عاد البطل الأولمبي “مو فرح” قبل عامين إلى عناوين الصحف العالمية بقوة، لكن هذه المرة ليس لكونه فائزا في سباق ركض جديد، أو بعد حصوله على ميدالية ذهبية أخرى، بل لأنه صرح باعترافات مؤلمة أخفاها سنين عددا، خلال فيلم وثائقي لهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” بأنه وصل إلى بريطانيا بهوية طفل آخر، وقد استُغل ليعمل خادما منزليا.
وقد حصلت الجزيرة الوثائقية على حقوق هذا الفيلم الذي حمل عنوان “حقيقة مو فرح”، ومدته حوالي 58 دقيقة، ومع أنه يشبه سيرة ذاتية وثائقية، فإن ذلك لم يمنعه أن يكون مشوقا في تدرجه بالكشف عن حقيقة ما حدث لبطل العالم مو فرح، أو حسين عبدي كاهين.
وللفيلم أبعاد كثيرة متداخلة، منها أزمة هوية المهاجرين في بريطانيا، وكواليس صور المشاهير البراقة والبطولية، فمع أن هذا البطل الأولمبي كان قد ألّف كتابا قال فيه إن والديه عاشا في بريطانيا، فإن الحقيقة مختلفة تماما، فهما لم يدخلاها قط.
حقيقة مو فرح.. مغامرة بعرض حكاية أنهكها الإعلام
غامرت الجزيرة الوثائقية بعرض هذا الفيلم، مع أنه لن يقدم أي مفاجآت بعد تلك الأسرار التي كشفها الإعلام البريطاني. وفي وقت تقدم فيه منصات المشاهدة عشرات الأفلام التي تتناول حياة رياضيين ومسيرة نجاحهم وعثراتهم أيضا، فقد لقي هذا الفيلم صدى واسعا لا يزال يتردد، حتى بعد مرور وقت على بثه.
فقد كانت مغامرة في محلها، والسبب كون الفيلم حرص على كشف جوانب أخرى من حياة مو فرح، أشبع بها فضول المتلقين، فأخذهم إلى كل الحكاية بحذافيرها، من مكان ولادته في أرض الصومال، إلى مكان قبر والده الذي قُتل خلال الحرب الأهلية وهو ابن 4 سنين حينها، فتمزقت عائلته بعد مقتل أبيه، وساهم أقارب له في جريمة الاتجار بالبشر، بسبب إرساله إلى بريطانيا دون معرفة والدته، وهي جريمة سكت عنها حسين أو “مو فرح” أكثر من 20 عاما.
“حقيقة مو فرح” فيلم وثائقي مشوق، لا تستطيع إزاحة نظرك عنه، وعن مو فرح نفسه ذي الملامح المتميزة والعينين الواسعتين، فمع أنه كان شاب الملامح حيويا ذا حركة مستمرة في جميع مشاهد الفيلم، فإنه لم يستطع إخفاء حزن عميق في عينيه.
لقد قُتلت روح هذا الرجل في وقت قديم من طفولته، حين خُطف من عائلته وأخيه التوأم ووالدته، وأصبح فجأة مسؤولا عن العناية بطفلين رضيعين، هما ابنا امرأة من جيبوتي جلبته لبريطانيا، وعيّنته خادما في منزلها.
ولم يساعده على تجاوز الألم سوى الركض في الميدان، ذلك أسهل ما يمكنه فعله لينسى، لذلك
“كان الفوز سهلا أيضا” كما تقول زوجته في الفيلم. وقد توّج بذهبيتين في سباقي 5 و10 آلاف متر في أولمبياد لندن 2012 وريو 2016، كما فاز خلال مسيرته بستة ألقاب عالمية في هاتين المسافتين.
اعترافات حسين.. بوح بالحقيقة في سبيل إرضاء الذات والأطفال
يقول مو فرح في بداية الفيلم: الحقيقة هي أنني لست كما تظنون، فمعظم الناس يعرفونني باسم مو فرح، لكن هذا ليس اسمي، وليس الحقيقة. لقد وُلدت في أرض الصومال، ومع أني قلت ما قلت في الماضي، فإن والديَّ لم يعيشا في المملكة المتحدة على الإطلاق.
ثم يتحدث عن خيط القصة الأول قائلا: عندما كنتُ ابن 4 سنين، قُتل والدي في الحرب الأهلية، وتمزقت العائلة، ثم انفصلت عن والدتي، وأُحضرت إلى المملكة المتحدة بشكل غير قانوني، تحت اسم طفل آخر اسمه محمد فرح.
