اسم رياضي كبير، صنع نقلة تاريخية في كرة القدم العراقية، وأسطورة قد لا تتكرر في ميدان الرياضة العراقية، خرّج أجيالا من اللاعبين أصبحوا عماد الكرة العراقية، على الساحة المحلية والدولية، حتى قال بعض معاصريه من الوسط الرياضي والإعلامي: لا تستطيع صفحات قليلة، ولا حتى المجلدات الضخمة أن توفي هذا الرجل حقه من الإشادة والتكريم.
يلخص اسم عمو بابا ويومياته مسيرة الكرة العراقية، وقد عرضت الجزيرة الوثائقية على شاشتها فيلما بعنوان “عمو بابا” يقف فيها على أهم محطات الراحل الكبير، والمدرب العراقي القدير عمو بابا، وينقل على لسان أهله ومحبيه وتلاميذه مقتطفات من سيرته الرياضية الزاخرة بالبطولات والإنجازات، وسيرته الحياتية المليئة بالمطبات الصحية والتجاذبات السياسية.
“حين كنا صغارا كنا نشاهده وهو يقود المنتخب العراقي”
تقول عنه أخته غلوريا: ولدت أنا وإخوتي جميعا بالحبّانية (مدينة بين بغداد والرمادي)، وكذلك أخي عمو بابا، وقد نشأ وترعرع فيها، وخطا أولى خطواته الرياضية في مركز الحبانية الرياضي، وتأثر في بداية حياته بالإنجليز الذين كانوا يلعبون كرة القدم في مركز الحبانية.
كان الاتحاد العراقي لكرة القدم قد نشأ في نهاية أربعينيات القرن الماضي، وهي نفس الفترة التي بدأ فيها تألق عمو بابا، فقد تأسست على مستوى القطر العراقي بطولات رياضية وكروية، وفي الخمسينيات والستينيات تألقت الرياضة العراقية، عندما أقبل آلاف الشباب والفتيات على المراكز الرياضية والكشّافة، ونظمت البطولات وأقبلت الجماهير على الملاعب، ونال بابا من التشجيع ما لم ينله غيره.
ويتحدث عمو بابا عن نفسه قائلا: اسمي عمانوئيل بابا داود، واختصارا عمو بابا، متزوج ولي ابنتان وصبي اسمه سامي، وقد أمسيت معروفا في الأوساط الرياضية والشعبية، وعلى المستوى المحلي والعربي والدولي كذلك. فقد كان لدينا في الحبانية فريق آشوري وآخر كردي، وهنالك فرق إنجليزية عدة، وكنا ننظم دوريات كروية، كان النصيب الأكبر من بطولاتها للفريق الآشوري.
قدم عمو بابا خلال فترة الستينيات ما لم يقدمه لاعب لبلاده، ومن النوادر التي قلما تتكرر في الملاعب أن يكون الشخص لاعبا ومدربا في آن واحد، فكان عمو بابا يدرب ويلعب لفريق الكلية العسكرية الذي شارك في الدوري نهاية الستينيات. يقول اللاعب العراقي السابق واثق أسود: حين كنا صغارا في عقد الستينات، كنا نشاهد عمو بابا وهو يقود المنتخب العراقي لكرة القدم.
“كانت شهرته تسبقه بما تكتب عنه الصحافة”
كان عمو بابا قياديا بالفطرة على صغر سنه، فكان يوجه زملاءه اللاعبين ويشجعهم، وكان يتدرب بمعدل 4-6 ساعات يوميا تدريبا مضنيا شاقا، يضاهي ما يتلقاه لاعبو أوروبا هذه الأيام. يقول عنه اللاعب العراقي فلاح حسن: أول مرة سمعت فيها بعمو بابا كانت في سنة 1968، فقد كان يدرب ويلعب لفريق الكلية العسكرية، وكانت شهرته تسبقه بما تكتب عنه الصحافة، بوصفه لاعبا موهوبا ومهاريا جدا.
وقد تفجرت طاقات عمو بابا وقدراته القيادية والتدريبية في 1976، حين شارك العراق في أول بطولة خليجية بالدوحة، وكان يومها مساعدا لمدرب أجنبي، ثم قاد بعدها المنتخب العراقي مدربا أول. يقول رعد حمودي حارس مرمى منتخب العراق: أعطت دورة 1976 المنتخب العراقي زخما قويا، وولّدت انطباعا لدى الفرق الخليجية بأن الفريق العراقي يحسب له ألف حساب.
وفي 1979 أحرز العراق البطولة الخليجية الخامسة، وكانت مُقامة على أرضه، وكان عمو بابا المدرب الأول للفريق، وكان يظهر جدّيا وحريصا في عمله، لا يتساهل مع أي لاعب مهما علت رتبته في الفريق، ويختار مراكز اللاعبين بعناية، وبفضل حنكته وحسن قيادته، تفوق العراق على جميع الفرق المشاركة في تلك النسخة من البطولة.
