في كل رمضان يتجدد الحنين لدى المغاربة في مختلف المناطق، سواء في الوسط الحضري أو القروي أو الريف إلى كثير من الأمكنة والفضاءات، فضلا عن الكثير من الطقوس والعادات المتجذرة في أعماق التاريخ.
وتحتل المساجد -ولا سيما القديمة منها- مكانة كبيرة في وجدان الناس كبارا وصغارا، إذ يحفونها قبل دخول شهر رمضان بكثير من الاهتمام والتقدير، فيعمدون إلى إعادة طلائها وتنظيفها وغسل جدرانهاوتغيير فراشها أو تنظيفها وهم فرحون مستبشرون.
واقترن شهر رمضان المبارك في التاريخ المغربيبعدد من المزايا والأحداث والقضايا الكبرى التي شكلت مادة دسمة لكثير من الباحثين والأكاديميين، ومرجعا أساسيا للطلبة وأهل العلم الذين يرون في رمضان شهر العمل والغفران، وشهر الانتصارات والإنجازات والكرامات.
وخلال شهر رمضان يمكن جرد كثير من الأحداث التي ميّزت التاريخ المغربي سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي، أو على المستوى الرياضي والثقافي والفني والسينمائي وغير ذلك.
عهد السلطان يحيى بن إدريس.. ميلاد الجامعة الأولى
من بين المزايا التي يذكرها التاريخ المغربي بفخر واعتزاز في هذا الشهر الكريم مبادرة تأسيس أول جامعة في التاريخ وفي العالم العربي والإسلامي، وذلك بمدينة فاس كما صنفتها منظمة اليونسكو، وهي جامعة القرويين.
ووفقا لكثير من الدراسات والبحوث التاريخية والعلمية أنشئت هذه الجامعة من قبل فاطمة الفهرية، تحت إشراف السلطان يحيى بن إدريس الثاني، وذلك في بداية شهر رمضان المبارك سنة 245هـ، الموافق للثاني من ديسمبر/كانون الأول 859 م.
وتصنف هذه الجامعة بأنها أقدم جامعة في العالم، إذ سبقت الجامعات الأوروبية بقرون، وشكلت وجهة مفضلة لكثير من العلماء المسلمين لطلب العلم والارتواء من معينها المعرفي، لعل أبرزهم مؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون صاحب المقدمة الشهيرة.
فاطمة الفهرية.. هجرة من القيروان إلى فاس
نعود إلى البدايات الأولى لهذه المعلمة الحضارية التي أنجزت حولها الكثير من التقارير التلفزيونية والأفلام الوثائقية، فقد عمدت فاطمة الفهرية إلى التفكير في إنشاء جامع القرويين، ليكون لها صدقة جارية، وعملا إنسانيا ينتفع به الناس، ويجزيها الله تعالى به خير الجزاء يوم القيامة.
ومعروف أن فاطمة بنت محمد الفهرية وُلدت سنة 800 ميلادية في مدينة القيروان التونسية، من أبيها العربي محمد بن عبد الله الفهري الذييعود نسبه إلى عقبة بن نافع الفهري فاتح المغرب الأقصى، وقد هاجرت من القيروان التونسية، ثم استقرت في مدينة فاس.
وتناول سيرة فاطمة الفهرية وعلاقتها ببناء القرويين كثير من الدراسات والمصادر، خاصة ابن خلدون، وابن أبي زرع في مؤلفه الشهير “روضة القرطاس”، والمؤرخ المغربي عبد الهادي التازي الذي تناولها خلال أطروحته الأكاديمية والجامعية لنيل شهادة الدكتوراه.
كما تناول سيرتها المؤرخ المغربي عبد الواحد المراكشي في كتابه “المعجب في تلخيص أخبار المغرب” في القرن السادس، فضلا عن المؤرخ التونسي حسن حسني الذي تناولها من خلال مؤلفه القيّم “شهيرات التونسيات”، والمنتصر بالله الكتاني في كتابه “فاس عاصمة الأدارسة”.
فاطمة الفهرية وجامع القرويين.. حصاد 18 عاما من الصوم والبناء
عُرفت فاطمة الفهري بكثرة الإنفاق والإحسان، خاصة في شهر رمضان، فكانت تغدق أموالها التي ورثتها عن والدها الغني وزوجها بسخاء على المساكين والمحتاجين، وأيضا على طلاب العلم والمعرفة، فلُقبت بالمرأة الصالحة والكريمة وبأم البنين.
كما يُضيف بعض الدراسات أن فاطمة الفهرية ظلت صائمة متعبدة وناسكة طيلة فترة بناء الجامع الذي استغرق 18 عاما (من 245-263 هـ)، ولم تزل كذلك حتى انتهت أشغال البناء، فصلت في مسجده حمدا لله وشكرا له على فضله ونعمه، وقد سمته بالقرويين تيمنا بمدينة القيروان، العاصمة الأفريقية آنذاك ومسقط رأسها.
