يرتبط تاريخ عدد كبير من المعارك والفتوحات الإسلامية الكبرى بشهر رمضان، وعلى رأسها فتح مكة المكرمة ومعركة بدر، أما بعد العصر النبوي وعهد الخلفاء الراشدين، فأكبر فتح إسلامي على الإطلاق هو الذي تمكن من خلاله المسلمون من عبور البحر المتوسط انطلاقا من المغرب ودخول الأندلس.
ومما تحمله تفاصيل هذا الفتح، أن أكبر وأهم الانتصارات والاختراقات الكبرى في السنوات الأربع التي استغرقها، كانت تحصل خلال شهر رمضان، انطلاقا من العبور الأول في عام 91 هـ، ثم تواصل هذا الأمر في السنوات اللاحقة، فكان شهر رمضان يشهد المواجهات الكبرى التي ينتصر فيها المسلمون ويتقدمون على إثرها في العمق الأوروبي.
حضارة الأندلس.. حلم الخليفة عثمان بن عفان
كان الحلم الأندلسي يراود المسلمين منذ تمكن عقبة بن نافع من فتح الشمال الأفريقي حتى وصل عام 62 هـ الموافق 681 م إلى المحيط الأطلسي، وبعد إتمام الفتح تولى موسى بن نصير ولاية أفريقيا جاعلا مدينة القيروان عاصمة له، وبعدما أخذت الأمور تستتبّ، كانت الأنظار تتجه نحو الضفة الشمالية للمتوسط، من أجل فتح الأندلس.
بل إن البعض يرجع فكرة فتح الأندلس إلى الفجر الأول للإسلام، وتحديدا إلى عهد عثمان بن عفان، وإلى هذا الخليفة الراشد شخصيا. وزادت هذه الفكرة إلحاحا على أذهان المسلمين، عندما وصلت الفتوحات الإسلامية الى بعض الجزر القريبة من سواحل إسبانيا الحالية[1].
وتعيد بعض المصادر أصل كلمة الأندلس إلى قبائل الوندال ذات الأصل الجرماني التي احتلت شبه الجزيرة الإيبيرية بين القرنين الثالث والخامس م، وهو ما جعلها تحمل اسم “فانداليسيا”. وقد أطلق المؤرخون والجغرافيون اسم الأندلس على كامل المنطقة التي تضمها دولتا إسبانيا والبرتغال حاليا، وليس الإقليم الواقع في جنوب إسبانيا حاليا فقط[2].
استمر الحكم الإسلامي في الأندلس ثمانية قرون، من نهاية القرن الأول هـ (بداية القرن الثامن م)، إلى غاية أواخر القرن التاسع هـ (القرن 15 م). ويقسّم المختصون هذا الوجود الإسلامي في الأندلس إلى حقب عديدة، أولها مرحلة الفتح التي دامت زهاء أربع سنوات، ثم عهد الولاة التابعين للدولة الأموية في عاصمتها دمشق. ثم جاء عهد الإمارة مع وصول عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس، حيث أسس إمارة مستقلة عن حكم العباسيين. ثم جاء بعد ذلك عصر الخلافة المستقلة تماما، وقد امتد طيلة سنوات القرن الرابع هـ، ليتلوه عصر ملوك الطوائف الذي انتهى بدخول المرابطين قادمين من المغرب إلى الأندلس، ومنهم انتقلت إلى حكم الموحدين، بينما شكلت مملكة غرناطة آخر مرحلة من الوجود الإسلامي في الأندلس الذي انتهى بسقوطها[3].
احتضار المسيحية.. إيقاظ الحضارة النائمة في أوروبا
لا يخلو النقاش حول خطوة الفتح الإسلامي للأندلس من خلافات، إذ يذهب اتجاه إلى أن الداعي لخوض معركة الفتح هو الظّلم الذي لحق بالشعب الإيبيري جرّاء احتلاله من قبل القوطيين، مما حدا بالمسلمين -بدافع نصرة المظلوم وتحقيق العدل- إلى التدخل العسكري، خصوصا مع وجود أطراف نزاع منافسة للسلطة الحاكمة التي استدعت دخول القوات المسلمة إلى شبه الجزيرة.
ويذهب طرف آخر إلى انتقاد هذه المبررات معتبرا إيّاها واهية، لأن الهدف من وراء ذلك غايته التوسع والاغتنام بكل الوسائل المتاحة ليس إلاّ، وإن الأمر يتعلق باحتلال واستعمار حسب نفس الرأي[4].
