يقول عالم الفيزياء النظرية “كيب ثورن” (Kip Thorne) المنظّر العلمي لفيلم الخيال العلمي الشهير “انترستلر” (Interstellar) إنهم أمضوا وقتا طويلا في التفكير والبحث عن كارثة واردة الحدوث تحل على الأرض حتى تضع وجود البشرية على المحك، لكي يصنعوا حبكة للفيلم. لقد بدت لهم عدة خيارات ممكنة الحدوث، لكنهم أرادوا أمرا مختلفا، كارثة فريدة من نوعها ربما.
لذا قاموا بحياكة سيناريو مبتكر تتعرض فيه الأرض لآفة زراعية شديدة وهي وباء اللفحة، إذ تقضي على جميع مصادر الغذاء الطبيعي والمحاصيل الزراعية، ليبقى محصول الذرة فقط بعد سبع سنوات من انتشار الوباء، ونتيجة لذلك تزداد نسبة غاز النتيروجين في الهواء ويقل غاز الأوكسجين شيئا فشيئا.
ونظرا لتلك النتائج الكارثية فإن الأرض ومن عليها يتجهون نحو الاختناق البطيء، ولن تستمر الحياة على أقصى تقدير لأجيال بشرية أخرى بعد آخر جيل حالي. هذا ما سرده الفيلم لمشاهديه، وإن بدا بعض الشيء بعيدا عن إمكانية حدوثه في الوقت الراهن، إلا إن هناك خيارات واحتمالات واردة الحدوث قد تقود البشرية إلى ذات المصير، أي الفناء. وهنا نتعرض إلى بعض تلك الاحتمالات المريعة.
احتمال الأول: القنابل النووية.. سلاح تدمير الإنسان لنفسه
“قليل هم من ضحكوا، وقليل هم من بكوا، ولكن أكثرهم كانوا صامتين” ثم أردف بنبرة عميقة وبعيون حادة لا ترمش وبملامح وجهه الجامدة “الآن أنا أصبحت الموت، مدمر العالم”.
لعل اختراع قنبلة نووية بالنسبة للعالم الأمريكي “روبرت أوبنهايمر” (Robert Oppenheimer) كان مؤرقا في بداية الأمر بعد أول تجربة ناجحة قد تمت في ولاية نيومكسيكو عام 1945 ضمن “مشروع مانهاتن” (The Manhattan Project)، إذ قال حينها وهو يشاهد سحابة دخانية هائلة تشبه فطر عش الغراب قد خلفها الانفجار: لقد علمنا أنّ العالم تغير، ولن يعود كما كان(1).
مشروع مانهاتن.. سباق مع الألمان في حلبة صناعة الموت
كان “مشروع مانهاتن” استجابة لمخاوف الأمريكيين وراء تداعيات تشير إلى أن الألمان مع بداية الحرب العالمية الثانية بدؤوا بالعمل على قنبلة خطيرة لا مثيل لها تعتمد على التفاعلات النووية بين الذرات، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الحين تعد نقطة التقاء نخبة من العلماء الذين أودت بهم الحرب إلى الهروب إلى أكثر المناطق أمانا بعيدا عن قارة أوروبا.
كان من بين تلك النخبة العالم الهنغاري “ليو تسيلارد” (Leo Szilard) الذي كان على دراية بأهمية بناء مفاعل نووي بشكل فوري قبل أن يتمكن النازيون من الوصول إلى هذا السلاح الفتاك. لكن على الرغم من تفوق “تسيلارد” في الفيزياء النظرية ومكانته العلمية المرموقة، فإنه لم يكن يمتلك علاقات قوية مع أصحاب القرار والنفوذ في البلاد، لذا كان عليه اللجوء إلى من كان بإمكانه أن يؤثر في دائرة صناع القرار.
وعند الحديث عن الشخصية العلمية التي كانت تمتلك ذلك الزخم والحضور القوي، فإن الأصابع تتجه مباشرة نحو أكثر الشخصيات تأثيرا في عصر العلم الحديث، عالم الفيزياء النظرية الأشهر “ألبرت أينشتاين”، الذي كان قد نزح إلى الولايات المتحدة الأمريكية في وقت سابق قبل اندلاع الحرب.
