في سبعينيات القرن الماضي ضرب ثمانية أمريكيين مكاتب أجهزة المخابرات والأمن الأمريكية ضربة قوية، وكان “بيل دافيدون” و”كيث فورسايث” و”بوب ويليامسون” والزوجان “جون” و”بوني راينز” من أبرز المشاركين في تلك الضربة التي شكلت أول عملية تسريب للمعلومات السرية الخاصة بالمخابرات والشرطة الاتحادية في تاريخ الولايات المتحدة المعاصر.
لقد قاموا قبل “ويكيليكس” و”سنودن” بأكثر من أربعين عاما بعمل خطير وشجاع، وفشلت أجهزة المخابرات في كشفهم، وقد قبِلوا لأول مرة الوقوف أمام الكاميرا والحديث عن العملية الجريئة التي نفذوها في ولاية فيلادلفيا عام 1971، وفضحوا بها الأساليب غير الأخلاقية في مراقبة المواطن الأمريكي، وخصوصا المناهضين لحرب فيتنام.
أبطال العملية.. ظهور أول بعد أكثر من أربعين عاما
قبول منفذي العملية بالمشاركة في وثائقي أمريكي يعطي لصانعته “يوهانا هاملتون” السبق، إذ لم يظهر أحد منهم قط على الملأ، ويعلن ضلوعه فيها، لأسباب تتعلق بسلامته وخوفه من تبعات فعل ألحق ضررا كبيرة بسمعة أجهزة المخابرات، وبشكل خاص مكتب التحقيقات الفيدرالية “أف بي آي” ومديره المتشدد آنذاك “جون إدغار هوفر”.
ناهيك عن تزامن موضوعه مع حدث ما زال يشغل السينما بقوة، خاصة بعد بروز قضية “سنودن”، وفوز فيلم “المواطن الرابع” (Citizenfour) بجائزة أفضل وثائقي لأوسكار العام 2015، إلى جانب إنجاز عدد من الأفلام المهمة عنه، وهذا ربما يفسر سرّ اهتمام كبريات المهرجانات به قبل نزوله إلى صالات العرض في بداية العام، وأولها مهرجان “صندانز”.
إعادة تمثيل المشاهد.. أبعاد روائية لإنعاش الفيلم الوثائقي
التحديات التي تواجه أي متناول لهذا الموضوع على المستويين السردي والبصري تزيد فضول الآخرين لمعرفة طريقة تجاوزها، ومن بينها الحفاظ على دقة مراجعاته التاريخية، ونجاحه في ترويض معطياتها دراميا، وتحديد درجة إقناع مُشاهده بصدقية روايته وصدق ساردها.
وعلى أساس هذه التحديات والعمل على تجاوزها، نفهم أسباب استعانة “هاملتون” في فيلمها الوثائقي بالوسائل الدرامية، من خلال إعادة تمثيل المشاهد القديمة، وربطها بتسجيلاتها الآنية للمتحدثين معها، وقد بلغوا من العمر عتيا.
يأتي ذلك محاولةً لإضفاء بُعدين على فيلمها، أولهما تاريخي وثائقي معتمد على الأرشيف والوثائق القديمة، وثانيهما درامي يسعى لصياغة الحدث سينمائيا. ولهذا وجدنا أنفسنا أمام فيلم “دوكيودراما” بامتياز، يستوفي كل شروط هذا النوع، ويرتقي إلى مستويات عالية، تضعه من بين أهم الأفلام لهذه السنة.
لجنة المواطن.. خلية ثورية سربت المعلومات للعالم
عنوان الفيلم “1971” يعود إلى العام الذي خطط فيه ثمانية أشخاص لاقتحام أحد مكاتب الشرطة الاتحادية في مدينة ميديا التابعة لولاية فيلادلفيا، وسرقة الوثائق السرية منها، وقد اختارت المخرجة أن تعنونه بالعام لا باسم العملية نفسها “لجنة المواطن”.
ثقل التاريخ هو ما رجّح كفّة التسمية، فالسبعينيات شهدت حراكا جماهيريا قويا معارضا لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية وتورطها في حرب فيتنام، وسجّلت نهوضا واسعا لحركات سياسية سلمية اتخذت أساليب مختلفة للنضال، حاول الوثائقي تقريبها إلى المُشاهد “المعاصر” عبر أحاديث المشاركين الأبرز فيها.
