“الزمن من أكثر المفاهيم تعقيدا، إنه أحد مظاهر الذاكرة، شيء يتأرجح بين الماضي والمستقبل من غير أن ينتمي للحاضر أبدا، أو على الأقل يبدو لأول وهلة منفصلا عن الحاضر، هناك توتر مبهم، إنه كلمة تتوق لأن تصبح مفهومة وأن يكون لها معنى”.
بهذه الكلمات يتمتم المغني البريطاني الأسطوري “ديفيد باوي” في بداية فيلم “حلم اليقظة القمري” (Moonage Daydream) الذي أخرجه “بريت مورغن” (2023). وهو يعبر عن خشيته من المستقبل، مما يمكن أن ينتج عن فوضى العالم، على خلفية إحدى أغنياته التأملية.
فيلم يسبح في بحر الموسيقى والألوان.. لغة سينمائية مبتكرة
يعرض الفيلم مشاهد وصورا ملونة من القمر، من مركبة فضاء، لأناس يتضرعون للسماء، وآخرون يتطلعون بالنظارات المكبرة إلى الأفق، وهيكلا عظميا داخل سفينة فضاء. كلها لقطات من أفلام سينمائية معروفة، لكن ما يمنحها قوتها وتأثيرها الكبير، هو المونتاج الذكي، والموسيقى التي ليست خلفية للصور فحسب، بل جزءا أساسيا من نسيج الفيلم.
يغرق المُشاهد في بحر الموسيقى والألوان التي تتولد عنها من خلال زوايا التصوير، والمزج الخلاق بين الصور، والإيقاع الخلاب الذي يسير مع الإيقاع الموسيقي، يأخذك ويحلق بك عاليا في سماء مفتوحة، كلما تعمقت في تأملها ازداد غموضها وسحرها.
“حلم اليقظة القمري” نموذج جيد للفيلم الموسيقي الذي يدور حول شخصية موسيقية شغلت الدنيا بأسرها عقودا، وهو عمل مشغول بحرفية عالية، وقبل كل شيء بحُب وبرغبة حقيقية في التأمل العميق في المسار المتعرج الشاق، الذي سارت فيه حياة “ديفيد باوي”.
يصور الفيلم “باوي” نجما محاطا بالأضواء والمعجبين، فنرى مشاهد لفتيات ينفعلن ويبكين بفعل الألم الذي تولده الموسيقى والكلمات التي كان يكتبها ويلحنها، لكن ليس مقصد الفيلم إظهار نجوميته، بل إنه يقدم جانبه الإنساني المعذب، يبحث عن هويته وعن معنى الفن، وعن المعنى الأكبر للحياة ولوجود ووضع الإنسان في الكون وعلاقته بالطبيعة، وذلك بحث معذب سيستغرق العمر كله.
كنوز الأرشيف.. ثروة بصرية ترسم شخصية البطل الخيالية
في الفيلم مئات من اللقطات والصور المأخوذة من التراث الهائل الذي تركه وراءه “ديفيد باوي” قبل وفاته في يناير 2016. وقد أذِن ورثته للمخرج “بريت مورغن” باستخدامها جميعا، فقضى أكثر من أربعة أشهر في مشاهدتها، واختيار ما يمكن استخدامه منها في فيلمه، ثم تفرغ فريق من التقنيين لتحويلها إلى نسخ رقمية، فكلها مصورة بتقنية الفيلم السينمائي من مقاس 35 أو 16 مم، وبعضها من شرائط الفيديو القديمة.
“حلم اليقظة القمري” بمثابة رحلة داخل عقل الفنان، لكنه يركز تركيزا خاصا على ولادته وتطوره في مرحلة السبعينيات. كيف نمت شخصيته، ثم كيف أصبح أكثر رسوخا في قناعاته، كما تطورت نظرته إلى الحب، وإلى العلاقة مع البشر والعالم، ثم انطلق يبحث عن أشكال وصيغ جديدة لموسيقاه.
يمزج المخرج كنزه الهائل من اللقطات الأرشيفية، ويغمرها بالضوء ويجعلنا نسبح في داخلها مع الموسيقى المختارة بعناية من حفلات “باوي” الغنائية، فنصبح أمام ما يشبه الحلم الكبير الذي نستغرق فيه لأكثر من ساعتين، مع استخدام كثير من التسجيلات الصوتية والتليفزيونية مع “باوي” من السبعينيات، يحدثنا فيها وكأنه يناجي نفسه عن أحلامه وقلقه، وعن الشخصية الخيالية التي اخترعها لنفسه، وتعكس قلقه الروحي وبحثه عن اليقين.