هرع “تسيلارد” إلى جزيرة “لونغ آيلاند” التابعة لمدينة نيويورك، حيث كان يقطن “أينشتاين” بعيدا عن صخب الشوارع والأحياء، وبعد أن التقيا شرح له “تسيلارد” مخاوفه من إمكانية استخدام الحزب النازي لخام اليورانيوم الثقيل في عملية انشطار نووي يتبعها تفاعل نووي متسلسل لينتج من ذلك طاقة كبيرة، ثمّ أخبره أن هذه الطاقة الضخمة من الممكن استخدامها كسلاح فتاك.
لقد كان ذلك مقنعا لدى “أينشتاين” ليتخذ إجراءات سريعة بهذا الشأن، وعلى عكس ما عرف عن معتقداته السلمية، فإنه قام بالتوقيع على عريضة عُرفت باسم “رسالة أينشتاين-تسيلارد” وأرسلت إلى البيت الأبيض في الثاني من آب/أغسطس من عام 1939 إلى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك “فرانكلين روزفلت”، ليطلعه على أهمية إنشاء مفاعل نووي والبدء بالتسليح النووي قبل أن يسبقهم النازيون(2).
قادت تلك المراسلات بين نخبة العلماء والبيت الأبيض إلى إنشاء “مشروع مانهاتن” كأول مشروع نووي على الأراضي الأمريكية بدعم من حكومتي بريطانيا وكندا عام 1942، وترأس ذلك المشروع العالم الشاب “أوبنهايمر”.
ولأن ملاحظات أمنية كان تحوم حول العالم “أينشتاين” لما عُرف عن أفكاره السلمية ولكونه ألماني المنشأ، فقد أقصي من المشروع النووي السري، وبقي بعيدا عن المشهد السياسي تحسبّا لأي محاولة إفشاء.
اكتشاف الانشطار النووي.. معادلة أينشتاين الكارثية
كانت فكرة إحداث تفاعل نووي مخبريا محل اختلاف وجدل كبير بين العلماء في أرجاء العالم لفترة طويلة، حتى جاء عام 1938 قبيل الحرب العالمية الثانية، وبعد انقضاء عطلة أعياد الميلاد من ذلك العام كان الفيزيائي “أوتو فريش” (Otto Frisch) برفقة الفيزيائية “ليز مايتنر” (Lise Meitner) يسيران في منعطف ثلجي في إحدى ضواحي برلين النازية يتبادلان أطراف الحديث بشأن ورقة بحثية وصلتهما مؤخرا، وتتحدث هذه الورقة عن تجربة علمية جرت بطريقة مغايرة للمألوف، إذ قام المخبريون بإطلاق جسيمات النيترونات -وهي الجسيمات دون الذرية التي لها قدرة عالية على النفاذ في المواد- على نواة عنصر اليورانيوم الثقيل، ولاحظوا أنّ ما ينتج من هذا الاصطدام نظائر عنصر الباريوم ضمن نتائج الاضمحلال النووي.
لم تكن هذه النتيجة بالنسبة للمخبريين تحمل أي معنى، فلم يكن لأحد أن يتخيل أن جسيم النيوترون الصغير بإمكانه أن يشطر نواة اليورانيوم ويحولها إلى أنوية عناصر ذرية أخف. وفي خضم ضبابية نتائج هذه التجربة، قام الفيزيائيان أثناء سيرهما بتشبيه نواة اليورانيوم بقطرة ماء، وأن هذه القطرة بسبب اصطدام جسم ما بها انقسمت إلى شطرين.
ثمّ لاحظا أن هذين الشطرين تنافرا عن بعضهما بسبب فعل قوة التنافر الكهربائي بينهما عند طاقات عالية تعادل 200 ميغا إلكترون فولت، ثم تساءلا من أين أتت كل هذه الطاقة؟
لقد لاحظا بأن كتلة هذين الشطرين تساوي خُمس كتلة البروتون الموجود في الذرة الأم -ذرة اليورانيوم-، ثم بالاستعانة بمعادلة “أينشتاين” الشهيرة للنسبية الخاصة -الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء- وجدا أن الكتلة المفقودة إثر الانشطار تحولت إلى طاقة وأن الناتج يساوي تمامًا الرقم السابق 200 ميغا إلكترون فولت(3).