مكتشف المواهب المغمورة.. نجوم أشعت في سماء الرياضة
يقول عنه اللاعب السابق حبيب جعفر: كان عمو بابا كشافا، يزور الفرق الشعبية المغمورة في المدن، ويختار منها لاعبين أثبتوا فيما بعد صحة وجهة نظره وبصيرته الثاقبة في الاختيار.
أما اللاعب راضي شنيشل فيقول: كان عمو بابا يتميز بالجرأة والشجاعة في اتخاذ القرار، وكان ذا فطنة وفراسة في الاختيار، فقد أصبح اللاعبون الذين اختارهم نجوم المنتخب العراقي لسنوات.
وكان بابا أول من اكتشف أسطورة الكرة العراقية أحمد راضي، وغامر بزجه في الفريق الأول على صغر سنه، فهو المدرب الأوحد على مستوى الكرة العراقية الذي كان يستقطب لاعبين ويستبعد آخرين، وفي عهده تفوقت الكرة العراقية خليجيا وعربيا وآسيويا.
وعندما فاز العراق ببطولة أمم آسيا 2007، كان معظم اللاعبين الذي أحرزوا الكأس من اكتشاف وصناعة عمو بابا، وهو نفسه الذي قاد العراق للفوز بكأس كرة القدم في دورة الألعاب الآسيوية 1982 بالهند.
“نبقى مشدودين حتى اللحظة الأخيرة”.. شدة صانع الانتصارات
كان عمو بابا مدرب لياقة بدنية بامتياز، إلى جانب عمله بالإدارة الفنية للفريق، وقد بلغ الأمر أن الفريق في بعض الأوقات كان يتدرب 3 حصص يوميا، ويقول اللاعب راضي شنيشل إنه في أحد التدريبات طلب منهم الركض حول الملعب، ويومها طافوا حول الملعب 60 مرة متتالية ركضا، فجاءه راضي يرجو ويتوسل إليه بابنه سامي أن يكتفي، فقال له: ما زلتم بحاجة إلى ركض أكثر، طوفوا 10 مرات أخرى.
وكان يعتمد على الجانب النفسي والتنافسي لدى اللاعبين، لحثهم على بذل أقصى الجهد واستخراج أعلى ما لديهم من الطاقة الكامنة. وكان يصر على الركض مسافات طويلة، تبلغ حوالي 15 كيلومتر في الحصة الواحدة، وكان حريصا أن يكون أول الحاضرين للملعب، ليشارك اللاعبين في تمارين الإحماء واللياقة البدنية.
وكان عمو بابا قليل الابتسامة عصبيا وصعب المزاج، لأنه كان يريد استخراج أقصى ما يستطيع اللاعبون من الجهد والعطاء. وفي لقاء تلفزيوني يقول: لا يوجد في حياتي الرياضية وأثناء المباريات ما يجعلني أبدو هادئا، فعملي مرتبط بالتوتر وشد الأعصاب، فأنا -كبقية اللاعبين في أرض الملعب- أريد تحصيل النتيجة التي تريحنا في آخر المباراة، فنبقى مشدودين حتى اللحظة الأخيرة.
“تخيلوا دائما أنكم في الملعب”
كان عمو بابا جدّيا وحدّيا، يتعامل بسواسية مع كل أعضاء الفريق، ليس لديه لاعب كبير وآخر صغير، ولكنه بين الفينة والأخرى يتحبب إلى اللاعبين ويلاطفهم، ويطلق النكات التي تريح أعصابهم المشدودة، وتملك الرياضة عقله وقلبه وجميع وقته، يقول للاعبيه: عندما تسيرون في شارع الرشيد فلا تمشوا باستقامة، ولكن تخيلوا دائما أنكم في الملعب، وراوغوا يمينا ويسارا بين المارّة.
وفي دروة الخليج 1984 التي أقيمت في مسقط، كان 5 من الطواقم التدريبية لفرق خليجية من البرازيل، وكانوا يجتمعون في قاعة الاستقبال بالفندق، لتدبير خطط لمواجهة الفريق العراقي بقيادة عمو بابا، وكيفية التعاون لإيقاف المدّ الكروي العراقي الذي يقوده عمو بابا. ومع ذلك، فقد انتزع العراق البطولة، وكان استقبال الفريق في مطار بغداد وشوارعها أسطوريا.
