كان يوم 22 يوليو/تموز 1987 حاسما في حياة محمد أحمد فارس؛ ففيه تحوّلت حياته بانطلاقه إلى الفضاء الخارجي، فإذا كان الإنسان يُولد مرة، فإن رائد الفضاء ولد مرتين؛ مرة من رحم أمه، والأخرى من رحم الأرض إلى الفضاء. لكن سوريا؛ بلد محمد فارس -الذي اتسع له الفضاء- ضاقت به، فخرج منها لاجئا يبحث عن وطن بديل.
يحكي هذا الفيلم -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية- قصة محمد أحمد فارس، رائد الفضاء السوري المُلقّب بـ”أرمسترونغ العرب”، ويروي قصة رحلته إلى الفضاء بكل تفاصيلها الإنسانية والعلمية، تلك التفاصيل التي ألقت بظلالها على واقعه، وجعلته يرى العالم بشكل مختلف باحثا فيه عن الحرية والتغيير، مما جعله يدعم المظاهرات السورية حالما بغدٍ أفضل، لكن ذلك الحلم جعله اليوم لاجئا بلا أرض ولا وطن.
“رحلة وطن، لا رحلة شخص”
يتحسر محمد أحمد فارس وزوجته على مئات الذكريات التي خلفاها وراءهما في سوريا، فقد خرجا وهما يأملان العودة بعد شهر، لكن هذا الشهر طال أكثر مما ظنا بكثير، ومع تسليمهما بقضاء الله يقول فارس إن خسارته تتضاءل أمام تدمير نظام بشار الأسد لبلد بأكمله.
يتحدث فارس عن نفسه فيقول إنه في الأصل طيّار مقاتل على الطائرة “ميغ 21″، كما كان مدربا للطيران، قبل أن يُختار لتمثيل سوريا إلى الفضاء الخارجي بعد اختبارات وتدريبات خاضها في دمشق وموسكو، فقد اختير ليشارك في “رحلة وطن، لا رحلة شخص”، على حد قوله.
ويشير إلى أن الرحلة إلى الفضاء تحتاج إلى تحضير علمي، وآخر رياضي، إضافة إلى السلامة النفسية، وقد تدرّب نحو عامين في مدينة النجوم القريبة من موسكو والخاصة برواد الفضاء، قبل أن يُختار رائد فضاء أساسي.
ومن بين ذكريات رحلته الفضائية التي لا تنتهي، يستذكر طلب ابنه قتيبة -وهو ابن 6 سنوات آنذاك- أن يُحضر له نجمة من الفضاء.
استقبال الأبطال.. غنائم العودة من معركة غزو الفضاء
يروي محمد فارس أن مركبتهم الفضائية كانت تدور دورة كاملة حول الأرض كل 90 دقيقة، لذا كانوا يشاهدون الليل والنهار الأرضييْن كل ساعة ونصف، رغم الظلام الدامس الذي يغمر الفضاء، وكان رواد الفضاء ينامون في أكياس، وبسبب انعدام الاتجاهات والجاذبية في الفضاء الخارجي، كان أحدهم ينام ملاصقا لسقف المركبة، والثاني محاذيا للجدران، أما الثالث فكان ينام على أرضية المركبة.
ورغم تهيئة فارس وإمداده بالإجابات التي سيجيبها في مكالمته مع الرئيس السوري وقتذاك حافظ الأسد، الذي سيخاطبه مباشرة وهو في مركبته الفضائية، فقد رفض الالتزام بهذه الإجابات، فهو ليس رجلا آليا كما يقول.
وعند عودته إلى سوريا، استُقبل استقبال الأبطال، وقد ملأت المظاهرات الاحتفالية سوريا ثلاثة أيام بعد عودته، قبل أن “تصدر الأوامر بوقفها في اليوم الرابع”، كما يقول.
وهنا يقول الصحفي ياسر البدوي إن النظام استغل سفر محمد فارس إلى الفضاء على الصعيد المحلي والدولي، “لكن عندما زاد الأمر عن حده، خصوصا وأن حافظ الأسد يريد أن يبقى الرمز الأول في الإعلام، أوقف الاحتفاء بفارس”، ويُؤكد ذلك أيضا الصحفي محمد بيطار، فالإعلام السوري “يُدار بالهاتف”.
حافظ الأسد.. حوار خفيف يصنع قطيعة دائمة
يتحدث محمد فارس عن منجزاته في الرحلة الفضائية قائلا إنه أجرى 13 تجربة علمية في الفضاء لاقت استحسان الروس أنفسهم، لكن هذه الدراسات لم تجد أدنى قدر من الاهتمام في سوريا لاحقا. وهنا يقول الصحفي ياسر البدوي -بضحك مشوب بالأسى- إن “النظام السوري كان مشغولا بصناعة سلاح كيميائي لاستخدامه في قتل الشعب لاحقا”.
