خاص- الوثائقية
في حقبة الخمسينيات وما قبلها، كانت نجومية القراء تبدأ من أثير الإذاعة المصرية، ولم تكن تقبل بث تلاوة أي شيخ قبل أن يتصدّر المسابقات القرآنية ويُقر بجدارته كبار العلماء في قاهرة المعز.
لكن الأمر اختلف بالنسبة لفتى قادم من مركز المنشأة بمحافظة سوهاج، فقد انتقلت له طواقم الإذاعة لتسجيل قراءته دون أن يسعى لذلك.
هذا الفتى هو الشيخ محمد صديق المنشاوي الذي تروي الجزيرة الوثائقية قصته مع القرآن في حلقة ضمن سلسلة “أصوات من السماء”.
ولد المنشاوي عام 1920 لعائلة قرآنية بصعيد مصر، إذ كان والده صدّيق من أبرز قراء زمانه، واشتهرت قراءته في مصر وخارجها، وكذلك كان جده تايب رجلا قرآنيا.
أتم محمد صديق المنشاوي حفظ الكريم في كتّاب القرية عندما كان في عامه الثامن، ولاحقا انتقل إلى القاهرة فدرس علم القراءات على المشايخ.
وما أن بدأ المنشاوي القراءة في المساجد حتى ذاع صيته في مصر وعبّر شيوخ القرآن عن اندهاشهم أمام جمال صوته.
وفي سابقة من نوعها، انتقلت الإذاعة المصرية إلى المنشاوي لتسجيل قراءته بعد أن أكد شيوخ القرآن حينها أنه من العيب إخضاعه للاختبار.
الخشية والمعاني
وفي مشاركتهم بوثائقي الجزيرة، تحدث مشايخ عن الخشية الربانية في قراءة المنشاوي وعن قدرته على نقل معنى الآية للمستمع من خلال الصوت، وشهدوا له بالورع والتقى والزهد والإخلاص.
ويقول الصحفي محمود خليل إن المنشاوي لم يكن يتطلع للنجومية، لكن الشهرة سعت إليه وسعت الإذاعة إلى قدميه.
وأضاف “كان الشيخ المنشاوي متواضعا بعيدا عن الغرور، ولم يبحث عن أجر ولا مكانة ولم يتصدر واجهة”.
ويحكي ابنه سعودي عن مساعدته للشباب في قراءة القرآن وعن تواضعه وعدم لبسه لما يميزه عن العامة إلى حد أن أحدهم سأله ذات مرة عما إذا كان هو بواب العمارة، فرد عليه: نعم أنا هو.
وبعد حديث المشاركين عن زهده وإعراضه عن الدنيا، يعود الوثائقي للمنشاوي ليقرأ قوله تعالى “وعباد الرحمن الذين يمشون عن الأرض هونا..”، فيما يظهر في صورة جالسا بطريقة بسيطة ومرتديا ثوبا عاديا.
يؤْثَر عن الشيخ المنشاوي خشوعه بين يدي القرآن وغضه لبصره طيلة التلاوة تجسيدا لمعنى الآية الكريمة “لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله”.
درجات ومقامات
ويقول عميد كلية التربية الموسيقية بجامعة حلوان الدكتور عاطف عبد الحميد “إن النسيج اللحني عند المنشاوي يمكن أن يؤدي جملة طولها دقيقة أو اثنتين على أربع درجات صوتية بحيث ينسج الجملة بدقة شديدة جدا، وهو شيء غير تقليدي عند باقي القراء، وهذا ما يسمى الزخرفة والصعود والهبوط”.
ولا يختلف اثنان في أن الشيخ المنشاوي جمع في قراءته كل ميزات الجمال، وكان يقرأ آيات التبشير بفرحة القلب.
كثيرا ما يقرأ القرآن في مقام نهاوند، وينتقل منه إلى نهاوند المرصّع، فيما كان يؤدي الأذان في مقامي راست والحجاز.
ويقول الصحفي محمود خليل “إنه السفير الأنقى والأرقى لكتاب الله عزل وجل”، فقد قرأ في المسجد الأقصى المبارك وفي الكويت وسوريا ودول أخرى.
ويصف عبد الحميد صوت المنشاوي بأنه “تعبيري وصادق ودافئ وقوي”، بينما يقول خليل “عندما يأتي دوره أشعر أن الري سيغمر الوادي”.
وفي العشرين من يونيو/حزيران عام 1969 رحل المنشاوي عن عمر ناهز الخمسين عاما، ليعيش بعد ذلك عمره الثاني، فما يزال صوته يعطّر أرجاء المعمورة ويحلق بالناس في عوالم الإيمان والخشية والحب.