في حادثة مثيرة التقطتها عدسات التصوير في قلب القارة الأفريقية، حيث تقع جمهورية الكونغو الديمقراطية، جمعت مباراة كرة القدم بين فريقي “تشادي” و”باسنغا” في خريف عام 1998 في مقاطعة كاساي. وبينما كانت المباراة تسير برتمها الطبيعي والفريقان يحكمهما التعادل، لمع وميض لامع شوّش الرؤية برهةً خاطفة، ثمّ عادت عدسة الكاميرا تنقل صورة اللاعبين وهم يتساقطون تباعا على الأرض.
وقد ذُهل الحاضرون من هول المشهد، فقد بدا أنها كانت صاعقة شديدة أصابت 40 شخصا كانوا في الملعب آنذاك، وتنبئ مصادر محليّة أن 11 شخصا قضوا نحبهم في هذه الحادثة، منهم لاعبون ومشجعون تتراوح أعمارهم بين 20-35 عاما، وتعد هذه الحادثة من أكثر الحوادث مأساوية في عالم الرياضة.1
وفي حادثة أخرى ليست ببعيدة، تعرّض طفل من مدينة بلاكبول البريطانية لصاعقة أسقطته أرضا أثناء لعبه كرة القدم، وبعد نقله إلى المستشفى بساعات قليلة، أُعلِن خبر وفاته. وقد جاء تضامن نادي ليفربول الإنجليزي مع الطفل مخلّدا هذه الواقعة، فقد ارتدى لاعبو النادي قمصانا كُتِب عليها اسم الطفل قبيل إحدى المباريات الرسمية في عام 2021. 2
ولعلّ رؤيةَ تلك الخطوط المنكسرة اللامعة أثناء هيجان السحب المعتمة باعثةٌ على الرهبة والتفكّر والتسبيح، عطفا على الزمجرة المفزعة التي تتبع ذلك الوميض، وليس للمرء إلا أن يأمل ألا تصيبه تلك الضربات الرعدية والاكتفاء برؤيتها من بعيد.
وتشير الإحصائيات إلى أنه على مدار العقود الثلاثة الماضية، بلغ متوسط عدد الوفيات من ضربات البرق 43 حالة وفاة سنويا في الولايات المتحدة وحدها، وأنّ 10% فقط من الذين يُصابون بضربة صاعقة يفقدون حياتهم مباشرة، في حين يتعرض الباقون لدرجات مختلفة من الاضطرابات العصبية المزمنة والمشاكل الصحية، وفقا لخدمة الأرصاد الجويّة الوطنية (NWS).3
ظاهرة البرق.. عرض فني مخيف في الغلاف الجوي
يُعد البرق إحدى الظواهر الطبيعية المهيبة، وينشأ في الطبقة الدنيا من الغلاف الجوّي (التروبوسفير)، وهو يحدث نتيجة للتفريغ الكهربائي بين نقاط مشحونة بشكلٍ مختلف، سواء كان ذلك بين مجموعة من السحب المختلفة، أو بين سطح الأرض وسحابةٍ ما. ويتواتر ظهور البرق باستمرار في جميع أنحاء العالم على اختلاف المواسم والتضاريس، ويقدّر العلماء بأنّ ضربات البرق في الأرض تحدث بمعدل يصل 100 مرّة في الثانية.4
ويفسّر العلماء آلية حدوث البرق بأنه يقع عند اصطدام قطرات المطر أو ندفات الثلج في قلب العواصف الرعدية، فيؤدي ذلك الاصطدام إلى زيادة اختلال الشحنات الكهربائية بين السحب والأرض، وفي كثير من الحالات تصبح الطبقات السفلى من السحب ذات شحنة سالبة. وفي ذات الحين، فإنّ الأجسام التي على الأرض -مثل الأبراج العالية والأشجار وحتى سطح الأرض نفسه- تكتسب شحنة موجبة بسبب النشاط الكهربائي للعاصفة، مما يخلق اختلالا كهربائيا بين السحب المشحونة سلبا في الأعلى، والأجسام المشحونة إيجابا في الأسفل.
