اثنتان من الضحايا الثلاث اللاتي خصتهن تحديدا صحيفة نيويورك تايمز بكشف كبير نُشر في ديسمبر/كانون الأول 2023 وزعم أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) تعمدت استخدام العنف الجنسي كسلاح خلال هجمات طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم تتعرضا في الواقع لاعتداء جنسي، وفقا لميخال بايكين المتحدث باسم كيبوتس بئيري، الذي حددته الصحيفة على أنه موقع الهجوم.
وقال موقع ذي إنترسبت -في مقال مشترك بين جيريمي سكاهيل وريان غريم- إن رفض بايكين تقرير نيويورك تايمز عن الكيبوتس يقوّض بشكل كبير مصداقية المقال المثير للجدل الذي نشرته الصحيفة بعنوان “صرخات بلا كلمات.. هكذا استخدمت حماس العنف الجنسي كسلاح في 7 أكتوبر/تشرين الأول” الماضي.
وكان مقال نيويورك تايمز قد وصف ثلاث ضحايا مزعومات للاعتداء الجنسي، وأورد معلومات محددة عن سيرهن الذاتية، إحداهن عرفها باسم “المرأة ذات الرداء الأسود”، وهي غال عبدوش، وقد اعترض بعض أفراد عائلتها على الادعاءات التي قدمتها الصحيفة، أما الضحيتان الأخريان فهما شقيقتان مراهقتان لم يتم الكشف عن اسميهما من كيبوتس بئيري، وقد ذكرت نيويورك تايمز عمرهما الدقيق، مما يجعل من الممكن التعرف عليهما.
وقد استطاع ذي إنترسبت تحديد هوية الفتاتين، لكنه لم ينشر أسماءهما الأولى، وذلك اعتمادا على بيانات القائمة العامة للحكومة الإسرائيلية بالضحايا الذين لقوا حتفهم في الكيبوتس خلال هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بالإضافة إلى الصفحة التذكارية التي أنشأها المجتمع نفسه، وهي تبين الضحيتين في كيبوتس بئيري اللتين تطابقان الوصف الوارد في صحيفة نيويورك تايمز، وهما الأختان ي. ون. شرابي، وعمرهما 13 و16 عاما.
مصدر وحيد
وعندما سُئل ميخال بايكين عن الادعاءات التي قدمتها صحيفة نيويورك تايمز، ذكر اسمي الفتاتين تلقائيا، قائلا “أنت تتحدث عن الفتاتين شرابي؟”.
وأضاف “لا، لقد تم إطلاق النار عليهما فقط. أنا أقول فقط، لكن تم إطلاق النار عليهما ولم تتعرضا للاعتداء الجنسي”، وشكك أيضا في الادعاءات المصورة والمفصلة للغاية لمسعف القوات الخاصة الإسرائيلية الذي كان بمثابة مصدر للادعاء الذي نُشر في “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست” و”سي إن إن” ووسائل إعلام أخرى، وقال للموقع “هذا ليس صحيحا”، في إشارة إلى ادعاءات المسعف بشأن الفتاتين بأنهما “تعرضا للاعتداء الجنسي”.
وفي مقابلة بثتها القناة 12 الإسرائيلية في يناير/كانون الثاني الماضي، وصفت مخرجة الأفلام الإسرائيلية أنات شوارتز -ذات الخبرة الضعيفة في نقل الأخبار- بالتفصيل كيف سعت للتأكد من تعرض الفتيات لاعتداء جنسي، وقالت إنها علمت بالقضية لأول مرة عندما شاهدت مقابلة مع رجل تم تعريفه على أنه مسعف من وحدة النخبة العسكرية الإسرائيلية، ونسقت الحكومة الإسرائيلية مقابلات إعلامية معه، وظهره أمام الكاميرا لتجنب التعرف عليه.
وقالت شوارتز في مقابلة لها إنها لم تتمكن من العثور على مصدر ثانٍ لتأكيد رواية المسعف، وأكدت “ليس لدي مصدر ثان مع المسعف بشأن فتيات بئيري”، ولم يستشهد تقرير نيويورك تايمز بأي شاهد مؤيد آخر لتصوير المسعف للحالة التي يُزعم أن الفتيات اكتشفهن فيها.
وقدمت مقابلة أجريت مؤخرا في وسائل الإعلام الإسرائيلية مع أجداد الأختين شرابي تفاصيل تتناقض بشكل مباشر مع تقرير نيويورك تايمز، إذ “قالت جدتهما جيليان بريسلي للقناة 12 الإسرائيلية لقد تم إطلاق النار عليهما فقط، ولم يحدث لهما أي شيء آخر”. كما أجرت العائلة عدة مقابلات مع وسائل الإعلام الدولية قبل نشر “صرخات بلا كلمات”، وقدمت معلومات تقوّض التأكيدات الواردة في نيويورك تايمز، مما يثير تساؤلات عن سبب عدم تضمين المقال هذه التفاصيل المتاحة للجمهور.
