه حاييم وايزمان.
على أراضي فلسطين التاريخية قرب حيفا، تم إنشاء مستوطنة باسم جان سماتس سميت “مرتفعات جان”، وذلك “تقديرا لمساهمته في إنشاء دولة إسرائيل”. ورد هو في رسالة للصندوق القومي اليهودي على ما اعتبره تكريما بقوله: “إن ارتباطي بالقضية الصهيونية ووضع اسمي على خريطة الأرض المقدسة هو في الواقع تمييز نادر.. كان عملي من أجل الصهيونية منذ البداية عملا بالحب والامتنان”.
علاقة عضوية بين نظامين
في وقت كانت فيه شعوب جنوب أفريقيا مهمشة وتعاني من الإقصاء والتمييز والتفرقة، مثّل جان سماتس نموذجا للعلاقة العضوية التأسيسية بين الحركة الصهيونية وإسرائيل لاحقا، والنظام العنصري في جنوب أفريقيا، وكان لافتا أن يعلن نظام الفصل العنصري عن نفسه رسميا في جنوب أفريقيا عام 1948، بالتوازي مع إعلان قيام إسرائيل في العام نفسه.
أوجد الاستعمار البريطاني، وكذلك الهولندي، الظروف الملائمة لممارسة التمييز والتفرقة العنصرية بحق الشعوب والسكان الأصليين في المستعمرات التي تمت السيطرة عليها بقمع شعوبها ومعاملتها بدونية، فكانت ولادة نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا وكذلك إنشاء “الكيان الإسرائيلي العنصري” على أرض فلسطين بمقتضى وعد بلفور، وما تلاه من احتضان بريطانيا وتشجيعها النخب الصهيونية في نزوعها لإقامة إسرائيل.
ورغم اختلاف الظروف، تتشابه فكرتا إسرائيل وجنوب أفريقيا من ناحية التكوين. ويمكن مقارنة تنازل بريطانيا عن استقلالها للأقلية البيضاء من المستوطنين في جنوب أفريقيا عام 1910 بوعد بلفور، ثم صفقة التقسيم عام 1947 التي مهدت لتسليم فلسطين إلى الأقلية اليهودية التي استولت عليها بالمجازر والجرائم عام 1948، وبموجب هدنة ملتبسة عام 1949.
واستمرت العلاقة العضوية بين كيانين ينتهجان سياسة التمييز العنصري، بين البيض الوافدين مع المستعمر والسكان الأصليين السود في جنوب أفريقيا (الأبارتايد) وبين اليهود والعرب في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وتشاركت الدولتان في جريمة التفرقة على أساس العرق واللون ومصادرة الأراضي وطرد السكان الأصليين وإحلال المستوطنين مكانهم.
يلفت مراقبون وباحثون إلى أنه يمكن بسهولة معرفة التشابه بين النموذجين، باستبدال “جنوب أفريقيا” بكلمة “إسرائيل” أو “فلسطين” حسب الفترات. فـ”جنوب أفريقيا البيضاء” تصبح “المستوطنين اليهود”، و”غير البيض” هم “الفلسطينيون”، أما المحميات الأفريقية أو “البانتوستانات (Bantustans) فتمثلها “غزة” و”الضفة الغربية”.
كانت المفاهيم الإنجيلية والتوراتية حاضرة في كلتا الحالتين (النظامين)، وتم توظيفها للاستيلاء على ما اعتبرت “أرضا بلا شعب لشعب بلا أرض” -وفق الدعاوى الصهيونية- فقد رأى كل من “الحزب الوطني” (من نخبة البيض) والحركة الصهيونية نفسيهما أنهما “صفوة شعوب الأرض” أو “شعب الله المختار”.
وبدت النظرة الاستعمارية المتعالية هي محرك الدفع الرئيسي لقيام نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، في حين مثلت الاختلاقات الصهيونية أساس الاستيلاء على فلسطين بتفويض من القوى الاستعمارية ودعم منها.