لقد كان الأدرينالين يتدفق بشدة في جسمهما وهما يصنعان المشهد، كتلة صغيرة تنتج طاقة هائلة، دار في ذهنهما الكثير من السيناريوهات ثم توقفا عند هذا الحد وهما يشاهدان ندفات الثلج تهطل أمام مرآهما وتتكتل في شوارع برلين. وفي مكان آخر في أمريكا، كانت الأحداث على صفيحٍ ساخن، حتى أن ماء البحر كان قد تبخر.
هيروشيما وناغازاكي.. حفلة افتتاح العصر النووي
كانت أخبار التجارب الأولية والاستنتاجات هي ما استدعى العالم “تسيلارد” إلى التحرك فورا، وهذا ما أجبر العالم “أينشتاين” على توقيع العريضة وإرسالها إلى البيت الأبيض، لكنه لاحقا أعرب عن أسفه وندمه على فعل ذلك، بعدما قامت الولايات المتحدة الأمريكية بإبادة جماعية بإسقاط أول قنبلة نووية في التاريخ على مدينة هيروشيما اليابانية في السادس من أغسطس/آب من عام 1945، فقتلت 80 ألفا من المواطنين مباشرة كحصيلة أولية، وقد تبع ذلك آلاف من الضحايا لاحقا بسبب التعرض للإشعاعات الخطيرة.
لم تمر ثلاثة أيام كاملة حتى لحقتها إبادة جماعية أخرى في اليابان بإسقاط قنبلة نووية على مدينة ناغازاكي من قبل القوات الجوية الأمريكية، وراح ضحيتها 40 ألف شخص آخر، مما ألزم إمبراطور اليابان “هيروهيتو” (Hirohito) بالاستسلام غير المشروط، معبرا عن قلقه ودهشته من قوة السلاح الجديد الذي لم يكن له مثيل في تاريخ الحروب(4).
لقد أعرب العالم “أينشتاين” عن أسفه بعد سنوات قليلة لكون معادلته الرياضية كانت سببا بشكل غير مباشر في كل هذا الدمار الذي حدث، وقال قبل وفاته: لقد ارتكبت خطأ فادحا في حياتي حينما وقعت على الرسالة التي أرسلت إلى الرئيس “روزفلت” كي أوصيه بضرورة بصناعة قنبلة نووية، ربما قد يكون هناك مبررات، منها الخوف من قدرة الألمان على امتلاك هذا السلاح(5).
هكذا انتهت الحرب العالمية الثانية وانطوت صفحة من التاريخ مليئة بالدماء والدمار، لتبدأ صفحة أخرى لا تقل خطورة عن ما مضى، فقد أصبح العالم بأكمله مهددا.
الحرب الباردة.. منعطف حاد في عالم الأسلحة النووية
لقد انتشرت حرب الجواسيس في تلك الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية، وبرعت كل دولة في ابتكار أساليب خفية لاختراق أعتى وأكثر الأروقة والأقبية سرية لدى الطرف الآخر.
ولم تسلم المفاعلات النووية السرية من محاولات الاختراق -ولا سيما “مشروع مانهاتن”- من قبل جواسيس الاتحاد السوفياتي الذي بدا بزعامة “جوزيف ستالين” حليفا لا يؤمن مكره أثناء الحرب العالمية الثانية، فقد كانت روسيا تتهيأ لحقبة ما بعد انتهاء الحرب لفرض سطوتها على العالم وإرغام كل حليف وعدو على الإذعان لسلطتها.
لم يكتف الاتحاد السوفياتي من إرسال جواسيسه إلى أمريكا، بل قام بتجنيدهم بينما كانوا يخدمون في تلك المناطق، وخير من قدم لهم معلومات ساهمت بإنشاء مشروعهم النووي المستقل هو العالم الألماني الشاب “كلاوس فوكس” (Klaus Fuchs) الذي كان يعمل في “مشروع مانهاتن”.