لم تؤكد قط عائلة بريسلي وأقاربها في إسرائيل الذين عاشوا مع عائلة شرابي في كيبوتس بئيري، أن الفتاتين تعرضتا لاعتداء جنسي، بل أكدت عائلة بريسلي في العديد من المقابلات أن الفتاتين قُتلتا إلى جانب والدتهما
ولم تؤكد قط عائلة بريسلي وأقاربها في إسرائيل الذين عاشوا مع عائلة شرابي في كيبوتس بئيري أن الفتاتين تعرضتا لاعتداء جنسي، بل أكدت عائلة بريسلي في العديد من المقابلات أن الفتاتين قُتلتا إلى جانب والدتهن، ولكن المسعف -حسب تقرير “صرخات بلا كلمات”- قال إنه عثر على جثتي فتاتين مراهقتين في غرفة في الكيبوتس، وقدما وصفا يوحي بوضعية اغتصاب، وأضاف أنه لم يوثق المشهد لأن وظيفته كانت البحث عن ناجين.
وفي 29 فبراير/شباط الماضي، بثت القناة 12 الإسرائيلية قصة الأجداد بريسلي الذين سافروا من بريطانيا إلى الكيبوتس لمشاهدة المنزل الذي مات فيه أحباؤهم، ولمقابلة الجيران وأفراد الأسرة والمسؤولين، ولكن وصف العائلة لوفاة ابنتهما ليان وحفيدتيهما يتناقض تقريبا مع كل التفاصيل في مقال التايمز سوى أعمار الفتاتين وأنهن قُتلتا.
الأسرة تنفي
وقالت جيليان بريسلي “لقد تم العثور عليهما بين “المماد” (الغرفة الآمنة بالمنزل) وغرفة الطعام، وهو أمر فظيع أن أقول إنهما أصيبتا بالرصاص، ولم يحدث لهما أي شيء آخر”. وأضاف زوجها بيت، جد الفتاتين، “قال جندي إنه رأى ابنتنا، لكنها كانت تغطي الفتاتين وتم إطلاق النار عليهما. السابع من أكتوبر/تشرين الأول كان أتعس يوم في حياتي”.
وقبل أشهر من نشر قصة نيويورك تايمز يوم 28 ديسمبر/كانون الأول الماضي، حسب الموقع، كانت عائلة بريسلي قد أجرت مقابلة مع “بي بي سي” تقدم تفاصيل تتعارض مع الرواية التي ظهرت لاحقا في التايمز، وفي 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي نشر موقع “والا” الإخباري الإسرائيلي قصة عن العائلة، قالت أيضا إن الفتاتين قُتلتا إلى جانب والدتهما.
وقال شارون شرابي، الذي كان شقيقه إيلي والد الفتاتين نُقل إلى غزة، إن المقاتلين الفلسطينيين دخلوا منزل العائلة، واقتحموا غرفتهم الآمنة وقتلوا ليان والفتاتين، وأضاف “لكي أقول لك بشكل ملموس ما حدث في بئيري، أو ما حدث في منزل عائلة شرابي، ليست لدي إجابة لك. بالتأكيد لا توجد معلومات موثوقة يمكنني تقديمها لك”، وأضاف “سمعت جميع الإصدارات. ما الحقيقة؟ لا أعرف”.
وقبل أن تنشر الصحيفة تقريرها، قوبلت قصة المسعف بالتشكيك من قبل موقع الأخبار “موندوفيس” الأميركي، ففي مقابلته الأولى يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي مع قناة إخبارية هندية قال إنه شهد ما حدث في كيبوتس ناحال عوز وليس في بئيري.
وعندما روج متحدث باسم الحكومة الإسرائيلية للرواية على وسائل التواصل الاجتماعي في ذلك اليوم، نشر جزءًا محررا من المقابلة أزال الإشارة إلى ناحال عوز، وبدلا من ذلك كتب في تغريدة أن ذلك حدث في كيبوتس بئيري، حيث تشير السجلات الرسمية إلى مقتل شقيقتين مراهقتين تتطابقان تقريبا مع وصف المسعفين.
وبحلول الوقت الذي التقت فيه شوارتز بالمسعف، تم تحديد موقع الحادث بأنه بئيري، وقالت شوارتز في مقابلتها على البودكاست إنها بذلت جهدا مكثفا لمحاولة تأكيد قصة المسعف، “قلت إذا أردت معلومات عن عمليات الاغتصاب، يجب أن تتصل بالكيبوتسات. ولا غير. لم ير أحد ولم يسمع أحد أي شيء”.
وفي نهاية المطاف، وصلت إلى مسعف الوحدة 669، ونقل القصة نفسها التي رواها لوسائل الإعلام الأخرى، واستشهدت شوارتز بهذه الحادثة كسبب رئيسي خلصت منه إلى وقوع عنف جنسي منظم في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ولأنهما فتاتان أختان وفي غرفة واحدة، “فهناك شيء ما منهجي، شيء ما يبدو لي أنه ليس عشوائيا”.