وفي مقابل هذا الجدل حول وجود خلفيات توسعية ومصلحية دفعت المسلمين إلى عبور البحر الأبيض المتوسط من عدمه، هناك من يفضّل التأكيد على المنافع التي حققها الوجود الإسلامي في الأندلس لمصلحة أوروبا، حيث ساهم الإسلام في إيقاظ ذات حضارية كانت نائمة أو في طور الاحتضار، كما ساهم في إحياء هوية ثقافية قوامها المسيحية التي كانت منهكة حينها، لتنبعث من جديد في حلّة جديدة أكثر قوة وصرامة لما أصبحت تعيش تحدّيا في مواجهة دين جديد.
كل ذلك علاوة على ما حققه المسلمون في الأندلس من إسهامات فكرية وعلمية وفلسفية وفنية ومعمارية، باعتراف كبار المؤرخين الغربيين المنصفين، وهي الإسهامات التي شكّلت حلقة أساسية في النهضة الغربية على مختلف المستويات[5].
توسع الدولة الإسلامية.. بداية التطلع إلى شواطئ الشمال
هناك ارتباط وثيق بين الفتوحات الإسلامية الكبرى وشهر رمضان، فقد شهد العصر الإسلامي الأول فتوحات وانتصارات كبرى جرت خلال هذا الشهر، منها أم المعارك المعروفة باسم فقد جرت في 17 رمضان من العام الثاني هـ، وكانت بمثابة الانتصار العسكري الأول للمسلمين. كما شهد شهر رمضان من العام الثامن هـ حدث فتح مكة بعد أن نكث قريش عهدهم مع الرسول ﷺ، ولم يفِ حلفاؤهم بشروطه، وكان فتح مكة بداية سيطرة الإسلام على الجزيرة العربية بأكملها[6].
فقد بدأت أنظار المسلمين تتطلع نحو الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط، بمجرد أن تمكنوا من بسط سيطرتهم الكاملة على ضفته الجنوبية، وأصبح المجال الإسلامي يمتد من شبه الجزيرة العربية إلى سواحل المحيط الأطلسي.
وما عزز فكرة غزو الأندلس لدى المسلمين هو ذلك الصراع الذي كان يدور بين حاكمها المعروف بلقب لُذريق وبين ملوك مسيحيين مجاورين له، وبعد مراسلات بين هؤلاء الملوك وبين الخليفة الوليد بن عبد الملك، قرر الخليفة الملك تكليف موسى بن نصير بفتح الأندلس، واختار موسى تكليف طارق بن زياد بهذه المهمة العسكرية.
فبعدما تمكن موسى بن نصير من إخضاع جميع القبائل والمناطق التي كان إلحاقها بالدولة الإسلامية متذبذبا بعد الفتح الإسلامي الأول بقيادة عقبة بن نافع؛ بقيت إحدى مدن المغرب عصية على الفتح الإسلامي، وهي مدينة سبتة (محتلة حاليا من طرف إسبانيا)، وكان حاكمها يسمى يوليان ويتمتع بحلف قوي مع ملك الأندلس غيطشة الذي كان يزوده بالمدد عبر البحر.
اغتصاب ابنة يوليان.. حلف مع المسلمين للانتقام
حين مات غيطشة وخلفه في ملك الأندلس الملك لذريق، قام باغتصاب ابنة يوليان التي كان قد أرسلها إلى القصر لتتعلم وتتأدب بأدب الملوك-كما تقول بعض الروايات-، فأقسم يوليان على أن يزيل ملك لذريق، فلم يجد غير التحالف مع المسلمين سبيلا.[7]
في هذا السياق كان حاكم مدينة سبتة يوليان، يحث موسى بن نصير على عبور البحر لغزو الأندلس، مقدما له إغراءات كبيرة بما سيجده من غنائم، ومقدما خدماته كدليل يعرف شبه الجزيرة الأيبيرية جيدا.
بحسّه العسكري وبتوجيه من الخليفة الوليد بن عبد الملك في بعض الروايات؛ احتاط موسى بن نصير من الأمر، وطلب اختبار أرض المعركة الموعودة من خلال شن غارات عبر مجموعات صغيرة من المقاتلين، حتى يستكشف المنطقة، ومن أجل ذلك جهز موسى حملة صغيرة، ووجهها لعبور البحر المتوسط من أقرب نقطة إليها، أي من مدينة سبتة، وجعل على رأسهم قائدا أمازيغيا يدعى طريف بن مالك.
