في قرار لافت، أعلنت وزيرة الخارجية الكندية ميلاني جولي أن بلادها ستعلق تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، واصفة القرار بالمهم وأنه “ليس تغييرا رمزيا”.
تأتي هذه الخطوة بعد موافقة البرلمان على مقترح قرار غير ملزم قدمه الحزب الديمقراطي الجديد، يحث الحكومة على مجموعة من النقاط، منها المطالبة بوقف فوري للنار في قطاع غزة، ووقف المزيد من تصاريح تصدير الأسلحة لإسرائيل، وضمان استمرار دعم وكالة الأونروا والعمل النشط لإنشاء دولة فلسطين كجزء من سلام شامل وعادل بالشرق الأوسط.
ورغم الطبيعة غير الملزمة للقرار فإنه يمثل خطوة تاريخية وفق وصف العديد من المراقبين، ويأتي اتساقاً مع التحول الذي شهده خطاب أوتاوا تجاه الحرب على غزة.
ففي أعقاب عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أصدر رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو بيانا داعما لإسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، قبل أن يعلن لاحقا إدانته للمسيرات المؤيدة للفلسطينيين.
وقد التباين بين أوتاوا وتل أبيب بالوضوح مع تصويت كندا لصالح قرار أممي لوقف إطلاق النار في غزة في ديسمبر/كانون الأول، في حين صرحت لاحقا جولي أن بلادها لم توافق على إصدار تصريح بتصدير منتجات قاتلة عسكرية إلى إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، كما أنها توقفت عن إصدار أي تصاريح على الإطلاق منذ 8 يناير/كانون الثاني.
سياق داخلي ضاغط
يذهب العديد من المحللين السياسيين الكنديين، ومنهم جوردان ليشنتز مديرة برنامج كندا في مؤسسة فريديرك إيبرت، إلى أن مقترح القرار الذي قدمه الحزب الديمقراطي الجديد يمثل محاولة لدفع الحكومة إلى ممارسة المزيد من الضغط نحو تطبيق وقف إطلاق النار.
ولا يمكن فصل هذا الهدف عن التطورات التي شهدها الشارع الكندي في تفاعله مع مجريات الصراع في الشرق الأوسط منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والتي مارست ضغطاً على القوى السياسية ولا سيما الحزب الليبرالي الحاكم وحزب الديمقراطي الجديد.
وفي هذا السياق أعلن جاغميت سينغ رئيس الحزب الديمقراطي الجديد (اليسار التقدمي) عن تلقيهم قرابة نصف مليون رسالة تطالب بمجموعة من الإجراءات منها وقف إطلاق النار.
وأظهر استطلاع رأي في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 أن 71% من الكنديين إما يؤيدون بقوة أو يدعمون إلى حد ما دعوة وقف إطلاق النار، وهي نسبة مقاربة لاستطلاع آخر أجراه معهد أنجوس أظهر أن 65% من المستطلعين يؤيدون وقف إطلاق النار.
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي وصلت عريضة إلى البرلمان تطالب بدعوة ترودو لوقف فوري لإطلاق النار، بعد أن حازت على ما يزيد على 280 ألف توقيع، وهو رقم قياسي للالتماسات الإلكترونية.
سياق خارجي ناقد لإسرائيل
ويرى مراقبون أن التحركات الكندية ليست معزولة عن سياق دولي تتصاعد فيه الانتقادات للحكومة الإسرائيلية ورئيسها بنيامين نتنياهو حتى من داخل المعسكر الغربي.
وأشار الإعلامي الكندي ديفيد كوكرين إلى تزامن إعلان بلاده، وقف تصدير الأسلحة الفتاكة إلى إسرائيل، مع بعض التطورات على الساحة الدولية.
وفي هذا السياق أشار كوكرين إلى الانتقاد الحاد الذي وجهه تشاك شومر زعيم الأغلبية الديمقراطية بمجلس الشيوخ الأميركي للحكومة الإسرائيلية، واتهام مسؤول الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل تل أبيب باستخدام التجويع سلاحاً في الحرب.
الدوافع وراء المقترح
تعد البرلمانية عن الحزب الديمقراطي الجديد عن دائرة إدمنتون هيذر ماكفرسون راعية المقترح، وقد بينت في مقابلة أجرتها مع برنامج “بوليتكيس أند باور” ذائع الصيت في كندا، أن هذا المقترح نتاج عمل مشترك مع محامين دوليين وخبراء وأعضاء في المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي.