يشير أستاذ تاريخ الكومنولث في جامعة كامبريدج الجنوب أفريقي سول ديبو (في مقال بصحيفة نيويورك تايمز عدد 18 مايو/أيار 2018) إلى أن سماتس “كان الأب المؤسس العنصري لجنوب أفريقيا، حيث لم يتمكن من قبول السود باعتبارهم متساوين سياسيا ويسعون للحصول على حقوق المواطنة، وقد اعتمد على النظرية الإنثروبولوجية لتبرير الفصل العنصري على أساس الاختلاف الثقافي الأساسي”.
ويؤكد الكاتب أن سماتس، مثل الرئيس الأميركي الأسبق وودرو ويلسون (1913 إلى 1921) و”باعتبارهما مسيحيين ذوي عقلية سامية، نشأ كلاهما في مجتمعات ريفية شكلتها العبودية، فقد تبادلا الخبرات التكوينية، وكانا أيضا يميلان إلى إضفاء الطابع الأخلاقي على الأبوية البيضاء وقبول الفصل العنصري”.
وبذلك أسس جان سماتس لبواكير نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا الذي تبناه “الحزب الوطني” منذ 1948، وكان آخر ما فعله لأصدقائه الصهاينة قبل استقالته من منصب رئيس وزراء جنوب أفريقيا عام 1948 هو اعتراف بلاده بإسرائيل، وقبل ذلك كان مؤيدا لقرار التقسيم رقم 181 لعام 1947، من منطلق أن “استمرار مثل هذا الشعب في المنفى من وطنه القديم على مر العصور كان شذوذا تاريخيا وظلما يستدعي جبر الضرر”، كما قال في رسالة وجهها لمن احتفى به من الإسرائيليين.
تأصيل العنصرية
كانت شعوب جنوب أفريقيا الأصلية مغيبة تماما عن إدارة الشؤون الداخلية والخارجية، وتعاني من التفرقة والظلم، وقد حقق النظام العنصري أطماعه في الاستحواذ على الأراضي من خلال تشريعه لسلسلة من القوانين الجائرة التي سهّلت مهمته في السيطرة على السكان الأصليين وتفريقهم في “كانتونات” جغرافية عنصرية.
وتشمل هذه القوانين قانون “نظام العبور” للسيطرة على حركتهم وإجبارهم على العيش فقط في أماكنهم أو “معازلهم” المخصصة، التي تشكّل فقط ما نسبته 13% من الأرض، وشرعت قوانين أخرى لضمان تقسيم السكان بحسب أعراقهم وقبائلهم، وكذلك قُسمت الموارد من قبل الدولة بشكل مجحف.
واعتمد نظام الفصل العنصري على 3 ركائز تشريعية وهي: “قانون تصنيف السكان”، و”قانون الإسكان المنفصل” و”قانون الأرض”، وكان السكان يصنفون منذ ولادتهم 4 فئات: بيض، وسود، وملونون وهنود، وخصصت مرافق كثيرة للبيض فقط مثل الحافلات والمطاعم وحتى شبابيك التذاكر في المحطات والشواطئ وغيرها، وحُظر الزواج المختلط، كما كان السود يحصلون على تعليم أو رعاية صحية متدنية.
وحتى عام 1986، كان على السود التنقل بمقتضى تصاريح، تحدد المكان الذي يسمح لهم بالذهاب إليه تحت طائلة السجن والغرامات، في حين تم إجلاء نحو 3.5 ملايين شخص قسراً إلى “البانتوستانات” (محميات عرقية).
أما في حالة الأراضي الفلسطينية المحتلة، فقد انتهجت إسرائيل المنهج نفسه، وبنيت سياساتها على المجازر والقمع الممنهج وطرد السكان وإحلال المستوطنين مكانهم والتوسع الاستيطاني واتباع مزيج من القوانين العنصرية والدكتاتورية العسكرية القمعية، وبث حواجز التفتيش، في كل مكان إضافة إلى سياسة الإغلاق والحصار، وجدار الفصل العنصري، وبطاقات الهوية المختلفة، واللوحات الرقمية الملونة للسيارات والتصاريح المتنوعة، وهي تحيل بمجملها على تفرقة عنصرية بغيضة طالت أيضا الفلسطينيين القاطنين داخل الخط الأخضر. فقد عملت إسرائيل على تطوير نظام تفرقة معقّد، وأرفقته بنظام قانوني وقضائي يكرسه، بما يضاهي أو يفوق النظام العنصري في جنوب أفريقيا.