وبطبيعة الحال، فإنّ الأرض مُيسّرة لاستعادة التوازن في الطبيعة، عن طريق تسهيل تدفق التيار الكهربائي بين السحب وسطح الأرض، أو حتى بين السحب نفسها، وهذا ما يُطلق عليه التفريغ الكهربائي.5
ضربات الصواعق.. طاقة هائلة تفوق حرارة الشمس أضعافا
تنتج عن البرق طاقة هائلة، تظهر على هيئة ضوء وحرارة شديدة، لدرجة أنّ البرق قادر على تسخين جزيئات الهواء المحيطة به إلى درجات حرارة أعلى بخمسة أضعاف من درجة حرارة سطح الشمس، أي إلى 30 ألف درجة، وبسبب هذه الحرارة يتمدد الهواء المحيط ويهتز بسرعات عالية، فينتج عن ذلك دويّ رعد مرعب، يسمعه الإنسان بعد رؤيته وميض البرق على الفور.
“هُوَ ٱلَّذِی یُرِیكُمُ ٱلۡبَرۡقَ خَوۡفا وطمعاً وينشئ السحاب الثقال”
كما أن تلك الطاقة كافية لفك روابط النيتروجين الثلاثية الصلبة، التي تمنعه من التفاعل مع أي شيء في الهواء، فتفككها إلى ذرات نيتروجين أحادية ترتبط مع الأكسجين على شكل أكسيد نيتروجين يذوب مع المطر وينزل على شكل نترات أو سماد طبيعي تستفيد منه التربة، أو أنها تعيد ربط ثلاث ذرات أكسجين معا فتشكل غاز الأوزون الذي يحمي الأرض من الأشعة فوق البنفسجية.
والحقيقة أنّ البرق والرعد كليهما يحدثان معا في ذات اللحظة، لكن الرعد يُرى أولا بحكم أنّ الضوء ينتقل بسرعة أعلى بمليون مرّة من انتقال الصوت.
وعلى عظمة البرق ورهبته، فهناك ما يفوق ضربات البرق الاعتيادية قوّة ولمعانا بـ1000 مرّة، وهي نادرة للغاية، ويُطلق عليها “الصواعق الفائقة”.
الصواعق الفائقة.. ظاهرة رهيبة رُصدت إبان الحرب الباردة
في أواخر خمسينيات القرن الماضي، وفي ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، انتشرت تجارب الأسلحة النووية على نطاق واسع، وهو ما دفع طرفي النزاع كليهما إلى التجسس على بعضهما، فأقدمت أمريكا على إطلاق مشروع “فيلا” (Vela)، وهو عبارة عن مجموعة من الأقمار الصناعية، سعيا منها لرصد التجارب النووية التي تحدث على الأرض.
وبعد سنوات طويلة من المراقبة والرصد، كشفت البيانات والصور الملتقطة بفضل أجهزة الاستشعار البصرية المصممة لالتقاط وحساب الوميض الساطع في الغلاف الجوّي، أنّ ثمّة انفجارات شديدة السطوع وحيوية بحيث لا يمكن تصنيفها بأنّها تجارب نووية، وهو ما دفعهم إلى التساؤل عن ماهية تلك الانفجارات.
وقد تبيّن لهم لاحقا بأنّ ما ترصده عدساتهم ليس إلا صواعق خارقة، وكانت المرّة الأولى التي كُشف عنها في عام 1977، وقد لاحظ الباحثون في ذلك الوقت أنّ الومضات البرّاقة كانت أقوى بـ100 مرّة من البرق الاعتيادي، وتمكث وقتا أطول ضعف الوقت الطبيعي للبرق.6
وقد وجدت دراسة أجريت عام 2019 أنّ الصواعق الفائقة تتمركز في ثلاث مناطق أساسية حول العالم، وهي شمال المحيط الأطلسي، والبحر الأبيض المتوسّط، ومنطقة ألتيبلانو الواقعة في أمريكا الجنوبية، وتبلغ ذروةَ نشاطها في الفترة ما بين نوفمبر/ تشرين الثاني وفبراير/ شباط. وتقول الدراسة إن الصواعق الفائقة عادة ما تضرب فوق المسطحات المائية بدلا من اليابسة، وذلك على عكس ما هو عليه البرق الاعتيادي، فهو كثير الظهور فوق اليابسة.