ثم ينتقل بنا إلى العروض الحية على المسرح، ويرتد باستمرار إلى الرسوم الكثيرة التي تركها “ديفيد باوي” وراءه، فقد كان فنانا متعدد الاهتمامات، يكتب ويرسم ويغني ويمثل أيضا، وقد ظهر في عدد من الأفلام، وكان مولعا كذلك بتصوير وتوليف الأفلام التجريبية.
الإيقاع السريع الذي يصنعه المونتاج، مع الانتقالات السريعة من فكرة إلى أخرى، ومن “ثيمة” لونية إلى شكل موسيقى جديد، يتناسب تماما مع القلق الوجودي الذي كان يدفع “باوي” دائما إلى تجديد نفسه، إلى الاعتزال والابتعاد عن الحفلات والجمهور وعن بلده، ليذهب في رحلة بحث عن نغمات جديدة، وأهم من ذلك بحثه عن كلمات جديدة تعبر عن المرحلة الأخرى التي انتقل إليها فكريا، وكان يرى أنها أكثر اتساقا مع ما حدث في العالم من تغيرات كثيرة.
“بريت مورغن”.. صانع الفيلم المولع ببطل الحكاية
يستعين المخرج أيضا بلقطات من الأفلام الشهيرة، من المدرسة التعبيرية الألمانية، وأفلام الفضاء، وأشهرها الفيلم الفرنسي القديم “رحلة إلى القمر” (Le Voyage dans la Lune) الذي أخرجه رائد سينما الخيال العلمي “جورج ميليس” (1902). كما يستخدم المخرج كذلك لقطات من أفلام الرعب في الخمسينيات.
كان “ديفيد باوي” دائم البحث عن التجديد، وعن الخروج من قوقعة الحاضر واستشراف آفاق المستقبل، وكان يجد صلة، بين الفضاء الخارجي ولا سيما الهبوط على سطح القمر، وبين موسيقاه وأغانيه وكلماتها، ونرى تعبيرا بصريا عن تلك الصلة في الفيلم.
ولا شك أن مخرج الفيلم “بريت مورغن” من أشد المعجبين بفن “ديفيد باوي” وشخصيته، ويتضح ذلك بجلاء في الفيلم، فهو يحيطه بهالة من الأضواء تجعله أحيانا يبدو خارجا من إحدى الأساطير القديمة، أو قادما من الفضاء.
لكن “مورغن” خلال محاولته فهم علاقة الفنان الأيقوني بنفسه وبالعالم، كان في الوقت نفسه يبحث عن ذاته، عن علاقته بالفن وعن قدرة الفن على الوصول بالفنان إلى الآخرين، بما يتجاوز حدود الطبقة والوطن. لذلك يمكن القول أيضا إن “حلم اليقظة القمري” فيلم عن اكتشاف الذات، كما هو عن معنى الفن، وعن دور الفنان ووجوده في العالم.
ومع فهم تلك العلاقة الخاصة التي تربط فنان الفيلم بفنان الموسيقى، فإن من المآخذ التي تؤخذ على الفيلم إهماله الجانب الآخر، أي تحدي أفكار وآراء “ديفيد باوي” ومناقشتها مع نقاده، ومع الذين عملوا معه وتعاونوا في إنجاز ألبوماته وإخراج موسيقاه وأغانيه المصورة، فالفيلم يستبعد هؤلاء جميعا، ليصبح “باوي” وكأنه كان كائنا أسطوريا وجد بفضل قوة شكيمته وحكمته وذكائه الفريد وحده.
أفلام السينما العريقة.. زخارف أيقونية تدعم مسار القصة
تظهر في الفيلم لقطات بين آونة وأخرى من ألبوم “بلاكستار” (Blackstar)، وهو ألبومه الموسيقي الأخير الذي نزل إلى دائرة التوزيع يوم 10 يناير/ كانون الثاني 2016، أي قبل وفاته بيومين متأثرا بإصابته بسرطان الكبد. وفي لقطات كثيرة من الألبوم المصور، كان “ديفيد باوي” كأنه يقف في مواجهة الموت ويحدق فيه. ويصف الألبوم بأنه “ألبوم قاتم عن أزمنة قاتمة”، وأنه يأمل في أن يكون فيما قدمه شيء يتناغم مع قتامة الموسيقى على نحو ما.
