فرّوا من جحيم الحروب والمجاعات وأسباب الموت المُتعددة على قوارب خشبة هشة ومتواضعة، واجهوا بها أمواج البحر العاتية، فمنهم من وصل، ومنهم من كان طعاما لأسماك البحر الجائعة، وكل هذا في سبيل الوصول إلى “الجنة الموعودة” في ضفة المتوسط الأخرى، فهل وجدوا جنتهم ووقفوا على الحياة الكريمة التي بحثوا عنها، أم واجهوا جحيما مثل الذي تركوه وراءهم أو أشد؟
كثيرة هي الأفلام الوثائقية التي تناولت قضية الهجرة، وتتبعت مسارات اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين من الدول الأفريقية إلى أوروبا، حتى أنها وقفت على الأخطار الكثيرة والمميتة التي مروا بها، وصورت تلك المسارات البحرية والبرية التي عبروا عليها، ووقفت كاميراتها على تلك الجثث المتحللة التي رمتها الأمواج أو ابتلعتها الأسماك، ووثقت أخشاب تلك القوارب التي تناثرت وتوزعت على البحر، بعد أن مزقتها الأمواج وتقلبات البحر.
بل إن بعض هذه الأفلام تنقلت إلى قراهم ومدنهم التي جاؤوا منها، ووقفت على المآسي التي عاشوا فيها، وهي التي شكّلت فكرة الهجرة والمجازفة لديهم، والحلم بالذهاب والعيش على الضفة الأخرى مهما بلغ حجم المخاطرة، حتى لو كانت نسبة الموت في الطريق إلى الحلم أكبر من نسبة الوصول.
أما الأفلام الوثائقية التي تصور معاناة اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين، ممن يعيشون في الدول الأوروبية فهي قليلة جدا، وإنما هي تقارير تلفزيونية شحيحة، لا تظهر الحقيقية كما هي، بل تصور الجوانب المظلمة فحسب، وتحرض على طردهم من تلك البلدان، وفي أحيان أخرى تحرض عليهم، لا سيما من طرف اليمين المتطرف، لهذا فقد كانت المعلومات المصور عن وضعهم الصعب نادرة جدا.
وقد جاء الفيلم الوثائقي “جيولوجية الافتراق” ليكسر تلك القاعدة، ويذهب مباشرة صوب مراكز الانتظار التي تعج بهم، ليستمع إلى آهات أنفاسهم المكتومة ومشاكلهم المتراكمة منذ سنوات، وهو فيلم من إخراج مشترك بين التونسية يسر قاسمي وشريكها الإيطالي “ماورو مازوتشي”، ومن إنتاج تونسي إيطالي فرنسي قطري مشترك.
“لاجئان يبحثان عن وطن جديد”
يعود فيلم “جيولوجيّة الافتراق” إلى الوراء 230 مليون سنة، حين كانت الأرض قارة واحدة ملتصقة وملتحمة، في كتلة تسمى “البانجيا” أو القارة الأم كما تعرّف في المدونة العربية، لكن بسبب الجيولوجيا وتفاعل الكرة الأرضية مع مر الزمن، انبثقت القارة الأم عن عدة قارات، وأصبحت كل قارة في جهة.
انطلاقا من هذه الفرضية التاريخية لجغرافيا الأرض، بنى المخرجان فيلما مختلفا كليا عن غيره، من ناحية البناء والموضوع وتقديم المعلومة التوثيقية، وسلطا كاميراتهما الواثقة والعميقة على تجارب راهنة مؤلمة ومأساوية، يعكسها المهاجرون غير الشرعيين.
وحسب الملخص الذي ورد في بيانات ورشة “ملتقى قمرة السينمائي” بقطر، فقد تناول الفيلم بطريقة مؤثرة “تجربة اللاجئين، من خلال عمل يمزج بين الرّوائيّ والوثائقيّ، ويركّز على حياة عبد الرحمن ولالي، وهما لاجئان يبحثان عن وطن جديد؛ لكنهما في مرحلة انتقالية ليس لها ملامح”.
يرصد الفيلم ببراعة معارك البيروقراطية التي يواجهها اللاجئون دائما، ويصوّر التحديات الشخصية التي يقف عليها المهاجرون الذين يسعون إلى طلب اللجوء في أوروبا، إضافة إلى حقوق الإنسان والكرامة، ويدعو المشاهدين إلى التفكير في تعقيدات الانفصال والانتماء والرغبة الإنسانية في الوصول إلى بر الأمان.