لقد كان العالم “فوكس” ذا انتماءت اشتراكية منذ كان في بلده الأم ألمانيا، فقد انضم للحزب الاشتراكي الألماني قبل أن يرحل إلى بريطانيا بعد أن تولى الحزب النازي الحكم، ثم رحل إلى أمريكا بعدما اختارته الحكومة البريطانية ضمن العلماء المشاركين في المشروع النووي الأمريكي السري.
وبسبب نزعته الاشتراكية استطاع الاتحاد السوفياتي الاشتراكي تجنيده لصالحهم، وبذلك قام “فوكس” بتمرير معلومات سرية للغاية للروس أثناء عمله داخل قسم الحسابات النظرية في “مشروع مانهاتن”، حيث كان منصبه يخول له الاطلاع على كمية الطاقة الناتجة من انفجار ذري، ولم يكتف بذلك، فبسبب حنكته استطاع منح الروس الأسبقية في الصراع النووي(6).
حصل الروس على معلومات مفادها أنهم قادرون على صناعة قنبلة نووية تفوق قوتها القنبلة التي صنعها الأمريكان بأضعاف، لقد كانت نقطة تحول بالنسبة لهم، فمفهوم القنبلة الجديدة يعتمد على الاندماج النووي بين الذرات بدلا من الانشطار النووي، وهو ما يحدث تماما في العمليات النووية في النجوم، وتساعدها على توليد كل تلك الطاقة الهائلة في الكون على مدار مليارات من السنوات.
وفي الثلاثين من شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 1961، أعلنت روسيا امتلاكها أعظم وأخطر سلاح صنعته البشرية على الإطلاق، وأطلقت عليه “قنبلة القيصر” (Tsar Bomba). لقد جرت تجربة هذه القنبلة الفتاكة في جزيرة “نوفيا زاميلا” الواقعة في المحيط المتجمد الشمالي.
أظهرت التجربة نتائج مجنونة، إذ بلغت قوة الانفجار ما يعادل 57 مليار طن من مادة تي إن تي، وهو ما يعادل شدة القنبلتين اللتين ضربتا هيروشيما وناجازاكي مجتمعتين بـ1500 مرة(7).
شرعت دول عدة في إنشاء برامجها النووية الخاصة بها، ومنهم من استطاع بالفعل أن يمتلك أسلحة دمار شامل قادرة على نسف وطمس معالم مدينة بأكملها بلحظات، ربما وصل الإنسان في قدرته على إلحاق الضرر بنفسه بأشنع طريقة ممكنة لدرجة أن يقود الأرض نحو الهلاك بضغطة زر واحدة فقط.
الاحتمال الثاني: النيازك.. ضيوف الأرض السفاحون
لا ينبغي أن نُقصي احتمالية تعرض كوكب الأرض لزائر ثقيل قادم من الفضاء الخارجي في أي وقت مستقبلا، لكن بالطبع يمكننا التنبؤ بذلك وتخمينه وفق عمليات الرصد والمراقبة للأجرام السماوية حول الأرض بشكل مستمر.
ربما من الأمور التي تجعلنا مختلفين عن المخلوقات التي انقرضت بسبب الكوارث الطبيعية هو إدراكنا ووعينا بطبيعة المكان الذي نحن عليه، وإلمامنا ببعض ما حولنا، وهذا ما قد يدفعنا لمحاولة النجاة، لكن ما هي حظوظنا في توخي شر قادم من أعماق الكون يصعب إيقافه؟
للأرض تاريخ طويل ونزاع يمتد لمليارات السنوات مع المتطفلين القادمين من الخارج، فالأرض لم تكن لتنزوي وتستقل في عالمها دون أن يطل عليها من يعكر صفوها بين الفينة والأخرى، إذ يؤمن الجيولوجيون أن مرة كل 50-100 مليون سنة يسقط على الأرض نيزك ضخم مشابه لحجم النيزك الذي تسبب بفوهة “تشيكشولوب” (Chicxulub) الواقعة في خليج المكسيك، وقد تسبب بإبادة الديناصورات والكثير من المخلوقات الأخرى قبل 66 مليون عام بنهاية العصر الطباشيري(8).
