رغم التسابق العالمي على السوق الأفريقية، فإن الدوافع الإسرائيلية للتطوير العلاقات مع القارة السمراء تبدو أعمق من مجرد المكاسب الاقتصادية، ولا سيما مع الهزات الجيوسياسية التي شهدتها المنطقة في العقدين الماضيين.
وكشف خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في اجتماع قادة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” في يونيو/حزيران 2017، عن اهتمام تل أبيب المتزايد ببناء جسور متعددة مع أفريقيا، سواء على المستوى الثنائي أو على مستوى المؤسسات الجماعية.
ويدعو يوتام جيدرون مؤلف كتاب “إسرائيل في أفريقيا” صناع القرار الإسرائيليين إلى القيام بحملة دبلوماسية عالمية وكانت أفريقيا إحدى وجهاتها الرئيسية، وذلك في تعليقه على الضرر الذي أصاب علاقات إسرائيل وتركيا أهم حلفاء تل أبيب غير العرب في منطقة الشرق الأوسط بعد سقوط شاه إيران 1979.
الربيع العربي وسقوط الحلفاء
مثل انطلاق ثورات الربيع العربي هزّة مفاجئة وعميقة للبيئة الأمنية الإسرائيلية، وهو ما عبّر عنه مسؤول إسرائيلي في تصريح لصحيفة واشنطن بوست حينها بأن تل أبيب ترى في المظاهرات التي ملأت الساحات العربية “طهران 1979” في إشارة إلى الثورة الإيرانية التي وضعت طهران في المعسكر المعادي لإسرائيل.
حملت تداعيات الربيع العربي خطرين رئيسيين محدقين بإسرائيل: سقوط أنظمة عربية حليفة، وصعود الحركات الإسلامية إلى السلطة في عدد من بلدان الثورات.
هذا الوضع الجديد وصفه إيتاي برون، رئيس قسم التحليل في مديرية المخابرات في الجيش الإسرائيلي (2011-2015)، بأنه أصبح مرحلة “تتميز بعدم اليقين وعدم الاستقرار والتقلب”، مجبرة إسرائيل على إعادة بناء تصورات حول علاقاتها مع أفريقيا وغيرها لمواجهة احتمالات العزلة المتنامية في حينه.
مطاردة الخصوم
ضمن جهود طهران لمواجهة الضغوط الغربية المتصاعدة وسعيا لكسب الدعم الدولي شهدت ولايتا الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد اهتماما لافتا لخلق شبكات علاقات جديدة خارج الشرق الأوسط، مما أدى إلى تنامي حضور طهران في أفريقيا مع تطور الاستثمار السياسي الإيراني في بعض أقطار القارة.
مثل هذا التوجه حافزا لتل أبيب لتطوير إستراتيجية أفريقية مضادة، تضمنت حملة دبلوماسية مكثفة استهدفت عددا من الدول في مناطق من القارة.
وعلى سبيل المثال يوضح جيدرون في كتابه “إسرائيل في أفريقيا” أن اهتمام وكالات الاستخبارات في بلاده بالغرب الأفريقي لم يكن مرده النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة فقط، بل أيضا انخراط أعضاء من الشتات اللبناني هناك في تمويل حزب الله اللبناني.
دوافع اقتصادية
تشكل المصالح الاقتصادية محددا رئيسيا في التوجه الإسرائيلي نحو أفريقيا التي تمتلك العديد من المحفزات الجالبة للاستثمارات الإسرائيلية، حيث تحتوي القارة على عدد من الاقتصادات الناشئة السريعة النمو كنيجيريا وكينيا وجنوب أفريقيا، بجانب تمتعها بسواحل شاسعة وتوفر العمالة الرخيصة والتغيرات الديمغرافية والتكنولوجية الهائلة.
في هذا الإطار عملت إسرائيل على الاستفادة من الميزات النسبية التي تمتلكها في بعض القطاعات كالطاقة الخضراء وتعزيز الإنتاج الزراعي والتقنيات العالية، حيث التزمت شركة “إنيرجيا غلوبل” (Energiya Global) الإسرائيلية عام 2017 باستثمار ما يصل إلى مليار دولار خلال السنوات المقبلة لتطوير مشاريع الطاقة الخضراء في 15 دولة أفريقية.
وعام 2021 افتتحت شركة “غيغاوات غلوبل” (Gigawatt Global) ومقرها إسرائيل أول محطة للطاقة الشمسية في بوروندي بما يزيد قدرة التوليد بنسبة 10% قبل أن تعلن عن نيتها مضاعفة حجم المشروع عام 2023.