أيام الملاجئ.. قهر السنوات الضائعة والأحلام الموءودة
يصور فيلم “جيولوجية الافتراق” أوجاع اللاجئين في إيطاليا، ومنهم لالي ذو البشرة السمراء، وهو يسعى إلى تعلم اللغة الإيطالية من مواقع الإنترنت، حتى تزداد فرص حصوله على حق اللجوء، لكن في المقابل ينظر له بعنصرية، ولا يُعطى لأحلامه أي أهمية.
وهذا ما حدث أيضا بشكل أكثر حدة مع الشاب الليبي عبد الرحمن الغوزيلي، فقد بدأ قلبه يحترق من الانتظار، وأحلامه آخذة في الذوبان على معبد الحرية وحقوق الإنسان الذي تنادي به إيطاليا، لأنه قدّم ملف اللجوء للجهات المختصة، وأجروا معه جلسات متعددة، وقال إنه أعطاهم اسمه واسم والده وجده وأقاربه والمكان الذي ولد وتربى فيه، واسم المدرسة وكل التفاصيل، وكلها معطيات حقيقية، لكنهم يعيدون التحقيق معه في كل مرة، ويطرحون نفس الأسئلة، فيسمعون نفس الأجوبة، ثم يماطلون ولا يقدمون تواريخ معينة للرد، بل يسوفون ويقولون نفس الكلمات.
تمر السنوات سراعا على طالبي اللجوء وهم في تلك المراكز، ينامون ويأكلون، وقلوبهم تحترق أكثر، لأن سنوات عمرهم تمر أمامهم وهم لم يحققوا شيئا في إيطاليا التي تزعم أنها بلد حقوق، ولم يحدث هذا الأمر مع عبد الرحمن ولالي فقط، بل مع كثيرين ممن فروا من جحيم الحروب والمجاعات والموت والملاحقات الأمنية في بلدانهم.
بمعنى أن كل الشروط القانونية التي وضعها الغرب لمؤسساته، لم يُلتزم بها قانونيا، لا سيما أنها تنطبق على هؤلاء الذين أُهملوا إهمالا مطلقا، انطلاقا من بيروقراطية الإدارة، ومكر السياسيين، وخبث اليمينيين المتطرفين الذين يمتقون الأجانب.
تعليم أساليب النظافة الشخصية.. ألوان التعالي الغربي
كان تعالي الغرب واضحا في نواحٍ متعددة، لا سيما تصرفه مع اللاجئين والمهاجرين في المراكز، فهو يراهم دائما “قذرين”، لا يجيدون تنظيف أنفسهم وترتيب أسرّتهم والاهتمام بنظافتهم الشخصية، لهذا يقدم لهم يوميا دروسا في هذا الأمر، ويرغمهم على حضورها والاستماع لها.
كما أنهم ينظرون لهم -حسب شهادة عبد الرحمن- على أنهم جهلة أميون جاؤوا من الخيام، ولا يعرفون شيئا عن المدارس، لأنهم لا ينظرون أبعد من أقدامهم، ولو اجتهدوا قليلا واستمعوا لكلامهم بأذن صافية، لأزاحوا تلك الخلفية السوداء والنظرة الاستعمارية والاستعلاء الواضح.
وقد رأى عبد الرحمن هذا السلوك مهينا في حقه وحق كثيرين، لأنه لم يهرب من ليبيا بسبب فقر أو جوع أو بحث عن العمل، بل بسبب الحرب والموت والتطاحن الذي كان يراه ويقف عليه، لهذا وجب التعامل معه ومع غيره بإنسانية، بمعطيات تحافظ على كرامتهم وتصونها، حتى تخفف عليهم جحيم الفراق الذي يعيشونه في غربتهم القاسية.