ومن غير الواضح لماذا لم تضمن نيويورك تايمز التصريحات التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة من أفراد عائلة الفتيات في بئيري، وقد أجرى العديد منهم مقابلات مع وسائل الإعلام الإسرائيلية والصحف الدولية وشبكات التلفزيون، بما في ذلك هيئة الإذاعة البريطانية وديلي ميل وديلي تلغراف، ولم تذكر مقالة الصحيفة وجود تفاصيل متضاربة، وبدلا من ذلك بثت التأكيدات الأحادية المصدر التي قدمها المسعف.
نيويورك تايمز تصر
وأفادت براميلا باتن، الممثلة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالعنف الجنسي في حالات النزاع، يوم الاثنين بأن فريقها عثر على معلومات تشير إلى وقوع عنف جنسي، إذ وجد فريق البعثة أن هناك أسبابا معقولة للاعتقاد بأن العنف الجنسي المرتبط بالنزاع وقع في مواقع متعددة خلال هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، و”بشكل عام، لم يتمكن فريق البعثة من تحديد ما إذا كان العنف الجنسي قد حدث في كيبوتس بئيري”.
ووجدت باتن أن حالتين بارزتين من الاعتداءات الجنسية يُزعم حدوثهما في كيبوتس بئيري “لا أساس لهما”، وادعت نيويورك تايمز -في تغطيتها لتقرير الأمم المتحدة- أن الاعتداء الجنسي الذي حددته كان حادثا منفصلا عن الحادثتين اللتين وصفتهما الأمم المتحدة.
واكتسب الجدل الدائر حول تغطية الصحيفة زخما في الأسبوع الماضي بعد أن سلط مستخدم لموقع “إكس” يدعى زي سكويريل الضوء على نشاط شوارتز على وسائل التواصل الاجتماعي، الذي تضمن “الإعجاب” بمنشور يعبّر عن التحريض على الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة، ويدعو إلى “تحويل القطاع إلى مسلخ”.
وفي 5 يناير/كانون الثاني السابق، أرسلت ليلى العريان، وهي منتجة تنفيذية بقناة الجزيرة الإنجليزية حائزة على جائزة إيمي وبولك، بريدا إلكترونيا إلى فيل بان المحرر الدولي لصحيفة نيويورك تايمز، وكذلك إلى رئيس مكتب القدس باتريك كينغسلي وقسم معايير الصحيفة، يتضمن أسئلة مفصلة حول صحة تقرير الصحيفة، لكنها لم تتلق أي رد، وحافظت نيويورك تايمز منذ ذلك الحين على تمسكها بالتقرير الأصلي.
وقالت المتحدثة باسم التايمز دانييل رودس لموقع ذي إنترسبت “نحن نقف إلى جانب القصة ونواصل الإبلاغ عن قضية العنف الجنسي في 7 أكتوبر/تشرين الأول” الماضي.
في هذه الأثناء، تواجه غرفة الأخبار في الصحيفة صراعًا داخليا خطيرا حول تغطيتها للحرب على غزة. فبعد وقت قصير من نشر مقال “صرخات بلا كلمات” يوم 28 ديسمبر/كانون الأول 2023، تم تكليف منصتها الرقمية للبودكاست اليومي “ذا ديلي” بتحويل المقال إلى حلقة.
وبعد مراجعة المنتجين، تم وضع النص الأصلي -الذي تمت صياغته ليتوافق بشكل وثيق مع التقرير الأصلي- على الرف وكتابة نص بديل أكثر حذرًا.
ولا شك في أن من شأن نشر نسخة مخففة من هذا التقرير أن يثير تساؤلات حول ما إذا كانت الصحيفة متمسكة بتقاريرها وسط الانتقادات، بما في ذلك، وعلى الأخص، من عائلة غال عبدوش.
وكان موقع ذي إنترسبت قد تحدث عن النزاع الداخلي في صحيفة نيويورك تايمز في أواخر يناير/كانون الثاني الماضي. لكن الصحيفة لم تعد مراجعة تقاريرها مثلما فعلت بعد كارثة أسلحة الدمار الشامل في العراق.
وبدلا من ذلك، أطلقت تحقيقا غير عادي في تسريب غير عادي، غير أن نقابة صحفيي نيويورك تايمز أدانت التحقيق في نهاية هذا الأسبوع بسبب ما رأت فيه من تنميط عنصري للصحفيين من خلفيات شرق أوسطية وشمال أفريقيا.
ونقل ذي إنترسبت عن مصدر بالصحيفة قوله تعليقا علىى هذه القضية “إنهم يعرفون أكثر من أي شخص آخر أن التسريبات هي إجراءات يائسة عندما يريد الناس كشف الإخفاقات الجسيمة دون أي آليات داخلية آمنة أو فعالة (..) كما أن محاولة سحق من كشف الأمر لن تمحو الحقيقة الأساسية المتمثلة في أن القصة هي فشل صحفي بامتياز”.