كما شهد نفس العام اتفاقا إسرائيليا زامبيا لإنشاء محطة قادرة على توليد 17 ميغاوات من الكهرباء عبر طاقة الرياح في أكبر استثمار من نوعه في زامبيا بقيمة 100 مليون دولار أميركي.
نشاط دبلوماسي محموم
هذا التوجه الإسرائيلي نحو أفريقيا تجلى في نشاط مكثف، برزت من خلاله دبلوماسية الجولات والقمم الثنائية والجماعية مع القادة الأفارقة، حيث كان نتنياهو أول رئيس وزراء إسرائيلي يزور القارة الأفريقية عام 2016 منذ 5 عقود، شملت زياراته في شرق أفريقيا كينيا وإثيوبيا وأوغندا، وسبقه بأعوام وزير خارجيته أفيغدور ليبرمان الذي زار البلدان الـ3 عام 2009.
كما يعد نتنياهو أول زعيم غير أفريقي يشارك في قمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) عام 2017، كذلك عملت تل أبيب على افتتاح سفارات جديدة في بلدان كرواندا وغانا، كما استثمرت في تطبيع العلاقات مع دول أفريقية كغينيا (2016) وتشاد (2018) والمغرب (2020) والسودان (2020).
نجاح نسبي أغرقه “طوفان الأقصى”
يفيد تقييم إستراتيجي صادر عن “معهد دراسات الأمن القومي” الإسرائيلي أن انقسام مواقف الدول الأفريقية من الحرب على غزة عكس النجاح النسبي لدبلوماسية تل أبيب بالنظر إلى الموقف الأفريقي التقليدي المؤيد لفلسطين، لكنه من جهة أخرى كشف إخفاقا إسرائيليا في كسب أو تحييد الرأي العام الأفريقي في الدول التي دعمت تل أبيب مضطهديها تاريخيا كجنوب أفريقيا، والبلدان التي تحتوي على شرائح كبيرة من السكان المسلمين في دول جنوب الصحراء.
في هذا الإطار، يبرز تراجع ويليام روتو رئيس كينيا، أحد أبرز حلفاء إسرائيل الأفارقة، عن تصريحاته الداعمة لتل أبيب التي أدلى بها في الأيام الأولى من العدوان، إلى موقف أكثر حيادية معبرا عن قناعته أن “فلسطين يجب أن تكون دولة حرة” وتأييده لحل الدولتين، وهو ما يعزى إلى ضغط الرأي العام والتصعيد الذي مارسه زعماء مسلمون كينيون، وصل إلى حد المطالبة بقطع العلاقات مع تل أبيب وطرد السفير الإسرائيلي.
في حين كان موقف الاتحاد الأفريقي أكثر جدية في إدانته للسياسات الإسرائيلية، حيث أكد البيان الختامي للقمة الأفريقية فبراير/شباط 2024 إدانته للحرب الوحشية واستخدام القوة المفرطة ضد المدنيين العزل في غزة ومحاولات نقلهم بالقوة إلى سيناء، داعيا إلى رفع الحصار الجائر عنهم ووقف إطلاق النار وإجراء تحقيق دولي مستقل في استخدام تل أبيب للأسلحة المحظورة دوليا في غزة.
المساعدات التنموية
تمثل المساعدات التنموية إحدى أدوات الدبلوماسية الناعمة الإسرائيلية في أفريقيا، حيث كثفت وكالات التنمية الرسمية والجمعيات الخيرية الإسرائيلية أنشطتها في القارة، وعلى رأسها الوكالة الإسرائيلية للتعاون الإنمائي الدولي (ماشاف).
تتنوع الأنشطة التي تقوم بها الماشاف في أفريقيا، حيث يبرز في ها السياق دعم النمو الاقتصادي في المناطق الريفية من خلال تعزيز إنتاج أصحاب الحيازات الصغيرة من الفواكه والخضروات في دول كإثيوبيا والكاميرون ورواندا، بجانب المشروعات المتعلقة بالقطاع الصحي في دول كتشاد وتوغو وغانا.
كما توضح البيانات التي تنشرها منظمة “الابتكار: أفريقيا” الإسرائيلية غير الربحية على موقعها الرسمي، أنها بين عامي 2008 و2024 عملت على استخدام التقنيات المرتبطة بالطاقة الشمسية والمياه لتوفير إمكانية الوصول إلى المياه النظيفة إلى 4.5 ملايين قروي في 10 دول أفريقية منها جمهورية الكونغو الديمقراطية، إثيوبيا، ملاوي، السنغال، تنزانيا، والكاميرون.