قدم يوليان أربع سفن لنقل الجنود المسلمين، فعبروا البحر ونزلوا بجزيرة تحمل اسم طريف إلى اليوم، نسبة إلى القائد الأمازيغي، وكان ذلك في رمضان 91 هـ، الموافق يوليو عام 710 م، وقد عبر هذا الجيش من سبتة ونزل في جزيرة بالوما التي سُميت فيما بعد باسم جزيرة طريف، وكانت الغاية من هذه الحملة استطلاع وتتبع أخبار العدو ومعرفة طبيعة البلاد والتعرُّف على مواقعها، فعادت هذه الحملة وهي تحمل أخبار مفرحة ومشجعة لعملية فتح الأندلس[8].
عنصر يوليان هذا هو الذي يسمح بتفسير قصة إحراق السفن التي تمثل ذروة سنام القصص التاريخية لعملية فتح الأندلس. فبعد تسهيله الحملة الإسلامية الأولى على الأندلس، بعث يوليان إلى طارق بن زياد يعده بتسهيل نقل جيشه، وتقول بعض الروايات إنه قدم إحدى بناته على سبيل الضمان حيث استبقاها طارق كرهينة، فراح يوليان يبعث سفنه إلى ضفة سبتة لتحمل جنود طارق بن زياد على دفعات نحو الضفة الشمالية، حتى كان طارق بن زياد في الدفعة الأخيرة.
كانت حركة السفن تبدو عادية باعتبارها معتادة على أنشطة التجارة في هذا المضيق البحري. وهنا يتضح لماذا أحرق طارق بن زياد السفن بعد عبور جيشه نحو الأندلس، وذلك لدفع جنوده إلى الاستماتة في القتال وعدم التراجع لاستحالة العودة[9].
طارق بن زياد.. أمازيغي يفتح الأندلس
تُرجّح البحوث أن يكون طارق بن زياد أمازيغي الأصل، وتشير التقديرات إلى أنه ولد عام 50 هـ الموافق لـ670 م. ويفيد كتاب “طارق بن زياد، فاتح الأندلس” الذي أصدره حسين شعيب عن دار الفكر العربي، بأن هذا القائد العسكري الإسلامي ينتمي إلى قبيلة أمازيغية مستقرة في جبال المغرب، وكانت قبيلة معروفة بشدة بطشها واحترافها الغزو وميلها الفطري إلى التمرد وعدم الخضوع، وكانت قبل الفتح الإسلامي تعتنق الوثنية[10].
وتحصى على الأقل ثلاث روايات متناقضة حول أصوله؛ الأولى والأكثر وثوقا تنسبه إلى أمازيغ شمال إفريقيا، والثانية تنسبه إلى الفرس من همدان، والثالثة إلى العرب من حضرموت. لكن المتفق عليه هو أنه كان مولى لموسى بن نصير، وأن موسى كان يثق به ثقة كبيرة، فقد ظل يحمله المسؤوليات إلى أن ولّاه أمر جيشه حين أراد عبور البحر المتوسط نحو الأندلس[11].
أما عن علاقته الأولى بالإسلام، فتتضارب الروايات بين القول إن القائد الأمازيغي أسلم برفقة باقي أفراد قبيلته، بينما تقول رواية أخرى إنه وُلد بعد الفتح الإسلامي الذي قاده عقبة بن نافع، ونشأ بالتالي في ظل تربية إسلامية تقوم على حفظ القرآن والحديث. وتقول الروايات التي ترجح اعتناق طارق بن زياد للوثنية قبل وصول الفتح الإسلامي، إنه أسلم على يد موسى بن نصير، وإن موسى قرّبه منه لدرجة جعلته يولّيه أمر قرطاج بأفريقيا عام 87 ه الموافق 706 م.
أكثر التفسيرات موضوعية لصعود طارق بن زياد في سلم المسؤوليات، هو ما خلّفه الفتح الإسلامي لمنطقة شمال أفريقيا، فقد دخل كثير من القبائل المحلية التي كانت تدين بالوثنية في الإسلام، وباتت بالتالي تشكل القوة الضاربة في الجيش الإسلامي، وهو ما يعني بالضرورة ترجيح كفة تولي شخصية أمازيغية مهمة القيادة، لما ستمتاز به من قدرة على الضبط والتواصل مع جموع المقاتلين[12].