وفيما تحكيه الدراسات التاريخية فإن فاطمة أصرت على أن يُبنى مسجد القرويين في البداية من تراب الأرض التي اشترتها، كما حفرت بئرا في فناء المسجد ليرتوي منه البناؤون والعاملون،وكانت تقف على كل كبيرة وصغيرة حتى انتهاء الأشغال.
معجزة العمارة الإسلامية.. تحفة تجذب اهتمام السلاطين
تبرز القيمة الفنية والجمالية للهندسة المعمارية الراقية للمسجد منذ تدشينه وحتى الآنفي كل مرافقه وأسسه وزواياه وفنائه الواسع، ومتانة أسواره وزخرفته الإسلامية المنمقة، وأبوابه المقوّسة الهلالية التي تحمل الكثير من الإشارات الرامزة للهوية الإسلامية المتفتحة الحاضنة لكل القيم والقلوب بسلام.
كما يظهر باقي المعالم المعمارية في هذا الصرح الإسلامي الفريد دراية واسعة بعلوم البناء والهندسة لدى فاطمة الفهرية، فقد تحدثت بعض الدراسات عن اهتمام هذه المرأة بمجال البناء، فكانت تقف على كل كبيرة وصغيرة أثناء البناء، حتى يُنجَز المسجد في أحسن شكل وهيئة.
ومع مرور السنين شهد جامع القرويين اهتماما كبيرا من قبل سلاطين الدولة المغربية منذ عهد الأدارسة، حتى تحول إلى قبلة لحفظة القران الكريم وطلبة العلم من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، خاصة من القارة الأفريقية.
وتروي كتب التاريخ أن الجامع لم يتحول إلى جامعة إلا سنة 877 م -حسب موسوعة غينيس-، فكانت تقام بفنائه الواسع في البداية حلقات النقاش العلمية، كما كان شيوخ القرويين يُقدمون محاضراتهم ودروسهم للطلبة وأهل العلم.
منارة العصر المريني.. إحدى أقدم المكتبات في العالم
تقول الدراسات إن الجامع في عهد الدولة المرابطية خلال القرن الخامس الهجري شهد قفزة نوعية من حيث إنشاء كراسي علمية جامعية جديدة، كما اشتهر شهرة واسعة في عصر الدولة المرينية التي اتخذت من فاس عاصمة لها خلال القرن الرابع عشر.
وزاد إشعاع الجامعة في العهد المريني، فشهدت توسيعات مهمة، فإلى جانب مرافق جامعة القرويين الأخرى فقد أحدثت مكتبة فريدة اعتبرها دارسون من أقدم المكتبات في العالم، لينهل منها طلاب العلم، ولتكون منارة فكرية في ذلك العصر، ومرجعا أساسيا للبحث والتمحيص والتأليف.
وضمت المكتبة الآلاف من أمهات الكتب العلمية والمجلدات والمؤلفات النفيسة في مختلف الأصناف، فضلا عن مخطوطات نادرة للقرآن الكريم والحديث النبوي، ومنها ما كُتب على رق الغزال، ولا يزال موجودا حتى الآن.
منافسة عواصم الحضارة الكبرى.. ثورة فاس العلمية
استحدثت الجامعة كراسي علمية متخصصة مهتمة بعلوم الفلك والرياضيات والأدب والطب وغيرها، وهو ما حوّل مدينة فاس إلى عاصمة علمية، وقبلة لطالب العلم من مختلف الأقطار.
بهذا الإنجاز العلمي الراقي والتفوق المعرفي الكبير لجامعة القرويين وكراسيها ومكتبتها النادرة التي تجاوزت صيت مكتبات أخرى كمكتبة قرطبة؛ أصبحت حديث أهل العلم في كل مكان، فتحوّلت فاس في تلك الحقبة الزمنية إلى مركز علمي عالمي تغري الطلبة من مختلف الأصقاع والبقاع.
وتحوّلت مدينة فاس خلال عهد المرينيين والزناتيين والمرابطين والموحدين إلى حاضنة إسلامية ذائعة الصيت، فأصبحت تنافس العواصم العلمية والحضارية في تلك الفترة، خاصة ببغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة وغيرها، وذلك من خلال جامع القرويين الذي شهد توسيعات وتحسينات كثيرة، وتحول من جامع إلى جامعة ومكتبة فريدة.
وبوفاة فاطمة الفهرية بين سنتي 878 و 880 ميلادية زاد اهتمام سلاطين المملكة المغربية بهذه المعلمة الفكرية والمنارة العلمية، لما أصبحت تمثله من مكانة علمية رفيعة المستوى على الصعيدين الإسلامي والدولي، حيث تخرج منها الكثير من العلماء والمفكرين والفلاسفة.