الدبلوماسية الأمنية
استخدمت إسرائيل المعدات والتقنيات العسكرية والأمنية لتوثيق علاقاتها مع دول القارة الأفريقية التي تشهد العديد من التحديات في هذا المجال.
ووفقا لموقع ديفينس ويب فإن مبيعات الأسلحة الإسرائيلية إلى الدول الأفريقية تنمو بشكل مطرد، مع زيادة الصادرات الدفاعية بنسبة 70% بين عامي 2015 و2016 لتصل إلى 275 مليون دولار، في حين نصت أرقام وزارة الدفاع الإسرائيلية على أن نصيب أفريقيا بلغ 3% من إجمالي مبيعات الأسلحة الإسرائيلية عام 2022 وهو ما يساوي 375 مليون دولار.
كما أسهمت أدوات التجسس الإسرائيلية في تقلص الحيز المدني وتعزيز الاستبداد في أفريقيا، حيث يربط تقرير استقصائي صادر عن مجلة أوريان 21 بين برنامج بيغاسوس سيئ السمعة واستهداف ناشطين وصحفيين وسياسيين في دول كرواندا وغانا وتوغو وكينيا، التي تدعم المطالب الإسرائيلية في الحصول على صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي.
العودة إلى “مراقبة” الاتحاد الأفريقي
تمثل محاولة تل أبيب المستميتة لنيل عضوية المراقب في الاتحاد الأفريقي تكثيفا للأهداف الإستراتيجية الإسرائيلية من العلاقة مع القارة السمراء، مستفيدة من سقوط نظام العقيد معمر القافي الذي حال دون منحها هذه الصفة، التي تمتعت بها في منظمة الوحدة الأفريقية، سابقا.
وكان حشد الدعم لتحقيق هذا الهدف ضمن أجندة الجولات التي قام بها المسؤولون الإسرائيليون في دول القارة وعلى رأسهم نتنياهو الذي أكد الأهمية العالية للروابط الدبلوماسية فيما يتعلق بالتحالفات الدولية.
في هذا السياق، تسعى تل أبيب أن يكون تحولها إلى مراقب مدخلا للتأثير على الكتلة التصويتية لدول القارة، والتي تمثل 54 مقعدا من أصل 193 على مستوى الجمعية العامة للأمم المتحدة، و3 مقاعد من أصل 15 على مستوى مجلس الأمن، و14 مقعدا من أصل 54 على مستوى المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، و13 مقعدا من أصل 47 على مستوى مجلس حقوق الإنسان.
ويرى بيتر فام المدير السابق لمركز أفريقيا التابع للمجلس الأطلسي في مقال له أن تل أبيب استطاعت تحقيق بعض الإنجاز في هذا الشأن، حيث أسهم تحسن علاقاتها مع الدول الأفريقية في إفشال إقرار اقتراح قرار للوكالة الدولية للطاقة الذرية كان من شأنه أن يفرض عمليات تفتيش على المنشآت النووية الإسرائيلية عام 2015، حيث صوتت 4 دول أفريقية ضد هذا الإجراء، وامتنعت 17 دولة أخرى عن التصويت، وتغيبت 8 دول، وصوتت 7 دول فقط من أفريقيا جنوب الصحراء ضد إسرائيل.
بجانب ما سبق يمثل الحصول على هذه الصفة فرصة للسياسة الإسرائيلية لترويج سرديتها والعمل لتحييد مناهضيها داخل المنظمة الأفريقية فيما يتعلق بمواقفها من القضية الفلسطينية، وهو ما أصبح أكثر إلحاحا بعد أن نالت فلسطين هذه العضوية عام 2013.
من جانب آخر تتيح صفة المراقب لتل أبيب توثيق علاقاتها مع دول المنظمة، والانخراط في المبادرات والمشاريع التي يطلقها الاتحاد في مجالات كالزراعة والتنمية الريفية وتطوير البنى التحتية والسياحة وغيرها من المجالات التي تتمتع إسرائيل بخبرة كبيرة فيها.
وبالنظر إلى الضرر العميق الذي أصاب صورة إسرائيل نتيجة حربها الوحشية على قطاع غزة فإن من المتوقع أن تشهد السنوات القادمة تكثيفا لحملات تل أبيب الدبلوماسية في القارة السمراء، مستهدفة كسب الدعم لسياساتها وتوطيد نفوها، ومحاصرة خصومها الأفارقة وعلى رأسهم جنوب أفريقيا التي قادتها إلى المحاكمة أمام محكمة العدل الدولية في سابقة تاريخية.