وقبلها كان عمو بابا سببا رئيسا في صعود الفريق العراقي إلى أولمبياد لوس أنجلوس عام 1984، ولكنه خرج مبكرا من هذه البطولة بسبب وجود فرق قوية من أوروبا وأمريكا الجنوبية. وفي كأس العالم 1986 في المكسيك، كان جميع أعضاء المنتخب العراقي المشارك في هذه البطولة قد خرج من تحت عباءة عمو بابا.
ومن الطرائف التي يسجلها الإعلاميون والصحفيون عن عمو بابا، أنه كان يحرص على وضع حصاة في قبضة يده اليمنى، وكان البعض يتهمونه بعمل التعويذات والسحر، وقد تحدث عن ذلك قائلا إنه يعاني من خلع مزمن في كتفه، وأنه كان يحرص على تحريك يده باستمرار لإبقاء عضلات يده في حالة تحفز ونشاط.
رجل المهمات الصعبة.. منقذ الكرة من أزماتها في الملاعب
كانت الدورات الخليجية مرتعا خصبا لعمو بابا وفريقه لاقتناص البطولات وجمع الكؤوس والميداليات، فقد أثبت علو كعبه في مجال التدريب، وتفوقه على جميع المدربين المحليين في دول الخليج، بل على كثير من المدربين الأجانب، ممن تسبب عمو بابا بإقالة كثير منهم بعد كل بطولة يحرزها.
ويُحسب للمدرب عمو بابا أنه كان يُستدعى ليكون منقذا من الأزمات التي يقع فيها المنتخب، فعندما يتولى التدريب مدربٌ آخر ويقع في ورطة ما في أي بطولة وأي بلد، كان عمو بابا يُستدعى بطائرة خاصة، ليأخذ زمام الأمور ويعيد الدفة للاتجاه الصحيح. ومثال ذلك تصفيات كأس العالم 1993 في الدوحة، حين استدعي لينقذ العراق من هزائم قاسية، عدا هزيمته أمام كوريا الجنوبية في ذلك الوقت.
وفي 1988، كان وضع الفريق العراقي في الأردن سيئا جدا، فاضطر الجهاز الرياضي العراقي لاستدعاء عمو بابا على وجه السرعة بطائرة خاصة، وهو من استطاع انتشال المنتخب العراقي من وطأة الهزيمة، وعودته بكأس البطولة العربية.
عمو بابا.. رجل العراق الذي تبددت أحلامه حيا وميتا
اعتزل عمو بابا التدريب نهائيا في 2001، وكانت أمنيته أن يكون راعيا للمواهب الكروية في الفئات العمرية التي انضمت لمدرسة عمو بابا الكروية، وهي مدرسة كان له الفضل في فكرتها وإخراجها إلى النور، وقد خرّجت هذه المدرسة خيرة لاعبي العراق في بداية الألفية الثانية، ولكن دورها تلاشى بعد الغزو الأمريكي 2003، وتغيُّر النظام في العراق.
وقد تفاقم مرض السكر الذي كان عمو بابا يعاني منه، فبترت 8 من أصابع قدميه، ولكن ذلك لم يفتّ عزيمته، ولم يثنه عن مزاولة عمله في مدرسته الكروية، وكان يقول: أنا ابن العراق، ولست محسوبا على حزب أو جماعة، أنا حزبي العراق وشباب العراق وأبطاله، وقد خدمت العراق سنين عددا، وأحيانا بلا مقابل، وأتحدى أن يثبت علي أي شخص شبهة فساد أو خيانة لبلدي.
ومع كل هذا العطاء وهذه الضحيات، لم يجد عمو بابا التقدير الرسمي الذي يليق به، بل إنه لم ينل فرصة للعلاج المناسب لحالته المرضية، فلا هم أرسلوه للعلاج في الخارج، ولا استقبلوه في مستشفى جيد داخل العراق. وكان يوم وفاته في 27 مايو/ أيار 2009 يوما عراقيا مظلما لدى عائلته القريبة وعلى العائلة الرياضية، وعلى الجماهير العراقية التي أحبته وعاشت عطاءه المتواصل يوما بيوم.
فقدت الكرة العراقية رمزا من رموزها ونجما من نجومها. ولم توفه الدولة العراقية حقه حيا ولا ميتا، وكانت وصيته أن يدفن في ملعب الشعب “حتى يسمع زفرات الجماهير من حوله”، وبدلا من ذلك فقد دفن خلف جدارية الفريق العراقي الذي أحرز بطولة آسيا 2007، واختفى قبره تحت أقدام المشاة، وبنت له الدولة مزارا بعيدا عن قبره الحقيقي التائه في وسط الزحام.
ومن كلماته التي لا تنسى قوله: أنا لا أتملق أحدا، ولا يلزمني ذلك، يكفيني حب العراقيين جميعا لي، من الموصل وكردستان شمالا وحتى البصرة جنوبا، كلهم يحبونني وهذا يكفيني.