ما بعد 1948 وعلاقة المنبوذين
كان رد الفعل الطبيعي للشعبين الفلسطيني والجنوب أفريقي هو المقاومة، ولم يقبل قادة حركة التحرر الجنوب أفريقية بالحرية التي اشترطها النظام العنصري بإدانة العنف وقبول “نظام المحميات والكانتونات”، وقادوا نضال شعب جنوب أفريقيا لإنهاء التمييز العنصري وإقامة دولة موحدة تقوم على المساواة الكاملة وضمان الحقوق الديمقراطية الأساسية للبيض والسود على حدٍ سواء.
انتهج حزب “المؤتمر الوطني الأفريقي” -الذي تأسس عام 1912- أسلوب المقاومة السلمية ضد سياسة التفرقة العنصرية في البداية، بواسطة الإضرابات والعصيان المدني وحملات المقاطعة، لكن منذ مذبحة “شاربفيل” في مارس/آذار1960 التي قتل فيها 69 من السود، بدأ الاتجاه نحو العمل السري والكفاح المسلح. وحكم على زعيم الحزب نيلسون مانديلا عام 1964 بالسجن مدى الحياة بتهمة “التخريب”. وخاض الشعب الجنوب أفريقي بمختلف قواه الحية مقاومة مستمرة، وبات نيلسون مانديلا أيقونة للنضال العالمي ضد الاستعمار والعنصرية.
وفي الوقت نفسه انتظم الكفاح الفلسطيني المسلح بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في 28 مايو/ أيار 1964، وخاض الفلسطينيون صراعا مريرا مع المحتل الذي ضم مزيدا من الأراضي الفلسطينية والعربية وارتكب مجازر وحشية هزت ضمير العالم ما زالت متواصلة. وبات الراحل ياسر عرفات عنوانا لنضال الشعب الفلسطيني.
وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 3379 الذي اعتمد في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1975، ونص على أن الصهيونية حركة عنصرية وهي شكل من أشكال التمييز العنصري. لكن الولايات المتحدة استطاعت إلغاءه يوم 16 ديسمبر/كانون الأول 1991، مستغلة ظروفا دولية جديدة أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي.
كان العالم أيضا قد ضج بممارسات نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، فأعلنت شعوب العالم (في وقت كانت فيه حركات التحرر قد تخلصت من الاستعمار) مقاطعته واعتبار ما يقترفه جريمة بحق الإنسانية.
وأصدرت الجمعية العامة عام 1962 قرارا بفرض مقاطعة تجارية ضد نظام جنوب أفريقيا ثم فرض حظر جزئي على تصدير الأسلحة عام 1977، كما استبعد من التظاهرات والمنتديات الدولية وطرد من بعض هيئات الأمم المتحدة، وتم تعليق عضويته في الجمعية العامة سنة 1974، بعد فشل تصويت مماثل في مجلس الأمن بسبب الفيتو الأميركي البريطاني الفرنسي.
وفي الوقت الذي تعززت فيه العلاقات بين “المؤتمر الوطني الأفريقي” و”منظمة التحرير الفلسطينية” كقوى تحرر عالمية، باتت جنوب أفريقيا بنظامها العنصري دولة منبوذة عالميا، خصوصا من بلدان العالم الثالث، وفي الوقت نفسه كانت إسرائيل تواجه بدورها مقاطعة دولية واسعة، فتدعمت الشراكات التجارية والثقافية والعسكرية بين الدولتين المنبوذتين بشكل سري أو علني.