وبعد عملية طويلة من التقييم والحساب، توصل العلماء إلى أنّ هذه الصواعق الفائقة يمكن أن تنتج ما لا يقل عن 100 غيغاوات من الطاقة، ولإدراك هذه القيمة نذكر أن الطاقة التي أنتجتها جميع الألواح الشمسية وتوربينات الرياح في الولايات المتحدة عام 2018 بلغت حوالي 163 غيغاوات، وفقا لوزارة الطاقة الأمريكية.7
رصد الصواعق الفائقة.. دراسة تستقصي لغزا بعيد المنال
مما يصعّب عملية رصد الصواعق الفائقة أنّها تظهر فجأة، ولا يمكن تتبّع مسارها أو وقت حدوثها، وقد حاولت مجموعة من الباحثين اجتياز هذه المعضلة، فاستخدموا شبكة مكوّنة من حوالي 100 محطة لكشف البرق في ست قارات، ووضعوا في كلّ محطة أجهزة لرصد موجات الراديو التي تنتجها الصواعق بمختلف أنماطها، أو التنصّت عليها إن جاز التعبير، وخلال الفترة الزمنية بين عامي 2010-2018 استطاع الفريق تسجيل مليارَي ضربة صاعقة.
ولتمييز الصواعق الفائقة عن غيرها، قارن الباحثون الوقت الذي تستغرقه موجات الراديو الناتجة من ضربةٍ ما للوصول إلى سبع محطات أو أكثر في منطقة الحدث. وبهذه الحيلة، استطاعوا تحديد موقع وقوّة الصاعقة، فانتهوا إلى أنّ الصواعق الفائقة لها قوّة تفريغ كهربائي تزيد عن مليون جول ضمن النطاق الترددي الضيّق الذي اعتمدوه في دراستهم، وهو ما بين 5-18 كيلوهرتز.
وربّما تبدو مليون جول كميّة بسيطة بالنسبة لصاعقة فائقة، لكنّها تتوافق مع النطاق الترددي الضيّق، وهو ما يعد اجتزاء بسيطا من طاقة هائلة تتراوح بين 10 مليارات و1 تريليون واط من الطاقة الكهربائية في الصواعق الفائقة.
وعلى تكاثر الجهود الحثيثة في اصطياد الصواعق الفائقة، فإنّ سبب حدوثها وتميّزها عن بقية الصواعق ما زال أمرا محيّرا لدى العلماء، ويذهب البعض في تفسير هذه الظاهرة إلى ربطها بالنشاط الشمسي والأشعة الكونية.8
ومع أن الأمر يبدو مستحيلا اليوم، فإنّ طموح العلماء وسعيهم الحثيث نحو العثور على مصادر متعددة من الطاقة، يجعل الصواعق الفائقة في موقعٍ لا يمكن غض الطرف عنه، لكونها أحد الحلول الممكنة التي ستوفّر طاقة هائلة للحضارة البشرية، وهو ما سيترك سؤالا يبحث عن إجابة في المستقبل؛ كيف يمكن تطويع الصواعق الفائقة واستغلالها على النحو السليم.
المصادر:
[1] جايمس، دارت (2006). هل قتل البرق فريقا بأكمله؟. الاسترداد من: https://www.theguardian.com/football/2006/mar/15/theknowledge.sport#:~:text=Back%20in%20October%201998%2C%20Bena,newspaper%20L’Avenir%20in%20Kinshasa.
[2] محررو الموقع (2021). جوردان بانكس: ليفربول يقدّم تعازيه لمشجع يبلغ من العمر 9 سنوات قُتل بضربة برق. الاسترداد من: https://www.skysports.com/football/news/11669/12305721/jordan-banks-liverpool-pay-tribute-to-nine-year-old-fan-killed-by-lightning-with-warm-up-shirts
[3] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). ما مدى خطورة البرق؟. الاسترداد من: https://www.weather.gov/safety/lightning-odds
[4] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). البرق. الاسترداد من: https://www.nationalgeographic.com/environment/article/lightning
[5] محررو الموقع (التاريخ غير معروف). البرق. الاسترداد من: https://www.nationalgeographic.com/environment/article/lightning#:~:text=Cloud%2Dto%2Dground%20lightning%20bolts,one%20billion%20volts%20of%20electricity
[6] هانكس، ميكاه (2022). نادر وغير مفسَّر، قد يتمكن العلماء قريبا من حل لغز الصواعق الفائقة. الاسترداد من: https://thedebrief.org/rare-and-unexplained-scientists-may-soon-solve-the-mystery-of-lightning-superbolts/
[7] ويسبرغر، ميندي (2020). “الصواعق الفائقة” حقيقية، وهي أكثر سطوعا بـ1000 مرة أكثر من البرق العادي. الاسترداد من: https://www.livescience.com/lightning-superbolts.html
[8] فوكس، ألكس (2019). الصواعق الفائقة تبرق حيثما لا يتوقعه العلماء. الاسترداد من: https://www.science.org/content/article/world-s-strongest-lightning-hits-not-summer-november-february