رؤى الفيلم.. جمالية البناء وتعدد المدارك السينمائية
لا شك أن موضوع فيلم “جيولوجية الافتراق” قوي ومأساوي، لكن ذلك لم يُنسِ المخرجين يسر القاسمي و”ماورو مازوتشي” الجماليات التي تمنح العمل أبعاده السينمائية، وذلك ما لاحظناه في عدد من نواحي العمل وزواياه، بدايةً من مفتتح الفيلم الذي صُوّر بكاميرا ثابتة في أحد مراكز إيواء اللاجئين، فقد نُصبت في رواق المركز بجانب السلم، ولم تكن تصور سوى الناحية السفلية، أي أقدام اللاجئين، وهي خطوة ذكية من المخرجين، يمكن أن تفتح الآفاق لفهم متعدد، لون البشرة ونوعية اللبس، ومن خلال الخاصيتين نتعرف على نزلاء المركز.
كما قُسم زمن الفيلم (153 دقيقة) إلى عدة فصول، وكل فصل يحتوي على جمل معينة، تحيل إلى معنى أو تأويل ما، تنعكس من خلالها معاني الفصل وتأويلاته، ومن تلك التسميات: “المحاكمة”، “عن زرع الأعضاء والاحتراق والموت”، “عن جمود الأرض”.
وقد أعطى هذا التقسيم قيمة فكرية وفلسفية للفيلم، وهو محمول مهم للعمل، يُبعد عنه شبهة المباشرة، وفي أحيان أخرى يزيح عنه منطلق التسلية والترفيه، لهذا كان رزينا ومشبعا بالرؤى والتأملات التي تشرع أبواب الأسئلة العميقة أمام المتلقي.
ثم إن تلك القيم أعطت الفيلم بُعدا روحيا، لا سيما أن المخرجين لم يكتفيا بشخصيات الفيلم وزواياه، بل استعانا بمناظر طبيعية خالصة، عكستها جبال إيطاليا الكبيرة وثلوجها البيضاء، وغيومها المتراكمة المتفرقة، وهي صور يصاحبها صوت الراوي متحدثا عن مواضيع ذات منطلقات صوفية، وحكم مشبعة بالتجارب، تذهب بشكل ما إلى فرضية الافتراق، وبذلك تخدم الموضوع وتوجه الفيلم وتعطيه النتيجة المطلوبة.
تعطي هذه المعطيات الجمالية مبدئيا نوعا من الرتابة البصرية والحشو، لكنها في المجمل تخلق نوعا من العمق والتأمل، ومن هنا يأخذ الفيلم مداركه الفنية ومنطلقاته السينمائية، ويصبح من الأعمال الجيدة التي ستصمد زمنيا، لأنه متعدد القراءات والتصورات والمنابع الجمالية.
رائحة الأدب والفلسفة والمسرح.. خلفية المخرجين
تحيل الأعمال السينمائية العميقة مباشرة لمرجعية المخرج، وفي حالة فيلم “جيولوجية الافتراق” فإن الأمر يذهب مباشرة صوب المخرجين اللذين اشتركا في مهمة الإخراج، وهما يسر القاسمي و”ماورو مازوتشي”، أما المخرجة يسر فلديها مرجعيات أدبية وفكرية مهمة، فهي حاصلة على شهادة الدراسات العليا في الأدب الفرنسي والأدب المقارن من باريس، وأما “ماورو” فهو حاصل على شهادة الدراسات العليا في الفلسفة من جامعة ميلانو الإيطالية، وشهادة أخرى في الدراسات المسرحية.
وقد مكنتهما هذه المرجعية الأدبية والفلسفية من خلق أسلوب تعبيري مهم في فيلمهما “جيولوجية الافتراق”، ابتعدا من خلاله عن البناء التقليدي والقواعد المعتمدة في إخراج الفيلم الوثائقي، وهو المعطى الأساسي الذي ارتقى بالفيلم ليشارك في عدة مهرجانات دولية، انطلاقا من قيمته الفنية الكبيرة، ومحموله المعرفي والجمالي، إضافة إلى الموضوع الذي يشكل محورية الفيلم.
فيلم “جيولوجية الافتراق” عمل سينمائي مهم، انتصر للفئات المقهورة، وتطرق إلى مآسي المهاجرين واللاجئين، ليس في إيطاليا وحدها حسب سياق الفيلم، بل في العالم أجمع من منطلق التأويل الكلي، وهي مشاكل عميقة ومأساوية حقا، يجب على الدول الكبرى أن تتفطن لها وتعمل على مراجعتها وإزاحتها، لأنها تخص أساسا قيمة الإنسان وكرامته، رأس مال كل فرد في العالم، يعيش من أجلها ولها.