سنوات العزلة وعلاقات النفاق
يشير باحثون إلى أن العلاقات الحميمة بين إسرائيل ونظام “الأبرتايد” في جنوب إفريقيا، بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي، وكانت إسرائيل الدولة الوحيدة التي لم تشارك في العقوبات التي فرضها المجتمع الدولي على جنوب أفريقيا، واتسمت العلاقات بين البلدين بالنفاق والمصلحة، حيث كانت إسرائيل تدين جنوب أفريقيا وتصوت ضدها، لكنها تنسج علاقات سرية عميقة معها.
ويؤكد الصحفي البريطاني جيمس آدامز في كتابه “التحالف غير الطبيعي” الصادر في لندن 1985 أن الدولتين “أصبحتا منفصلتين بشكل متزايد عن المجتمع الدولي، وفي عزلتهما وجدتا مصالح مشتركة جديدة وغير متوقعة. وزودت إسرائيل جنوب أفريقيا بمساعدة حيوية في المسائل العسكرية والتجسسية، وأقام البلدان روابط وثيقة في تجارة الأسلحة والتنمية الاقتصادية والبرامج النووية”.
ويشير آدامز إلى أن التعاون النووي بين إسرائيل وجنوب أفريقيا، بدأ إثر لقاء سري عام 1974 جمع علماء نوويين من الجانبين ضم رئيس حكومة جنوب أفريقيا ووزير دفاعه، وبمشاركة شمعون بيريز (وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك)، حيث تم التوقيع على اتفاق سري للدفاع المشترك، وهذا الاتفاق أثمر عن إنتاج 7 قنابل نووية.
وتؤكد تقارير متعددة إلى أن اختبار قنبلة مشترك جرى بين إسرائيل وجنوب أفريقيا في المحيط الهندي في عام 1979.
وتشير صحف إسرائيلية ووثائق أفرجت عنها سلطات بريتوريا من الأرشيف بعد انهيار نظام الفصل العنصري عام 1990، عن تعاون عسكري مكثف شمل أيضا تطوير صواريخ “أرض-أرض”، كما مولت جنوب أفريقيا صناعة وإطلاق قمر التجسس الإسرائيلي “أوفيك”، وزودت إسرائيل بالمال والسلاح والمتطوعين في عدوان عام 1967. وحتى مطلع الثمانينيات كان نحو 35% من سلاح جنوب أفريقيا مصدره إسرائيل.
وبعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، عانت إسرائيل من العزلة وقطعت كل الدول الأفريقية تقريبا علاقاتها معها، ومرت بأزمة مالية خانقة أخرجتها منها جنوب أفريقيا بشرائها عام 1988 ألف دبابة من نوع “ميركافا” و60 طائرة من نوع “كفير” كانت في الأصل قد خرجت من خدمة سلاح الجو الإسرائيلي، بقيمة 1.7 مليار دولار، ووجدت جنوب أفريقيا بدورها ضالتها في إسرائيل في وقت كانت تعاني فيه من حظر وعقوبات دولية.
كان التعاون بين نظامي تل أبيب وبريتوريا يقوم على فهم وتمثل المنطلقات والأسس والأهداف العنصرية لكل منهما التي أسس لها جان كريستسن سماتس وحاييم وايزمان ومارسها قادة النظامين من بعدهما، لكن سياسيا إسرائيليا مثل يوسي بيلين حذر من ذلك بقوله: “أنا أعرف أن الغالبية السوداء ستحصل على الاستقلال ولن تغفر لنا موقفنا”، ولم يكن الشعب الجنوب أفريقي لينسى السلاح الذي قتل به النظام العنصري مناضليه وارتكب المجازر ضدهم كما يفعل في فلسطين هو في معظمه سلاح إسرائيلي.
عصر نيلسون مانديلا
على عكس جان كريستيان سماتس، كان الزعيم الراحل نيلسون مانديلا من منطلقات فكرية وإنسانية منحازا إلى الشعب الفلسطيني في كفاحه لاسترجاع حقوقه، ولم يكن ذلك موقفا شخصيا فحسب، بل شكل وعيا جمعيا لشعب جنوب أفريقيا الذي لم يفته التماثل الواضح بين ما عاشه ويعيشه الفلسطينيون وما شهده خلال حقبة التمييز العنصري، فكان التأييد والدعم للقضية الفلسطينية في مختلف أطوارها ومراحلها تلقائيا وطبيعيا.