والي طنجة.. استعدادات العبور الثاني إلى أيبيريا
قبل تكليف طارق بن زياد بالمهمة التي ستدخل كتب التاريخ وتغيّر وجه وجغرافية العالم؛ أي فتح الأندلس، ولاه موسى بن نصير على مدينة طنجة المغربية، كخطوة أخيرة قبل عبور البحر المتوسط[13].
ومن الآثار القليلة التي احتفظت بها سجلات التاريخ عن مرحلة إقامة طارق بن زياد في مدينة طنجة وحكمه لها ما يشير إلى مسجد بناه هذا القائد الإسلامي في منطقة الشرافات غير البعيدة عن مدينة شفشاون الجبلية المغربية، وهو المسجد الذي يرجّح أن يكون أول مسجد بُني في بلاد المغرب الأقصى.
يحمل هذا المسجد القائم حتى الآن اسم طارق بن زياد، ويعتبره بعض المؤرخين منطلقا لرحلة المسلمين نحو فتح الأندلس، فالمنطقة الموجود فيها كانت معسكرا لجيش طارق بن زياد خلال فترة حكمه لمدينة طنجة ومحيطها، وهو المعسكر الذي تطلّب بناء مسجد.
وقد اجتاز طارق بن زياد المضيق بجيشه يوم 29 أبريل/نيسان عام 711، وفي مخيلته حلم اكتساح شبه الجزيرة الأيبيرية كاملا، وضمها إلى أرض الخلافة الأموية، وقبل مواجهته لذريق، بحث طارق بن زياد عن أرض تصلح للقتال استعدادا للمعركة الكبرى، حتى وجد منطقة تُسمى وادي برباط، وتسميها بعض المصادر أيضا وادي لُكَّة[14].
رمضان المعظم.. شهر الانتصارات الإسلامية في السنوات الأربع
لم يكن الفتح الإسلامي للأندلس معركة واحدة جرى خلالها عبور البحر الأبيض المتوسط، بل كانت رحلة طويلة تخللتها معارك كبرى، يشهد التاريخ أن أغلبها جرى في شهر رمضان.
ففي هذا الشهر من سنة 91 هـ وقع العبور الأول الذي أقدم عليه الجانب الإسلامي على سبيل الاختبار واستطلاع الوضع في الضفة الشمالية لبحر المتوسط، وعاد القائد العسكري طريف بن مالك من تلك الغزوة بغنائم وفيرة وانتصارات عسكرية كاسحة بسط معها السيطرة على الجزيرة الخضراء[15].
وفي شهر رمضان من السنة الموالية -أي 92 ه- خاض المسلمون معركة وادي لكة الشهيرة التي كانت حاسمة في تمهيد الطريق للاكتساح الإسلامي لشبه الجزيرة الأيبيرية، وقد قضت هذه المعركة على جيش الملك القوطي-الجرماني المعروف باسم لذريق.
وقد تطلّب حجم المعركة من المسلمين تعبئة قرابة 7000 مقاتل جلّهم من الأمازيغ، يتقدمهم طارق بن زياد بدعم من يوليان حاكم سبتة، وهذه المعركة هي التي شهدت إلقاء طارق بن زياد للخطبة الشهيرة المنسوبة إليه، بعدما أحرق السفن كدليل على أن جيش المسلمين ليس أمامه أي خيار للتراجع.
وتفسّر بعض المصادر النصر الإسلامي في هذه المعركة باستراتيجية طارق بن زياد الذي لاحظ التفوق العددي للجيش القوطي، فركّز قوته في استهداف الملك لذريق شخصيا، ليتمكن من قتله ومن ثم إرباك صفوف جيشه لتتوالى انتصارات المسلمين بعد تلك الموقعة[16].
وفي رمضان الموالي -أي سنة 93 هـ- عبر موسى بن نصير بنفسه نحو الأندلس، وكان يرافقه جيش من المقاتلين أغلبهم من العرب، ليلتحق بجيش طارق بن زياد ويدعمه في زحفه المتواصل على الأراضي الأيبيرية.
وكان من أول ما قام به موسى بن نصير بعد عبوره نحو الجزيرة الخضراء، تشييد مسجد الرايات في المكان الذي اجتمعت فيه رايات الجيوش الإسلامية للتشاور والتخطيط لزحفها الأول، وقد سلك موسى طريقا مختلفة عن تلك التي مر بها جيش طارق بن زياد، ففتح مدنا جديدة على رأسها إشبيلية شرقا، بينما كان الجيش الذي يقوده ابنه عبد العزيز قد استكمل فتح مدن الجنوب الغربي من إسبانيا الحالية[17].