وما لا يمكن إنكاره هو أن ثمة آلاف النيازك صغيرة الحجم تسقط على الأرض يوميا، ولكن لا نشعر بها، ويعود الفضل إلى وجود الغلاف الجوي الذي يفتتها ويدمرها بفعل قوة الاحتكاك ليتحول ذلك الحطام المتخلف إلى غبار نيزكي دقيق متطاير. ويمكن ملاحظة ذلك في المناسبات الفلكية المميزة عندما تهطل مجموعة من النيازك الصغيرة مضاءة لبرهة ثم تختفي ويطلق عليها اسم زخة الشهب (Meteor shower).
ويمكن تشبيه حال الأرض سابقا بحال القمر اليوم، إذ نلاحظ أن القمر مليء بالفوهات الصدمية المنتشرة على سطحه والناتجة من ارتطام النيازك على مدار سنوات طوال، وهو ما كان يبدو عليه سطح الأرض فيما سبق قبل أن يتشكل الغلاف الجوي للأرض ليكون جدار الدفاع الأول والأخير ضد النيازك المتطفلة.
نهر تونغوسكا.. نيزك يفوق قنبلة هيروشيما بضعفين
على الرغم من أن النيزك الذي أباد الديناصورات لا يسقط على كوكب الأرض إلا في فترات متباعدة، فإنه بحسب دراسة النيازك وارتباطها بسطح الأرض وجد العلماء أن هناك نيازك تسقط بشكل دوري في فترات زمنية أقصر خلال مئتي عام أو ما شابه.
ففي صباح يوم 30 يوليو/حزيران 1908، نحو الساعة السابعة بينما كان أحدهم جالسا أمام شرفة لمركز تجاري في مدينة فانافارا في سيبيريا، ومن دون سابق إنذار وجد نفسه ملقى أرضا بفعل صدمة هوائية ساخنة عنيفة أسقطته، حتى أنه أحس بثيابه تحترق من شدة الحرارة.
بدا في البداية أن انفجارا مجهول الهوية قد حدث، لكن التحقيقات كشفت عن احتمالية سقوط نيزك قطره كما يقدره الباحثون 50-100 مترا على نهر تونغوسكا في سيبيريا، ووصل تأثيره ضمن دائرة نصف قطرها 60 كيلومترا، ولم تسجل أي خسائر بشرية لسقوطه في منطقة نائية(9).
تكشف التقديرات أن النيزك كان بكتلة 99 ألف طن حينما دخل الغلاف الجوي للأرض وبسرعة تصل إلى 14.7 كيلومترا في الثانية، مما تسبب بارتفاع درجة حرارة الهواء المحيطة به إلى 24700 درجة مئوية. وقد أشارت الدراسات بأن نيزكا بظروف كهذه يتسبب بانفجار شدته تعادل 185 ضعف تأثير القنبلة النووية التي سقطت على هيروشيما(10).
مؤتمر تورينو.. قياس خطر اصطدام النيازك
ربما دق جرس الإنذار منذ عهد بعيد بالنسبة للمجتمع العلمي والفلكي على سطح كوكب الأرض، لكن فقط في نهاية تسعينيات القرن الماضي اتخذت بالفعل خطوة فعلية لتقدير الخطر المحتمل الناجم من ارتطام أي جسم سماوي بالأرض. يهتم العلماء عند دراسة النيازك بأمرين أساسيين، وهما كتلة الجسم، وسرعته. لأن هذين المتغيرين هما أساس الطاقة الحركية المنبعثة التي تحدد شدة الارتطام.
ويُعبّر عن هذه الطاقة بما يقابلها من ملايين الأطنان من المادة المتفجرة “تي إن تي”، وهي ذات الوحدة المستخدمة لقياس الطاقة المنبعثة من انفجار قنبلة نووية، وبذلك تسهل المقارنة بين تأثير النيزك والقنبلة النووية.