فعمليتهم جاءت نتاجا موضوعيا لحركة سياسية معارضة للحرب، أرادت فضح زيف ادعّاء الرئيس “نيكسون” لأسباب دخولها، ووقفت ضد عمليات التجنيد العسكري الإجباري للشباب الأمريكي، لهذا يركز الوثائقي على مجموعة صغيرة زامنت الأحداث، وكانت جزءا من نشاط أوصلها إلى فكرة اقتحام مكاتب الشرطة، لفعل شيء أكثر فعالية من المظاهرات السلمية التي غالبا ما كانت تنتهي باعتقال المشاركين فيها وتفريقها وإلصاق صفات سيئة بها.
حقبة السبعينيات.. ثورة شجاعة في أيام أمريكا المظلمة
تجارب غنية وحماسة ثورية تمثلها المجموعة، والوثائق الشخصية وتسجيلات التلفاز القديمة تشهد عليها، ومن هنا يتأسس التعاطف معها، فشهود اليوم على الفعل كانوا شباباً يوم نفذوه، وكانوا كتلة من النشاط، لا يأبهون بتعريض حياتهم للخطر، من أجل مبادئ ترفض سياسة قتل الأبرياء، والسيطرة على أراضي الغير في مناطق بعيدة من العالم.
وعلى المستوى الداخلي كانت الدولة العميقة تصفّي المطالبين بحقوقهم، مثل القائد المدافع عن حقوق الزنوج “مارتن لوثر”، وسياسي كالرئيس “كندي” لاعتداله.
وعلى المستوى الشعبي كانت تلاحق المعارضين للتجنيد الإجباري، وتدرج أسماء الرافضين للحرب في قوائم سوداء تُحفظ في سجلات المخابرات، كي تظل تراقبهم وتحاربهم بطرق قذرة، كما بينها عدد من المتحدثين عن تجربتهم مع “إف بي آي”.
اختراق الوكالة.. تطوير ذكي لأساليب التمرد السلمية
عملية حفظ السجلات السرية أوحت للناشط السياسي وأستاذ علم الفيزياء في جامعة هافرفورد “بيل دافيدون” بفكرة سرقة تلك السجلات، ونشر أسماء المسجلين فيها من الرافضين للحرب والمعارضين لها.
لقد اعتبر هذه الوسيلة أكثر فعالية من المظاهرات السلمية، لكنها قريبة منها، لأنه لم يؤمن يوما بالعنف، ولهذا السبب أراد مفاتحة أشخاص يقاسمونه نفس المبادئ ويثق بهم، فالمخابرات -كما يُظهر الفيلم- قد تعمدت اختراق المنظمات والأحزاب المعارضة، وتهديمها من الداخل.
وعلى ضوء تجربته الشخصية فاتح “بيل” مجموعة صغيرة بلغ عددها معه تسعة أشخاص، ثم انسحب واحد منهم قبل الشروع بالتنفيذ، وبعد دراسة الخطة والإعداد لها بسرية تامة قرروا اقتحام مكاتب “أف بي آي” الصغيرة.
يبلغ مجموع هذه المكاتب الصغيرة في الولايات المتحدة حوالي 500 مكتب، وبعضها لا يخضع لمراقبة شديدة، وعدد موظفيها قليل، لهذا يسهل اختراقها وسرقة ملفاتها، وبعد نقاش طويل وقع الاختيار على مكتب مدينة ميديا، لوقوعه في شارع هادئ، وضمن عمارة سكنية من دون حراسة خارجية.
“داخل كل صندوق بريد منزلي نريد رقيباً”
تعيد المخرجة تمثيل عملية الاقتحام في مقطع سينمائي روائي يقوم بأدوار البطولة فيه ممثلون، يقاربون الشخصيات الحقيقية، ويحملون نفس أسماءهم. كل شيء في هذا الجزء ممتع، التصوير والتمثيل وبناء المشاهد الذي يُذكِّر بأفلام المغامرات في حقبة الستينيات، ألوان باهتة بعض الشيء وحركة سريعة، طغيان اللقطات المتوسطة والداخلية المعتمة إلى حد ما. أما التفاصيل فيرويها المشاركون فيها كما جرت في الواقع.