وحلّ شهر رمضان من سنة 94 هـ، وتمكن جيش المسلمين من فتح مدينة ماردة بعدما استعصت عليهم لفترة طويلة، وكان لهذا الفتح فائدة مزدوجة، فإلى جانب ضم مدينة حصينة ومحاطة بتضاريس وعرة إلى مجال النفوذ الإسلامي، كان اقتحام حصون ماردة يعني أيضا القضاء على فلول الجيش القوطي وكبار قادته العسكريين الذين لاذوا إثر هزيمتهم في معركة وادي لكة لمدينة ماردة وتحصنوا بداخلها[18].
بلاط الشهداء.. كبوة أوقفت المد الإسلامي في أوروبا
لم يكد تمضي على فتح الأندلس سنوات قليلة، حتى نجح المسلمون في فتح جنوب فرنسا واجتياح ولاياتها، وكانت تعرف في ذلك الحين بالأرض الكبيرة أو بلاد الغال، وكان بطل هذه الفتوحات هو والي الأندلس السمح بن مالك.
في إحدى غزواته التقى السمح بن مالك بقوات الفرنجة في منطقة قريبة من مدينة تولوز، ونشبت معركة هائلة ثبت فيها المسلمون على قلة عددهم وأبدوا شجاعة نادرة، وفي الوقت الذي تأرجح فيه النصر بين الفريقين سقط السمح بن مالك شهيدا من فوق جواده في 9 من ذي الحجة 102 ه، فاضطربت صفوف الجيش واختل نظامه وتقهقر المسلمون بعد أن فقدوا زهرة جندهم[19].
وعلى إثر استشهاد السمح بن مالك تولّى عبد الرحمن الغافقي القيادة العامة للجيش وولاية الأندلس، حتى تنظر الخلافة الأموية وترى رأيها، فقضى الغافقي بضعة أشهر في تنظيم أحوال البلاد وإصلاح الأمور حتى تولّى عنبسة بن سحيم الكلبي ولاية الأندلس، فاستكمل ما بدأه الغافقي من خطط الإصلاح وتنظيم شؤون ولايته والاستعداد لمواصلة الفتح، حتى إذا تهيأ له ذلك سار بجيشه في أواخر سنة 105 هـ، فأتم فتح إقليم سبتمانيا، وواصل سيره حتى بلغ مدينة أوتون في أعالي نهر الرون، وبسط سلطانه في شرق جنوبي فرنسا. وفي أثناء عودته إلى الجنوب داهمته جموع كبيرة من الفرنج، فأصيب في هذه المعركة قبل أن ينجده باقي جيشه، ثم لم يلبث أن تُوفِّي على إثر إصابته[20].
بعد وفاة عنبسة بن سحيم الكلبي، توقف الفتح وانشغلت الأندلس بالفتن والثورات، ولم ينجح الولاة الستة الذين تعاقبوا على الأندلس في إعادة الهدوء والنظام إليها والسيطرة على مقاليد الأمور، حتى تولى عبد الرحمن الغافقي أمور الأندلس في سنة 112 هـ.
كان الغافقي حاكما عادلا قديرا على إدارة شؤون دولته، وتجمع الروايات التاريخية على كريم صفاته وتشيد بعدله، غير أن هذا الاستقرار والنظام الذي حل بالأندلس نغصته تحركات من الفرنج والقوط واستعداد لمهاجمة المواقع الإسلامية في الشمال، فأعلن عبد الرحمن عزمه على الفتح، وتدفق إليه المجاهدون من كل جهة حتى بلغوا ما بين سبعين ومائة ألف رجل، وقد عبر الغافقي بجيشه سنة 114 ه نحو بلاد الغال (فرنسا)، وبعد انتصارات متتالية، فوجئ الغافقي بقوات جرارة بقيادة شارل مارتل، وكانت تفوق جيش المسلمين في الكثرة.
دارت معركة طاحنة بين الجيشين في مكان ينعت بالبلاط، وهو ما يفسر تسمية المعركة ببلاط الشهداء. وفي أحد أيام رمضان من تلك السنة، نشبت مواجهة هائلة تخللها اختراق لصفوف المسلمين من طرف فرسان الفرنجة، مما نجم عنه انهزام الجيش الإسلامي واضطراره للانسحاب ليلا، وهو الحدث الذي يعتبره بعض المؤرخين نهاية لرحلة الفتح الإسلامي في أوروبا التي بدأت من الأندلس[21].