أصبح حسين أول رياضي بريطاني بسباقات المضمار والميدان يفوز بأربع ميداليات ذهبية أولمبية، وقد قرّر الخروج إلى العلن للتحدث عن هويته الحقيقية، بعدما شجعه أطفاله كي يكون صادقا في رواية ماضيه، وهو يقول: هذا هو السبب الرئيس في سرد قصتي، لأني أريد الشعور بأني طبيعي، ولا أريد الشعور بأني أخفي شيئا ما.
وتقول زوجة فرح، متحدثة عن العام الذي سبق زفافهما عام 2010: كان هناك كثير من القطع المفقودة في قصته، واجتهدت في استجواباتي حتى عرفت الحقيقة.
وخلال الفيلم، قال فرح إنه ظن نفسه ذاهبا إلى أوروبا للعيش مع أقاربه، وكان متحمسا لركوب الطائرة، ويتذكر بعدها أنه مر عبر نقاط تفتيش جوازات السفر في بريطانيا تحت اسم محمد وهو ابن 9 أعوام، بعدما حثته المرأة التي اختطفته أن يردد اسمه محمد، لا حسين.
يقول: كانت لدي جميع تفاصيل الاتصال بأقاربي على ورقة، وحين وصلنا منزل المرأة انتزعتها مني ومزقتها أمامي، ثم وضعتها في سلة المهملات، وفي تلك اللحظة أدركت أني وقعت في مشكلة.
وكان معلموه قلقين بشأنه، فهو صبي صغير لا يعرف من اللغة الإنجليزية إلا قليلا، ويدخل في شجارات طوال الوقت، ولم يركز في الدراسة قط، ويصل إلى المدرسة غير مهندم، فجعلهم ذلك يشكّون في هوية المرأة التي تدّعي أنها والدته، وفي نهاية المطاف، أسرّ بهويته الحقيقية لمُدرس التربية البدنية المتعاطف “آلان واتكينسون”.
“أن ينال الجنسية حتى يستطيع تمثيل بريطانيا العظمى”
كان “آلان واتكينسون” ومعلمون آخرون هم الذين اتصلوا بالخدمات الاجتماعية الحكومية، فأخذوه ونقلوه لكي يعيش مع والدة زميله في المدرسة، وهي امرأة صومالية تدعى “كينزي”، ويناديها باسم خالتي، وسيكشف لاحقا في الفيلم أنها قريبة مو فرح الحقيقي. يقول فرح: لقد اهتمت بي حقا، وكنت سعيدا هناك، وقد بقيت 7 سنوات معها ومع أطفالها.
وخلال تلك الحقبة السعيدة، اختير فرح البالغ من العمر 14 عاما ليركض باسم بريطانيا في واحد من السباقات، ولكن كانت هناك مشكلة، فلم تكن لديه أوراق تثبت أنه مواطن بريطاني، لذلك أمطرت المدرسة وزارة الداخلية بالرسائل.
وجاء في إحداها: أكتب إليك بخصوص تلميذ لدينا في المدرسة اسمه محمد فرح، وهو طالب لجوء من الصومال، ونود بشدة أن ينال الجنسية البريطانية حتى يستطيع المشاركة في بطولة العالم لألعاب القوى، وتمثيل بريطانيا العظمى.
وقد نجحت تلك المساعي، ففي 25 يوليو/ تموز 2000، أصبح مو فرح مواطنا بريطانيا، مع أن مو فرح الحقيقي لم تطأ قدمه المملكة المتحدة في ذلك الوقت.
“أن أكون قادرا على النظر في عيون الآخرين”.. كشف السر الكبير
يقول مو فرح: كثيرا ما أفكر في محمد فرح الآخر، الصبي الذي صعدت مكانه على متن تلك الطائرة، وآمل حقا أن يكون بخير أينما كان، فأنا أحمل اسمه وقد يتسبب ذلك الآن بمشاكل لي ولعائلتي، والشيء المهم لدي هو أن أكون قادرا فقط على النظر في عيون الآخرين، لا سيما أطفالي، وأن أكون صادقا حقا.
ويرى فرح أن ألعاب القوى هي التي مكنته من الهروب من واقعه، ويقول: الشيء الوحيد الذي كنت قادرا على فعله للابتعاد عن هذا الوضع، هو الخروج للهواء الطلق والركض.
هذا هو الكشف الكبير لهذا الفيلم الوثائقي الذي أعدته قناة “بي بي سي” وعرضته الجزيرة الوثائقية، وقد أُعدّ بشكل جميل ومفجع في كثير من الأحيان، لكون الأيقونة البريطانية الرياضية العظيمة مهاجرا غير شرعي، كان يخفي الحقيقة في سيرته الذاتية المكتوبة، وفي المقابلات الإعلامية.