كما تطرقت إلى الدوافع وراء تبنيها لهذا المشروع، والتي يأتي على رأسها الرغبة في إنقاذ المدنيين الأبرياء من القتل بعد أن بلغ عدد القتلى من الفلسطينيين أكثر من 30 ألفاً.
ويستند داعمو حظر تصدير الأسلحة إلى تل أبيب إلى أن القانون الكندي الذي يوجب رفض التصريح بتصدير السلع والتقنيات العسكرية في حال احتمال استخدامها لارتكاب انتهاكات خطيرة للقانون الدولي.
وهذا يتسق مع قرار محكمة العدل الدولية التي ترى أنه من المعقول أن ترقى أفعال إسرائيل إلى الإبادة الجماعية، ومع تقرير خبراء الأمم المتحدة الذي طالب كندا، ضمن دول أخرى، بوقف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل محذراً من وقوع المسؤولين عنها تحت طائلة المسؤولية الجنائية.
وفيما يتعلق بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، تطرح ماكفرسون مقاربة تقوم على أن كندا أكدت مراراً اعتمادها حل الدولتين باعتباره المخرج الإستراتيجي لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين، ومن ثم فإن الاعتراف بالدولة الفلسطينية هو السبيل لكي يرى هذا الحل النور.
وبالإضافة إلى ذلك، فهناك 139 بلدا اعترف بالفعل بهذه الدولة، في حين أن هناك بالفعل محاولات في المعسكر الغربي لاتخاذ هذه الخطوة كاقتراح رئيس وزراء إسبانيا على برلمان بلاده فعل ذلك.
لماذا عدّل الحزب الحاكم مسودة المقترح؟
شهدت مرحلة ما قبل تقديم المقترح للتصويت جهوداً مضنية من نواب الحزبين الليبرالي الحاكم والديمقراطي الجديد لتعديل مقترح من الأخير تضمن العديد من النقاط، من أهمها حث الحكومة على الدعوة إلى المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار وتعليق التجارة في جميع السلع والتكنولوجيا العسكرية مع إسرائيل، والاعتراف الرسمي بدولة فلسطين.
وأثمرت هذه الجهود عن تعديلات جوهرية في العديد من البنود، حيث تم الاتفاق على صيغة أكثر مرونة تتضمن “وقف المزيد من التصاريح ونقل صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، والعمل مع الشركاء الدوليين للسعي بنشاط لتحقيق هدف التوصل إلى سلام شامل وعادل ودائم في الشرق الأوسط، بما في ذلك إنشاء دولة فلسطين كجزء من حل الدولتين عن طريق التفاوض”.
ويعزى تحرك نواب الحزب الحاكم إلى العديد من الأسباب، من أهمها أن التصويت على المقترح بصيغته الأولية، بنعم أو لا، كان سيؤدي إلى تضرر شعبية الحزب بين إحدى الكتلتين سواء الداعمة لإسرائيل أو المعارضة للحرب على غزة.
ويتبين أهمية هذا بالنظر إلى أن الانتخابات العامة ستعقد العام القادم في ظل انخفاض غير مسبوق في شعبية رئيس الوزراء وفقاً لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة ماينستريت للأبحاث، والذي أظهر تخلف ترودو عن حزب المحافظين أكبر منافسيه بأكثر من 15 نقطة. في حين عبر 63% من المستطلعة آراؤهم عن وجهة نظر سلبية إلى حد ما أو غير مؤاتية لترودو.
كما أن وصول الليبراليين والديمقراطيين الجدد إلى صيغة تسوية يعزز الاتفاق بين الحزبين، حيث وقع الطرفان اتفاقاً عام 2022 أتاح لحكومة ترودو إمكانية الاستمرار دون التهديد بحجب الثقة عنها في البرلمان من قبل المعارضين، حيث يمتلك الحزبان 181 نائباً من أصل 338.
وجانب آخر يلقي عليه الضوء روبرت روسو المدير السابق لمكتب الشؤون البرلمانية بهيئة الإذاعة الكندية، حيث يرى أن تصويت نواب إقليم كيبيك لصالح الاعتراف الفوري بدولة فلسطينية مرتبط بالنزعات الانفصالية داخل الإقليم، وأن هذا من الأسباب التي دفعت الحكومة إلى المسارعة على العمل لتعديل المقترح نتيجة مخاوفها من التأثير الخطر للسياسة الخارجية على الداخل الكندي.