خليفة دمشق الغاضب.. نهايات غامضة لأبطال الفتح
رغم دوره البطولي المشهود، فإن كتب التاريخ تحتفظ بغموض كبير حول مصير القائد العسكري لفتح الأندلس، فقد قاد طارق بن زياد الدولة الأموية إلى بسط سيطرتها على شبه الجزيرة الأيبيرية، لكنه انتهى جنديا مجهولا لا قبر ولا ذكرى له، وآخر عهد لسجلات التاريخ به هو حين وصل إلى دمشق عاصمة الخلافة وقتها، ليسلم مغانم الفتح الكبير، ثم ليختفي من شاشات التاريخ.
فبعد إنهائهما عملية الفتح توجه موسى بن نصير وطارق بن زياد نحو عاصمة الخلافة الإسلامية بالشام، ومعهما المئات من أفراد العائلات الحاكمة سابقا في الأندلس، وكميات كبيرة من الغنائم، وصادفت عودتهما وفاة الخليفة الوليد الذي خلفه أخوه سليمان، فطلب من موسى بن نصير تأخير وصوله إلى عاصمة الخلافة إلى حين ما بعد وفاة الوليد، كي يستأثر بالغنائم وينسب فتح الأندلس لنفسه، وهو ما لم يستجب له قائدا الفتح الإسلامي في أقصى الغرب الأوروبي، مما جعلهما يواجهان غضب سليمان بن عبد الملك بعد توليه الخلافة[22].
سارع الخليفة الجديد سليمان إلى عزل موسى بن نصير وقتل ابنه عبد العزيز الذي شارك في فتح الأندلس، بينما دخل طارق بن زياد مرحلة نسيان كبير، حيث غادر سجلات التاريخ في هذه المرحلة ولم يعد يظهر له أثر، وتضاربت الأخبار بين قتله ونفيه وبين القول إنه تحول إلى رجل فقير وتائه في دروب الشام، إلى أن توفي حوالي عام 101 ه الموافق 720 م[23].
المصادر
[1] عبد الرحمان علي الحجي، التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي إلى سقوط غرناطة، دار القلم، دمشق-بيروت، 1981
[2] عبد الرحمان علي الحجي، التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي إلى سقوط غرناطة، دار القلم، دمشق-بيروت، 1981
[3] عبد الرحمان علي الحجي، التاريخ الأندلسي من الفتح الإسلامي إلى سقوط غرناطة، دار القلم، دمشق-بيروت، 1981
[4] https://www.aljazeera.net/blogs/2019/2/21/من-الرابح-الحقيقي-من-فتح-الأندلس
[5] https://www.aljazeera.net/blogs/2019/2/21/من-الرابح-الحقيقي-من-فتح-الأندلس
[6] https://www.aljazeera.net/blogs/2019/5/21/رمضان-شهر-الانتصارات-من-غزوة-بدر-إلى
[7] https://alarab.qa/article/10/07/2015/601131-فتح-الأندلس-من-أعظم-الانتصارات-برمضان
[8] https://tipyan.com/the-role-of-non-arabs-in-conquests-tariq-ibn-ziyad
[9] /تقارير/طارق-بن-زياد-نبش-في-لغز-المصير-المجهول/
[10] “طارق بن زياد، فاتح الاندلس”، شخصيات من التاريخ، حسين شعيب، دار الفكر العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2004
[11] /تقارير/طارق-بن-زياد-نبش-في-لغز-المصير-المجهول/
[12] “طارق بن زياد، فاتح الاندلس”، شخصيات من التاريخ، حسين شعيب، دار الفكر العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2004
[13] “رجال نفتقدهم”، الشيخ محمد صويد، المركز الإسلامي للإعلام والإنماء
[14] https://tipyan.com/the-role-of-non-arabs-in-conquests-tariq-ibn-ziyad
[15] https://www.albayan.co.uk/Article2.aspx?id=6675
[16] https://www.albayan.co.uk/Article2.aspx?id=6675
[17] https://www.albayan.co.uk/Article2.aspx?id=6675
[18] https://www.albayan.co.uk/Article2.aspx?id=6675
[19] https://archive.islamonline.net/9258
[20] https://archive.islamonline.net/9258
[21] https://archive.islamonline.net/9258
[22] /تقارير/طارق-بن-زياد-نبش-في-لغز-المصير-المجهول/
[23] /تقارير/طارق-بن-زياد-نبش-في-لغز-المصير-المجهول/