منذ وصوله لرئاسة الحكومة في دولة الاحتلال الإسرائيلي عام 2009، يقود بنيامين نتنياهو العلاقات مع الديمقراطيين في الولايات المتحدة للتراجع، وقد بلغت تدهورا غير مسبوق مع الخطاب الأخير لزعيم الأغلبية الديمقراطية في الكونغرس تشاك شومر، الذي طالب بعقد انتخابات في إسرائيل لاستبدال نتنياهو.
يعود الخلاف مع الديمقراطيين للتباين في وجهة النظر حول الإستراتيجية المتبعة في الشرق الأوسط، إذ تسعى الإدارات الديمقراطية في الولايات المتحدة لخلق حالة من التوازن بين القوى الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط يسمح لها بتأمين مصالحها على المدى البعيد عبر دعم حلفائها واحتواء خصومها ودفع الجميع نحو الانسجام مع الرؤية الأميركية للمنطقة.
وفي سبيل ذلك، تنظر الإدارات الديمقراطية للصراع في فلسطين على أنه عامل التوتر الرئيسي في المنطقة والذي يستدعي “إدارة للصراع” تمنع تفجره، وفي نفس الوقت يعزز “أمن إسرائيل” ويمهد لانخراطها بشكل طبيعي في المنطقة، وهذا يستدعي إبقاء “عملية السلام” أو المساعي للوصول لحل الدولتين مسارا يلوح في الأفق طوال الوقت، بغض النظر عن تحقيق نتائج عملية.
حل الدولتين
يعارض نتنياهو رؤية الديمقراطيين فيما يخص إبقاء حل الدولتين إطارا للمقاربة الأميركية لإدارة الصراع. ويقود نتنياهو في ذلك الرؤية اليمينة في إسرائيل من يمين الوسط حتى اليمين الديني القومي المتطرف.
ولطالما شكل رفض حل الدولتين المادة الرئيسية لنتنياهو لتعزيز قيادته لليمين، الأمر الذي مكنه من البقاء في السلطة.
العنصر الثاني في الإستراتيجية الأميركية الديمقراطية في الشرق الأوسط، الملف النووي الإيراني، وهي القضية التي مثلت ذروة غير مسبوقة من الخلاف بين الديمقراطيين في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما ونتنياهو.
ففي الوقت الذي ذهبت إدارة أوباما لعقد اتفاق وصف بالتاريخي مع إيران حول ملفها النووي، قاد نتنياهو حملة دولية ضد المسعى الأميركي آنذاك، ولم تقتصر حملة نتنياهو المناهضة لأوباما على الصعيد الدولي، بل شملت الدخول غير المرحب به من قبل الديمقراطيين لنتنياهو على السياسة الداخلية الأميركية.
وقد سجل خطاب نتنياهو في الكونغرس الأميركي في مارس/آذار 2015 كلحظة فارقة في العلاقة بين الجانبين، حيث هاجم نتنياهو أوباما وإدارته في “عقر دارهم”، وهو ما وظفه الجمهوريون في حملة لم تتوقف ضد الديمقراطيين حتى موعد الانتخابات التي فاز بها الرئيس دونالد ترامب أواخر عام 2017.
التحالف مع التيار الديني
كما شكل تحالف نتنياهو مع التيار الديني القومي المتطرف بقيادة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش دافعا قويا لتوتر العلاقة مع إدارة الرئيس جو بايدن الديمقراطية. والتي يتهمها نتنياهو بإسقاط حكومته في صيف عام 2021.
وقام الائتلاف الحكومي الحالي لنتنياهو على جملة من الالتزامات التي استجاب بها لمطالب التيار الديني القومي المتطرف، بينما ترى إدارة بايدن أن الاتفاق الائتلافي بقيادة نتنياهو سيعمل على تغيير هوية “إسرائيل” وسيمس بمواطن النفوذ الأميركي فيها.
كما أن المقاربة اليمينة المتطرفة للصراع في فلسطين وفي الشرق الأوسط تتعارض مع رؤية إدارة بايدن التي حملت شعار “خفض التصعيد” في المنطقة.
هذا التوتر بين الجانبين يحمل في طياته تعقيدا متعلقا بدور “اليهود الأميركيين” وموقفهم من الخلاف، فقد وضع هذا الخلاف بين رئيس الوزراء الأطول مكثا في الحكم في إسرائيل والإدارات الديمقراطية، اليهود الديمقراطيين على محك الاختيار بين مصالح الولايات المتحدة ورؤية الحزب الديمقراطي من جهة ومصالح “إسرائيل” التي طالما حظيت بدعمهم ورعايتهم.
ومع تصاعد الخلاف هذه الأيام بين إدارة بايدن ونتنياهو، جاء الصوت الأكثر علوا وحدة من أرفع شخصية سياسية يهودية في الولايات المتحدة، زعيم الأغلبية الديمقراطية، تشاك شومر، الذي بدء خطابه في إشارة لمعنى اسمه في العبرية “الوصي”، وطالب بعقد انتخابات جديدة في إسرائيل لاستبدال نتنياهو في إشارة نادرة للتباين بين نتنياهو والقيادات اليهودية الأميركية.