ولم يعبر نيلسون مانديلا عن تضامنه مع فلسطين إثر خروجه من السجن عام 1990 -بعد 27 سنة من الاعتقال- فقط بمقولته الشهيرة: “نعلم جيداً أن حريتنا منقوصة من دون الحرية للفلسطينيين”، بل ظهر ذلك أيضا في محطات عديدة، ربما يعبر عنها إعجابه الشديد بالراحل ياسر عرفات كرمز للكفاح الفلسطيني، حين قال في تقديمه لكتاب الأميركية نانسي دوبرو “ياسر عرفات.. متى لم يكن هنا” الصادر عام 2004.
يقول مانديلا: “كنت أتابع نشاطات الرئيس ياسر عرفات من غياهب سجني. وكم أثار اهتمامي بثباته ومثابرته. لقد آمن به شعبه وسار معه خطوة بخطوة، في السراء كما في الضراء، فهو الذي وضع المسألة الفلسطينية على جدول أعمال المجتمع الدولي، ونقل قضية شعبه من قضية لاجئين إلى قضية أمة.. سوف يبقى الرئيس عرفات إلى الأبد رمزاً للبطولة بالنسبة إلى كل شعوب العالم التي تكافح من أجل العدالة والحرية”.
وبعد أيام من إطلاق سراحه من السجن في 11 فبراير/شباط 1990، التقى مانديلا في العاصمة الزامبية لوساكا مع الرؤساء الأفارقة وزعماء حركات التحرر، وكان لقاؤه مع الراحل ياسر عرفات من أهم لحظات تلك القمة.
كان هناك ارتباط كبير بين نضال الشعب الجنوب أفريقي والشعب الفلسطيني، وقد تجمدت عمليا العلاقات بين إسرائيل وجنوب أفريقيا بعد تسلم نيلسون مانديلا رئاسة البلاد عام 1994 حتى تخليه عنها سنة 1999، وتواصل دعم القضية الفلسطينية من بعده في عهدي ثابو مبيكي (1999-2008) وجاكوب زوما (2009-2018) والرئيس الحالي سيريل رامافوزا الذي أدان العدوان الإسرائيلي على غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، واعتبر أن “غزة تحولت إلى معسكر اعتقال، حيث تجري الإبادة الجماعية”.
شكلت جنوب أفريقيا بعد سقوط نظام الفصل العنصري إسنادا قويا للقضية الفلسطينية ووصف قادتها الاحتلال الإسرائيلي بالفصل العنصري دون مواربة. واحتضنت مقاطعة شعبية ورسمية لمنتجات المستوطنات، كما نفذت جامعة جوهانسبيرغ عام 2011 سياسة قطيعة أكاديمية لإسرائيل بعد وقف علاقاتها بجامعة بن غوريون، بينما شهدت معظم مدن جنوب أفريقيا تأسيس مجموعات وروابط شعبية ورسمية للتضامن مع فلسطين.
واستضافت جنوب أفريقيا في مدينة دربان عام 2001 مؤتمر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وشهد المؤتمر إدانات واسعة لإسرائيل. وفي الخامس من أبريل/نيسان 2019 سحبت جنوب أفريقيا سفيرها من تل أبيب، بسبب الفظائع التي ترتكبها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني تنفيذا لتوصية من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي.
يرتكز موقف جنوب أفريقيا بقطع العلاقات مع إسرائيل وجرها إلى محكمة العدل الدولية يومي 11 و12 يناير/كانون الثاني 2024 بتهمة الانخراط والتورط في أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة على أسس تاريخية صلبة من المبادئ، التي قطعت مع التلاقي الصهيوني-العنصري قبل نهاية نظام الأبرتايد بشكل كامل سنة 1994، وهو يعد صفحة في سياق تاريخي من التضامن بين شعبي جنوب أفريقيا وفلسطين.