حتى أنه أخفى الأمر زمنا عن زوجته وأولاده، لكنه ظل يكرر في الفيلم -كأنه يريد أن يُعلِم الجميع-: مع كل ما قلته في الماضي، لم يعش والداي قط في المملكة المتحدة، وعندما كنتُ ابن 4 سنين قُتل والدي في الحرب الأهلية، وتمزقت عائلتنا. ولقد انفصلت عن والدتي، وأُدخلتُ إلى المملكة المتحدة بشكل غير قانوني، تحت اسم طفل آخر.
وبمجرد وصوله إلى شقة في غرب لندن، كُلف بأن يعمل مثل كثير من ضحايا الاتجار بالبشر قبله وبعده. يقول: منذ اليوم الأول، لم يكن ما فعلته المرأة صحيحا، ولم أعامل على أني جزء من العائلة، بل لقد كنت دائما ذلك الطفل الذي يفعل كل شيء، ينظف الشقة، ويغسّل أطفالها، ويطبخ لهم. حتى أنه قيل لي إنني لا أستطيع مغادرة المنزل للذهاب إلى المدرسة، وأتذكر أنها رضخت لاحقا، وتركتني أذهب إلى المدرسة.
يروي فرح هذه الطفولة القاتمة، لكن حالته تهون إذا قورنت بحالة كثير من المهاجرين، عاشوا في المملكة المتحدة عقودا من الزمن بلا أوراق صحيحة، ثم أعيدوا إلى “أوطانهم”، بموجب قواعد وزارة الداخلية القاسية المستوحاة من حزب المحافظين.
لقاء محمد المزيف بالأصلي.. مفاجأة المشهد الختامي
إذن، فقد كان هناك اثنان طوال الوقت، محمد فرح مزيف يحقق بطولات عالمية لبريطانيا العظمى، وآخر حقيقي منسي في الصومال يراقب كل شيء من بعيد. ولا أحد يعرف طوال الفيلم لماذا حل ذاك بدلا عن هذا، فهذا أمر لم يستطع حسين كاهين اكتشافه، لكنه بالتأكيد لم يكن بديلا عن قتيل ما أو مفقود آخر كما كان يخشى، بل إن محمد الحقيقي راضٍ تماما بهذه النهاية الغريبة، وذلك ما نراه في مشهد الفيلم الختامي، حين تحدثا على تطبيق “واتساب”، وتواعدا يوما باللقاء.
كما أنه يحادثه حين يزور المرأة الصومالية الطيبة “كينزي” التي ربته مع أبنائها، في لقاء مؤثر، وتبدي انفتاحها وتفهمها حين تقول له إنه يجب أن يصارح العالم بحقيقته، وتعطيه أجوبة كثيرة كان ينتظرها، منها أن محمد فرح الحقيقي هو ابن أخيها، لكن لا أحد يعرف لماذا وصل حسين عبدي كاهين بديلا عنه، ولم يصل الطفل الحقيقي للبلاد.
ولا يزال هناك لغز لم يبح به الفيلم، كما لم يعرض إطلاقا صورة أو اسم المرأة التي خطفته واتخذته خادما لديها، وربما كان هذا هو الجانب البوليسي الذي يفتقده الفيلم حقا.
زيارة القرية.. عودة إلى مسقط الرأس للقاء العائلة
قبل المشهد الأخير من الفيلم، نجد محمد فرح يزور قريته في أرض الصومال مع ابنه الصغير حسين الذي سماه تيمنا باسمه الحقيقي، ويقابل والدته وأخاه التوأم، ويتحدثون عن السنوات الضائعة من عمره وهو بعيد عنهم، ثم يزور قبر والده أيضا.
وقد يرى البعض أنه لولا وصوله إلى بريطانيا لما اشتهر، فهناك أطلق العنان لموهبته المدفونة لتنطلق في رحلة الاحتراف، لكن ما جدوى المجد أمام حزن طفولة دفين، وذكرى أليمة لخطفه من حضن والدته؟
سيكون لقصة فرح هذه صدى لدى عشرات الآلاف من ضحايا الاتجار بالبشر، ممن يعيشون الآن في المملكة المتحدة وأوروبا، وكثير منهم استُغلوا بشكل بشع، وربما تشجعهم حكاية مثل هذه يوما على الحديث، سواء كانوا أبطالا ونجوما أو أناسا عاديين.
وعلى جانب آخر، ربما تغير قوانين الهجرة الظالمة في العالم معاييرها، فلا يكون على المهاجر الفوز بأربع ميداليات ذهبية كي يستحق الجنسية الأجنبية.