وتتردد فكرة تعقّد الحياة وفوضى الوجود مع حتمية الموت في الفيلم كما يجسدها المخرج، لا كما يتكلم عنها “باوي”، من خلال المزج بين مقاطع المقابلات الصوتية مع الاقتباس البصري من أفلام شهيرة، منها “الختم السابع” (The Seventh Seal) لـ”إنغمار برغمان” (1957)، و”آلام جان دارك” (La Passion de Jeanne d’Arc) لـ”كارل دراير” (1928).
وهناك لقطات أخرى من أفلام “سيرغي أيزنشتاين” مثل “المدرعة بوتمكين” (Battleship Potemkin)، وأفلام “ستانلي كوبريك مثل “البرتقالة الآلية” (Orange Clockwork) و”أوديسة الفضاء” (Space Odyssey).
وهناك لقطات أخرى من بعض أفلام “لويس بونويل” مثل “ملاك الإعدام” (El Angel Exterminador)، وأفلام “فريدريك مورناو” مثل “خزانة الدكتور كاليغاري” (Das Kabinett des Dr. Caligari)، وأفلام “فريتز لانغ” مثل “متروبوليس” (Metropolis)، كما يستعين بلقطات سريعة من “عيد ميلاد سعيد يا مستر لورانس” (Merry Christmas Mr. Lawrence)، وهو فيلم قام “باوي” ببطولته، ومن فيلم “الرجل الذي سقط إلى الأرض” (The Man Who Fell to Earth) لـ”نيكولاس روغ”.
وبدا أن هناك رغبة من المخرج في الربط بين شخصية “باوي” الحقيقية، وشخصيته في تلك الأفلام. ولكن “باوي” كان يتحدث أيضا عن فكرة التجسيد المسرحي والتمثيل واختراع الشخصية، كما اخترع هو شخصية “زيغي”، وهي شخصية جذابة ملفتة ظل يظهر عليها في حفلاته فترةً طويلة.
“تيري”.. الأخ الفضولي الذي غيّر مسار الحياة
في سياق حديثه عن بداياته الأولى، يتوقف “باوي” أمام الشخص الذي يقول إنه أكثر الأشخاص تأثيرا عليه، وهو أخوه غير الشقيق “تيري”، ويصفه بأنه كان ذا فضول كبير تجاه العالم، أكثر من أي شخص قابله. وقد أعطاه رواية “على الطريق” للكاتب “جاك كرواك” التي غيرت حياته، كما قدم له موسيقى “جون كولتراين”.
وقد أراد “باوي” أن يقرأ ما كان “تيري” يقرؤه، ويستمع إلى ما كان يستمع إليه، ويقول إنه قدمه إلى كل ما يعد خارج نطاق السائد ثقافيا، وكان “تيري” يسافر كثيرا، وخلال إحدى رحلاته التحق بسلاح الطيران البريطاني، وعندما عاد بعد سنتين كان مصابا بالفصام. وقد أمضى بقية حياته في المستشفى.
أما “جاك كرواك” مؤلف رواية “على الطريق” التي يرى “باوي” أنها غيرت حياته، فهو رائد التيار الأدبي والفني الذي عُرف بـ”جيل الإيقاع” (Beat Generation) بالولايات المتحدة في الخمسينيات والستينيات، وهو تيار يتصف بالتمرد الشديد على المؤسسة الرسمية.
ومن هنا يمكن اقتفاء بدايات ظهور نزعة التمرد التي ستصبغ موسيقى وأغاني “ديفيد باوي” من نوع “الروك آند رول”، وتجعله أيضا رمزا لدى الشباب، لا سيما في فترة صعوده في السبعينيات، رمزا للغضب والتمرد في وقت كانت بريطانيا فيه تشهد انفجار تيارات الأدب الجديد والمسرح الغاضب والسينما الطليعية الجديدة.
رحلات الشرق والغرب.. صائد الألوان الموسيقية من أطراف العالم
حين خرج “باوي” إلى العالم أول مرة في أواخر السبعينيات، ذهب إلى لوس أنجلوس، ولكنه لم يجد نفسه هناك، بل أصبح تائها فاقدا لذاته، فقرر الانتقال إلى برلين الغربية، وهناك وجد شكلا جديدا وأفكارا جديدة لأغانيه وموسيقاه، أكثر عمقا من الناحية الفكرية، ورغبة في نقل البهجة والسعادة إلى العالم.