أما لقاؤه بالرئيس حافظ الأسد، فيصفه باللقاء العادي، فقد صافحه الأسد مصافحة عادية، ومنحه وسام “بطل الجمهورية العربية السورية”، دون أن يُقلّده الوسام. ويضيف فارس أنه عندما جلس مال عليه الرئيس، وقال له إنه لم يُقبّله بسبب الإعلام!
وقد تكرر لقاء فارس بالأسد مرة ثانية، بحضور رائد الفضاء السعودي الأمير سلطان بن سلمان، وفيه ذكّره الأسد بقوله “يا الله” عند إقلاع المركبة، وقد استاء الروس من ذلك، لكن فارس أجابه بأن الروس لم ينزعجوا من الأمر. وهنا أُسدل الستار على علاقتي بالرئيس الأسد، وقد فهم المسؤولون أن الرأس الكبيرة غير راض عن محمد فارس.
ويستطرد رائد الفضاء السوري أنه بعد 6 أشهر استقبل الأسد باقي رواد الفضاء بعد أن هبطت مركبتهم، لكن أوامر القصر كانت تقضي بأن لا يحضر الفارس اللقاء. يقول الصحفي ياسر البدوي إن التساؤل “أين محمد فارس؟” ظل يراود الصحفيين حينا من الدهر بعد أن انقطعت أخباره تماما، وقد كان ملء السمع والبصر حين أراد النظام استغلاله إعلاميا.
فخرج منها خائفا يترقب.. رحلة الجسد إلى المهجر
حدث منعطف جديد في حياة محمد فارس تزامنا مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، فقد شارك في المظاهرات المناهضة للنظام، وهو أمر لم يخف عن أجهزة الأمن التي استدعته، وحينها فضّل أن يُغادر سوريا؛ “فالحرية والكرامة هي أغلى شيء في الوجود، ولا حدود للقتل عند النظام”.
يستذكر محمد فارس وزوجته وابنه ضاحكين، عندما أخبر الابن -وقد كان طفلا آنذاك- صديقه بأمر خروجهم من سوريا، طالبا منه أن لا يُخبر أحدا، لكنه أخبر الحارة كلها، ويروي قصة خروجه من سوريا خائفا يترقب، فقد خرج في جنح الظلام بقليل من الحقائب، بعد أن وزّع أولاده على عدة أحياء في حلب، على أن يلتقوا في منطقة كفر حمرا التي يسيطر عليها الجيش الحر التابع للمعارضة، ومن ثم انتقلوا إلى شمالي سوريا.
وفي المهجر، تُدير هند عقيل -زوجة محمد فارس- جمعية “اللمة السورية” التي تعمل على توثيق الصلة بين أبناء وطنها المهاجرين، وتقول إنه يجب ربط الأطفال دائما بوطنهم الأصلي.
وتنظر هند بفخر لأحد الأطفال اللاجئين، وهو يرسم خريطة بلاده التي لم يُولد بها ولم يعش فيها يوما، وتنساب العبرات ويشتد الحنين مع أغاني العودة إلى الوطن، وليست الأغاني هي التي تُذكّر بحلب فقط؛ فبعض الأحياء القديمة في المهجر تُذكّر أيضا بأحياء حلب القديمة التي دمرها قصف النظام السوري.
“أتمنى أن أحلّق من جديد في بلدي”
يشاهد محمد فارس وزوجته مقاطع فيديو لحارات حلب القديمة المدمّرة، ومن بينها حارتهما والبيت الذي عاشا فيه سنين طويلة، “بيتنا الذي بنيناه حجرا حجرا، جاء المغول والتتار واحتلوه”، هكذا تتحسر الزوجة على بيتهم الذي تركوه.
ويتساءل فارس مستنكرا: هل يتخلى أحد عن وطنه؟ فسوريا هي موطنه وبها نشأ وترعرع، وفيها قبور أجداده وأبيه وإخوته، ثم يقول وهو يقاوم العبرات: سوريا هي ملعب الطفولة وخبز أمي الذي أكلته و… إلخ.
ويقول بحسرة: كنت أتمنى أن تستفيد سوريا من خبراتي أنا وزملائي الطيارين في بناء قوة جوية حقيقية، للتصدي لأعداء سوريا وليس لقتل أبناء الوطن.
مرت سنوات وتغيرت أحوال وتبدّلت، لكن تبقى أمنية محمد فارس هي كما يقول: حتى بعد هذا العمر أتمنى أن أُحلّق من جديد في بلدي، إن شاء الله.