ولعل هذا أحد أهم أوجه الخلاف مع نتنياهو، ولكنه أقلها ظهورا للعلن، نظرا لتجنب اللوبي اليهودي عموما توجيه انتقادات لإسرائيل وسياساتها. لذا اعتبر خطاب تشاك شومر حدثا استثنائيا وغير مسبوق.
يرى التيار الأوسع في اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة أن حكومة نتنياهو الحالية تعرض هوية ومصالح “إسرائيل” للخطر بتحالفه مع التيار الديني القومي المتطرف.
“أحضان” السابع من أكتوبر
شكلت عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر لحظة مغايرة في العلاقة بين الجانبين، فبعد توتر شديد فرضته المظاهرات المناوئة لنتنياهو احتجاجا على خطته للإصلاح القضائي، وجد نتنياهو نفسه في “أحضان بايدن” عشية الضربة غير المسبوقة التي نفذتها كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس في غلاف غزة.
وتحت وطأة الصدمة والشعور بالتهديد الوجودي في إسرائيل، ألقت إدارة بايدن بثقلها في رص الصفوف الداخلية ووضع المسار الإستراتيجي للحرب الإسرائيلية على غزة والتي سيقودها نتنياهو.
ورغم أن الأخير قد وافق على تشكيل مجلس للحرب صُمم وفقا للشروط الأميركية، فإن حقيقة الخلاف مع إدارة بايدن بقيت حاضرة في أجندة نتنياهو أثناء الحرب، بل شكلت عاملا مهما في قرارته المتعلقة بالحرب.
ويعد الخلاف حول ما أطلق عليه “اليوم التالي” للحرب أولى ملفات التباين بين الجانبين في إدارة الحرب، إذ تسعى إدارة بايدن ومن مدخل الحرب على غزة أن تعيد ضبط البوصلة الإقليمية في إعادة الهدوء وفرض مقاربتها في إدارة الصراع في فلسطين عبر إبقاء “حل الدولتين” في الأفق البعيد. في المقابل، يصر نتنياهو على رفض المقاربة الأميركية بعودة السلطة الفلسطينية لحكم غزة.
ويرى نتنياهو أن طرح قضايا اليوم التالي للحرب وخاصة عودة السلطة الفلسطينية لغزة هي محاولة من إدارة بايدن لضرب الائتلاف الحكومي الذي يقوده نظرا لموقف حلفائه من اليمين المتطرف برفض حل الدولتين والتهديد المتواصل لنتنياهو في حال استجاب للضغوط الأميركية.
الفشل العسكري
كما شكل الفشل العسكري الإسرائيلي في سرعة حسم المعركة وتحقيق أهدافها المعلنة بالقضاء على حماس وإنهاء حكمها وإطلاق سراح الأسرى، مدخلا لعودة الخلاف مع إدارة بايدن التي سعت أن تدخل السنة الانتخابية وقد توقفت الحرب على قطاع غزة. لكن المقاربة التي انتهجها نتنياهو بإطالة أمد الحرب قد تسبب بتداعيات على مستقبل بايدن الانتخابي وصورة الولايات المتحدة على الصعيد الدولي. لتعود تدريجيا قناعة الديمقراطيين بالظهور مجددا بأن نتنياهو يضحي بمصالح إسرائيل والعلاقة مع الولايات المتحدة مقابل بقائه في الحكم، وتبدأ حملة جديدة من التصعيد بين الجانبين.
وأظهر هذا الخلاف أن سياسة إدارة بايدن حول الحرب في غزة عالقة بين إصرارها على دعم نتنياهو في تحقيق أهداف حربه المعلنة ورفضها لوقف دائم لإطلاق النار وبين توظيف نتنياهو لذلك في تعزيز بقائه في الحكم ومواجهة الضغوط الأميركية عليه.
وفي الوقت ذاته، فإن حدة الخلاف بين الجانبين وخطاب شومر الأخير يشير لدخول العلاقة بين الجانبين لمرحلة حرجة قد تسفر عن تحول في مستوى وطبيعة الإجراءات التي يمكن أن تتخذها إدارة بايدن للضغط على نتنياهو.
ومن سلسة هذه الإجراءات ما أشار له الكاتب الأميركي جوناه بلانك في مقاله في مجلة “الشؤون الخارجية” الأميركية. إذ يرى بلانك أن إدارة بايدن بإمكانها ممارسة ضغوط على إسرائيل عبر تعليق المساعدات وإعادة مراجعتها، وعبر رفع الغطاء عنها في المؤسسات الدولية وخاصة مجلس الأمن، وقد تذهب لحد إعلان قطع العلاقة مع نتنياهو ومطالبته بالاستقالة.
وفي مقابلة نشرتها أمس الأربعاء صحيفة نيويورك تايمز مع زعيم الأغلبية الديمقراطية، قال تشاك شومر “لقد تصارعت مع نفسي، ربما يجب أن أقول إن بيبي يجب أن يتنحى”.
قد يشكل هذا المستوى من النقد العلني والمباشر المستوى الأعلى من خيارات الديمقراطيين على نتنياهو، لكن قوة الموقف التي يتمتع به نتنياهو في الكنيست وحرصه على تجنب سقوط حكومته ومواجهة قضايا الفساد ولجان التحقيق مجددا، ستدفعه لمواصلة النزال مع الديمقراطيين، الذين قد يجدون أنفسهم أمام السؤال الرئيسي، إما أن نسقط نتنياهو، أو يخسر جو بايدن الانتخابات.