ومع أن الفيلم يركز كثيرا على فترة التألق الأولى في مسار “ديفيد باوي” الفني في السبعينيات، فإنه يتوقف قليلا أمام بعض المحطات في الثمانينيات والتسعينيات ثم أوائل الألفية الثالثة. إنه مثلا يتوقف أمام تسجيل ألبوم “دعونا نرقص” (Let’s Dance) في نيويورك عام 1982، وقد حقق نجاحا كبيرا، وكان يعد نقلة جديدة في مسيرته، يمزج فيه بين رقص البوب ورقص الروك، لكن هذا النجاح خبا بعد ذلك، مما دفعه للبحث مجددا عن أسلوب موسيقي جديد.
لم يكن ممكنا أن يصنع “مورغن” فيلما يقوم على مبدأ التحليل النفسي على النحو التقليدي، أي يتوقف كثيرا أمام طفولة “باوي” وانفصاله “العاطفي” عن والديه اللذين يقول إنهما لم يكونا يوليان اهتماما كبيرا للتعبير عن المشاعر، وإنه ربما يكون قد ورث هذا عنهما قبل أن يتغير.
فقد فضل “مورغن” أن يصنع فيلما موسيقيا يبرز فيه الموسيقى والاستعراضات الموسيقية التعبيرية، ويمزجها بالصور المقتبسة من الأفلام، أو بلوحات “باوي” ورسوماته الغريبة للشخصيات التي قابلها في بلدان مختلفة، أو بالرسوم المتحركة أحيانا، ويغرقها كلها بالأضواء والألوان الساخنة مع إيقاع سريع صاخب، وكان بذلك يعبر عن عالم “ديفيد باوي” وعن تقلباته، وعن مشاعره المضطربة، وعن رغبته الدائمة في التجديد والبحث عن علاقة أكثر نقاء مع جمهوره.
“قضيت وقتا طويلا أبحث عن نفسي”
في النهاية، قد يبدو الفيلم مرهقا من الناحية البصرية لغير المعتادين على هذا النوع من “السينما” الخالصة التي لا تتبع المألوف، وحتى المقابلات الكثيرة مع “باوي” التي يقتطع منها ويجعله يروي لنا ويعلق ويربط بين مساره الفني وما يحدث من تقلبات في العالم، وذلك بديلا عن أي تعليق خارجي، ومع الاستغناء عن الخبراء والموسيقيين وأصدقاء “باوي” والذين عملوا معه.
يرد “باوي” على سؤال: ماذا بقي من طفل بريكستون؟ (الحي الفقير الذي ولد ونشأ فيه في جنوب لندن) فيقول: ليس كثيرا، لقد قضيت وقتا طويلا أبحث عن نفسي، وأحاول فهم سبب وجودي، وما يجعلني سعيدا في الحياة، ومن أنا حقا، وما هي الأجزاء التي كنت أحاول دائما الهرب منها في ذاتي.
كانت غرابة الشكل التي اختارها “باوي” لنفسه ولمظهره العام تأكيدا لشعوره بالاغتراب والاختلاف عن الآخرين، وبعجزه -كما يقول- عن التعبير عن العاطفة وعن الحب، وهو ما سيتجاوزه في مرحلة النضج حين التقى في 1990 بالمرأة التي يقع في حبها ويتزوجها، وهي عارضة الأزياء الصومالية الأصل إيمان عبد المجيد. لقد أدرك أخيرا أن في الحياة ما يستحق أن يعيش من أجله، وأصبح أكثر هدوءا ويقينا وقدرة على الاستمتاع بما يقدمه من فن، وستظل زوجته إيمان معه لحين وفاته في 2016.
يحتشد الفيلم بكثير من المواد البصرية والموسيقية ومقاطع من المقابلات التي أجريت مع “باوي”، منذ أن كان شابا يافعا خجولا يهرب من الأسئلة الصعبة عن طريق المزاح، ولكن مع كل هذا الاحتشاد يظل هناك غموض كان دائما يحيط بشخصية “ديفيد باوي”، وهو غموض دفع باستمرار إلى طرح التساؤل: من هو هذا الرجل؟
وأظن أن هذا السؤال، سيبقى طويلا بلا إجابة شافية!