لم يصدق منفذو العملية ما وقع بين أياديهم، فمحتوى السجلات تجاوز المتوقع، وأظهر أن المراقبة تُمارَس على نطاق واسع، والعبارة الواردة في التعليمات المرسلة من قيادة مكتب التحقيقات إلى موظفيه تُلخِّص حجمها: “داخل كل صندوق بريد منزلي نريد رقيبا”.
يفجر الكنز الذي عثروا عليه فضيحة لم تشهدها البلاد من قبل، لأنها لم تظهر كذب السلطات واختلاقها لأخبار الحرب وما يجري على الجبهات فحسب، بل شمول المراقبة كل مواطني أمريكا. لم يستثنوا أحدا من الذين شاركوا في المظاهرات أو شككوا هم بإخلاصهم ولو على الظاهر، فأغلبية “الهيبيز” وذوي اللحى والشعور الطويلة كانوا موضع شك، أما النشطاء فوُضعوا تحت برامج خُصصت لهم، واحد منها جاء ذكره بشكل عابر في إحدى الوثائق.
تحقيقات الصحافة.. كلب الوكالة المسعور يفشل في الحسم
سيكشف أحد الصحافيين لاحقا أن الوكالة كان لديها أكثر من 2200 برنامج، كل واحد مخصص لمجموعة معينة، وأن الرقابة وانتهاك الخصوصية كانا يمارَسان بعلم وإدارة مسؤول الوكالة “إدغار هوفر”.
يخصص الوثائقي جزءا من وقته إلى دور الصحف في تلك المرحلة، وعلاقة إدارتها بأجهزة الدولة ونسبية حريتها، فبعد أن نشرت كبريات الصحف أقسام من الوثائق استشاطت الوكالة غضبا، فراحت مسعورة تبحث عن الفاعل.
لم تفلح كل محاولاتها وأساليبها في التوصُّل إلى نتيجة حاسمة، فالتحقيقات مع بعض المشتركين فيها لم تُثبت شيئا، وظلت الخطة مجهولة لم يُكشف عن مدبرِّيها ولا منفذِّيها، لهذا ففي عام 1976 قرّر المدعي العام إسقاطها بعد أن وصلت إلى طريق مسدود.
كانت نتائج التسريبات مذهلة، فالدولة كلها أصبحت في موضع المتهم، ولأول مرة في تاريخها استُدعيت وكالة التحقيق الفيدرالي إلى جلسات مساءلة في الكونغرس، مما دفعها إلى توقيف برامجها مؤقتا، وهذا ما سيتناوله الوثائقي كمادة آنية تربط مفردات التاريخ بسلسلة منطقية، تصل بمُتتبِّعها إلى نتائج مقنعة.
“المراقبة تجري في دم الأجهزة الأمنية”
على مستوى الأفراد لاحظ الوثائقي بعد زيارات كثيرة ومرافقة طويلة لهم، أن أغلبية المشتركين في “لجنة المواطن” تركوا السياسة، وتفرّغوا لشؤون العائلة، وقبلوا بمستلزمات الحياة العادية، باستثناء قلة منهم ما زالت تنشط في الدفاع عن حقوق المواطن الأمريكي.
أما على مستوى النشاط المخابراتي فالتاريخ يؤكد استمراره، وما التجارب اللاحقة -وآخرها ما كشفه “إدوارد سنودن” سوى تأكيد إضافي على طبيعة السلطة السياسية وأجهزة المخابرات الأمريكية، فهي كما قال الوثائقي بين السطور: “المراقبة تجري في دم الأجهزة الأمنية ولا يمكن التخلص منها”.
فما زالت هذه الرقابة قائمة رغم ما يقوم به معارضون شجعان، يكشفون الأسرار ويفضحون الأكاذيب، لكن آلية السلطة تبقى في النهاية هي الأقوى، لهذا نراها تعاود العمل بعد كل توقف مؤقت، وبهذا المعنى سيستمر المخبرون بعملهم وانتهاكاتهم للخصوصيات والأعراف الإنسانية، وسيظهر على الدوام شجعان يفضحونهم كما ظهر أصحاب “لجنة المواطن” عام “1971”.
وبعد أكثر من أربعين عاما من كشفها المخيف، يخاطر آخرون اليوم بحياتهم من أجل تسريب الحقيقة إلى الناس.