أساطين التاريخ.. أبناء القرويين في أصقاع العالم
اغترف من معين جامعة القيروان علماء كبار مسلمون وعجم منهم بابا الفاتيكان سيلفستر الثاني الذي يشهد التاريخ أنه أول من نقل علم الأرقام إلى أوروبا التي كانت غارقة في الجهل والأمية، ثم الفيلسوف والطبيب موسى بن ميمون، والشريف الإدريسي مؤسس علم الجغرافيا، إضافة إلى ابن البناء المراكشي عالم الرياضيات الفلكي الشهير، وغيرهم كثير.
ولعل من أبرز الشخصيات التاريخية التي وجدت في القرويين المعهد الإسلامي المتخصص والكلية الفريدة في مجال تخصصهم؛ الطبيب والفيلسوف والقاضي الأندلسي المتضلع في علوم الفقه والفلك والفيزياء أبا الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، الشهير باسم “ابن رشد”.
وإلى جانب ابن رشد تتلمذ على شيوخ القرويين ابن خلدون وأبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ بن باجة التجيبي الشهير باسم “ابن باجة” الذي يُعد من أبرز الفلاسفة المسلمين، كما اشتهر بنبوغه في علوم الطب والرياضيات والفلك والأدب والموسيقى وغيرها.
كما تخرجت من هذه الجامعة شخصيات بارزة لا يزال التاريخ يشهد بتفوقها منذ مئات السنين في مجالات وتخصصات عدة، منها علوم الدين والفقه والفلسفة والأدب والطب والرياضيات والفلك، وقد شكلت جميعها ركيزة أساسية في تأسيس النهضة العلمية والمعرفية للبشرية.
سحر العمارة وفن الزخرفة.. إرث حضاري يجتذب السائحين
لا تزال جامعة القرويين إلى اليوم تشكل إرثا حضاريا يجتذب آلاف السائحين وأهل العلم من مختلف أنحاء العالم، لزيارتها واستحضار روح امرأة صالحة وهبت مالها بسخاء لبناء مؤسسة تربوية وعلمية متفردة على الصعيد العالمي قبل النهضة الأوروبية، لتصنف فيما بعد كأول جامعة في التاريخ.
كما ساهمت فاطمة بمبادرتها الإنسانية التي تُبرز النموذج الراقي للمرأة المسلمة في الإنفاق والإحسان، ودعم العلوم والمعرفة، في نشر قيم التعايش الإسلامي السمحة، حيث كرست حياتها لخدمة العلم والثقافة والفكر والأدب كصدقة جارية لآخرتها، وتكريما لروح والدها الذي أحب العلم والعلماء.
وتشهد جامعة القرويين التي لا تزال شامخة في فاس حتى اليوم على سحر العمارة الإسلامية وجمال هندستها بفسيفسائها وسقايتها، فضلا عن روح الزخرفة الإسلامية والأندلسية على الخشب والجبص والزليج، فهي ثورة فنية أبدعها فنانون محترفون برعوا في تحويل الفضاء إلى أيقونة فنية وإسلامية قل نظيرها في الوجود.
جامعة القرويين.. وشم خالد في جسد الحضارة الإسلامية
أُنجز حول جامعة القرويين كثير من البحوث والدراسات الجامعية والأفلام الوثائقية والتقارير، لكونها شكلت صورة حية للحوار الحضاري، ومرآة تعكس أهمية الحضارة الإسلامية في نبذ التطرف وترسيخ قيم السلام والتسامح بين الأديان والشعوب، كما أبرزت دور الجامعة الإسلامية مند فجر الإسلام، باعتبارها مركزا من مراكز العلم والمعرفة وإنتاج النخب التي لعبت دورا لا يُستهان به في التاريخ الحضاري والإنساني بشكل عام.
وستظل جامعة القرويين التي وضعت أسسها الأولى السيدة الفاضلة فاطمة الفهرية رمزا من رموز المجد العربي والإسلامي والوجاهة، وصورة حقيقية للدور الاجتماعي للمرأة المسلمة التي تعكس قيم الحضارة الإسلامية والإنسانية المبنية على تشجيع العلم والعلماء ودعم المعرفة العالمة في أبهى التجليات.
كما ستبقى هذه الجامعة -التي ينبهر بها كل من زارها- وشما شريفا وصرحا مباركا في الذاكرة والتاريخ الإسلاميين، خاصة أن بناء هذه المعلمة الحضارية والعلمية المتفردة انطلق في شهر رمضان الذي شهد أحداثا ووقائع كثيرة لا يزال التاريخ يذكرها بفخر وإجلال كبيرين.