وكان إقليم كيبيك الناطق بالفرنسية قد عقد استفتاء عام 1995 للانفصال، وفشل بنتيجة 50.6%، في حين ما تزال النزعة الانفصالية نشطة في الإقليم.
تداعيات داخلية
داخلياً خرج الحزب الوطني الديمقراطي كأكبر الرابحين من هذا القرار، حيث أعلن زعيمه جاغميت سينغ أنه استطاع “إجبار الحكومة على التحرك في اتجاه معين” من خلال التعاطي مع مقترح حزبه البرلماني والوصول إلى صيغة تسوية تم إقرارها، وهو ما سيزيد شعبية سينغ وحزبه بين الشرائح الرافضة لاستمرار الحرب.
وفي مقال له، أشار خوان كول أستاذ التاريخ في جامعة ميشيغان إلى أنه من المحتمل أن يكون سينغ مستقبل كندا، وربما شمال جديد متعدد الثقافات، والذي سيكون أقل تعاطفاً مع المشروع القومي الأبيض للصهيونية المسلحة وفق توصيفه.
أما الحزب الليبرالي الحاكم والذي يصفه ألان بيكر السفير الإسرائيلي السابق في كندا بأنه “الصديق تاريخياً لإسرائيل” فيبدو أنه سيتعرض لهزة داخلية نتيجة الخلاف على الموقف من هذا القرار، وقد بدت بوادر ذلك في تصويت 3 نواب ليبراليين ضد القرار، في حين صرح أحدهم وهو أنتوني هاوسفاذر أنه وزملاءه يشعرون بنوع من العزلة، وأنه الآن يفكر في مكانه داخل التجمع الحزبي.
وقد عكست أصداء القرار الداخلية الاستقطاب الذي يعيشه المجتمع الكندي، حيث قال الرئيس التنفيذي لمركز إسرائيل والشؤون اليهودية، شيمون كوفلر فوغل، إن المجتمع الذي يمثله “غاضب ويشعر بخيبة أمل عميقة” في الليبراليين لاختيارهم إسناد السياسة الخارجية إلى من نعتهم بـ”المناهضين لإسرائيل داخل الحزب الوطني الجديد والكتلة الكيبيكية”.
من جانبه قال ستيفن براون، الرئيس التنفيذي للمجلس الوطني للمسلمين الكنديين، إن الكنديين يجب أن يشعروا بالفخر بعد هذا التصويت، واصفاً بـ”التاريخي” الاقتراح الذي “يؤكد حقوق الإنسان الفلسطيني ويقف ضد ذبح المدنيين الأبرياء”.
تداعيات خارجية
على أهمية هذا القرار الكندي ورمزيته فإنه لن يحمل تغييرات جذرية على سياسة أوتاوا، حيث صرحت وزيرة الخارجية أن بلادها لن تغير سياستها الخارجية بناء على ضغوط من المعارضة.
ورغم أن الصادرات الكندية من الأسلحة إلى إسرائيل لا تتجاوز في رقمها القياسي عام 2021 ما يقارب 27 مليون دولار، فإن أهمية هذه الخطوة تنبع من كون كندا أحد أعضاء الحلف الأطلسي “الناتو” ومن أهم حلفاء إسرائيل الغربيين، حيث تتخوف الأخيرة من أن يكون لخطوة لأوتاوا تأثير الدومينو على حلفاء آخرين.
رفض تل أبيب للقرار الكندي جسدته تغريدات وزير خارجيتها يسرائيل كاتس الذي اعتبره “يقوض حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها وأن “التاريخ سيحاكم” كندا “بقسوة”.
كما ظهرت ارتدادات القرار الكندي على الساحة الدولية بشكل مباشر، حيث أشاد السيناتور الأميركي البارز بيرني ساندرز بالقرار الكندي داعياً بلاده إلى القيام بنفس الخطوة، وهو ما تكرر في دعوة النائب البريطاني عن حزب العمال ريتشارد بيرغن حكومة بلاده إلى القيام بإجراء مماثل، في حين قام محتجون بتطويق مصانع أسلحة في إنجلترا وأسكتلندا مطالبين بلادهم بالقيام بنفس الفعل.