لقد دعى البروفيسور “ريتشارد بينزل” (Richard P. Binzel) الباحث في علم الأرض والغلاف الجوي في معهد ماساتشوستس للتكنلوجيا (MIT) إلى إقامة مؤتمر علمي في مدينة تورينو في إيطاليا عام 1999، لوضع معيار يقيس خطر الأجسام التي تحوم حول كوكب الأرض ومدى إمكانية الاصطدام بها مستقبلا، وقد سُمي بمقياس تورينو (وهو يشبه مقياس ريختر لقياس شدة الزلازل)(11).
ويتراوح مقياس تورينو من الصفر إلى العشرة، فالصفر يشير إلى عدم وجود أي خطر، أما العشرة فتشير إلى اصطدام كارثي على سطح الأرض. وأعلى ما جرى رصده وتقييم خطورته كان كويكب (99942) الذي اكتُشف عام 2004 وقد حصل على تقييم أربع درجات على مقياس تورينو، ولكنه لاحقا خرج من القائمة السوداء بعد أن اكتشف العلماء خطأهم في تقدير مداره حول الشمس ليحصل على تقييم صفر(12).
تصنيف العلماء للكوارث العالمية بحسب حجم النيزك
بعد دراسات مطولة من قبل علماء مهتمين بهذا الشأن، قاموا بتقدير مدى الخطر الذي من الممكن أن يتسبب به نيزك ما بالنظر إلى حجمه، فقد رأوا بأن أي كارثة عالمية هي ما تؤدي إلى القضاء على ربع سكان الأرض.
كما وجدوا أن أصغر نيزك بإمكانه القيام بذلك لا يقل طول قطره عن كيلومتر واحد، ووجدوا بأن نيازك مثل هذا تسقط على الأرض كل 100 ألف عام في المتوسط. وأن نيزكا بقطر 100 متر يسقط كل ألف عام، وهو أصغر نيزك بإمكانه أن يتسبب بدمار على مستوى إقليمي.
الاحتمال الثالث: الأوبئة.. جيوش غير مرئية تهدد البشرية
في كلمة مصورة عام 2015 على منصة تيد العالمية (TEDx)، ظهر أحد أثرياء العالم صاحب الباع الطويل في عالم التكنولوجيا، وهو المبرمج الأشهر “بيل غيتس” مؤسس شركة ميكروسوفت، ولم يكن ظهوره كما اعتادت عليه الكاميرات أن تلتقطه وهو يتحدث عن الأمور التقنية وآخر التطورات العلمية، بل كان ثمة أمر أكثر أهمية من كل ذلك، ألا وهو الخطر الأكبر الذي يهدد حياتنا مستقبلا.
لقد بدا “بيل غيتس” جادا للغاية ومحذرا كذلك أثناء حديثه بتوجيه أصابع الاتهام نحو الجوائح الميكروبية لكي تكون السبب الأول في إحداث كارثة عالمية على كوكب الأرض، بدلا من توجيه أصابعه نحو الحروب النووية وأسلحة الدمار الشامل، وتابع في خطابه أن البشرية ليست جاهزة بعد لمواجهة أي تفشٍّ لوباء في العالم، وأننا اليوم نعيش في خطر أكثر من أي وقت سبق(13).
ربما قد كان محقا بالفعل، فانتشار الفيروسات والبكتيريا في العالم اليوم يعتمد بشكل أساسي على سرعة التنقل في أقطار الأرض وسهولتها، وهو ما حدث بالفعل بعد أقل من 5 سنوات من حديثه حينما ظهر فيروس كورونا في نهاية عام 2019، ثم انتشر سريعا حول العالم في ظرف أسابيع قليلة.
فيروس كورونا.. خاتمة الجوائح عبر التاريخ
لعل وباء الطاعون هو أكثر الأمراض الميكروبية التي هددت البشرية بسبب شدة فتكه وسرعة انتشاره، وتشير السجلات التاريخية إلى أن أقدم وباء جرى توثيقه كان في الصين قبل 5000 عام، إذ أبيدت قرية بأكملها في منطقة يطلق عليها اليوم “هامين مانغا” (Hamin Mangha).
كما أشارت الدراسات الأثرية والأنثروبلوجية (الأنثروبلوجيا: علم دراسة الإنسان) إلى أن المرض انتشر سريعا إذ لم تكن هناك فرصة لدفن الجثث بطريقة صحيحة، ومن حينها لم تعد المنطقة مأهولة بالسكان ولم يقترب إليها أحد، ويعد المكان من المناطق الأثرية المحفوظة في العالم(14).
ومن الأوبئة التي انتشرت في العالم قديما الوباء الذي ضرب العاصمة اليونانية أثينا عام 430 قبل الميلاد، وذلك بعد بداية الحرب البيلوبونيسية الثانية بين الحلف الديلي بقيادة أثينا ضد الاتحاد البيلوبونيزي بقيادة أسبرطة. ويقول المؤرخ الإغريقي الشهير “ثيوقيديدس” (Thucydides) واصفا تلك الفترة البائسة: لقد كان الأشخاص الذين يتمتعون بصحة جيدة يتعرضون لارتفاع مفاجئ وشديد بدرجة الحرارة، واحمرار والتهاب في العينين، أما الأعضاء الداخلية مثل الحلق واللسان فقد أصبحت دموية محمرة تنبعث منها رائحة كريهة غير طبيعية.
يعتقد الباحثون أن سبب الوباء كان مرض التيفوئيد أو الجدري، وبعضهم يرى أنه طاعون الدبلي، وقد قضى حينها على 100 ألف من سكان المدينة(15).
وتظهر السجلات أن الجوائح المرضية تصيب الأرض بشكل دوري كل قرن مرة على الأقل، ويعد وباء الطاعون الدبلي الذي انتشر في منتصف القرن الرابع عشر أكثر الأوبئة فتكا في تاريخ البشرية، وهو المعروف كذلك بلقب الموت الأسود، فقد انتشر في قارات العالم القديم -آسيا وأوروبا وأفريقيا- انتشارا مريعا حتى أنه قضى على نصف سكان أوروبا وعلى عشر سكان العالم، ففي المدينة التاريخية دمشق وحدها كان الطاعون يقضي على 1000 ضحية يوميا، وفي مصر قضى على 40% من السكان(16).
وقد كتب المؤرخ وعالم الاجتماع ابن خلدون الذي فقد أبويه بسبب الطاعون في مقدمته الشهيرة “مقدمة ابن خلدون” عن هذه الفاجعة قائلا: هذا إلى ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المئة الثامنة من الطاعون الجارف الذي حاق بالأمم، وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها(17).
لم تتوقف الجوائح عن مزاولة عادتها في تهديد البشر، بل على النقيض من ذلك كانت مسببات الأوبئة كالفيروسات والبكتيريا تزداد تعقيدا وفتكا في الجسم البشري مع مرور الوقت، وفي القرن الماضي على أعقاب الحرب العالمية الأولى عام 1918، وما إن بدأت الشعوب والدول التقاط أنفاسها من الحرب حتى ظهر شبح فتاك يحصد أرواحا أكثر مما فعلته الحرب، ألا وهو الإنفلونزا الإسبانية.
يُقدر عدد الذين أصيبوا بالإنفلونزا الإسبانية بقرابة 500 مليون شخص من أقصى الجنوب حتى أقصى قارة القطب الشمالي، خمسهم وافتهم المنية، وبعض القبائل والمجتمعات كانت قد أوشكت على الانقراض في ذلك الحين(18).
وفي القرن الحديث ظهر فيروس إيبولا غربي قارة أفريقيا، وقد قضى على 11500 شخص في ظرف سنتين ما بين عامي 2014 و2016. وأخيرا فإننا نشهد اليوم ظهور فيروس كورونا الذي انتشر في العالم بسرعة فائقة بداية العام الحالي.
“ساعة القيامة”.. فناء البشرية بعد أقل من دقيقتين
مع عدم التطرق إلى احتمالات أخرى مهددة لوجود الجنس البشري مثل التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي المفرط الذي حذر منه رواد في المجالات العلمية مثل “ستيفن هوكينغ”، إذ عبر عن خوفه من أن البشرية قد تكون نهايتها مع صعود غير مدروس ومضبوط للذكاء الاصطناعي تعجز البشرية عن السيطرة عليه مستقبلا.
وفي خضم كل تلك التهديدات، حرص علماء في جامعة شيكاغو الأمريكية عام 1947 على ابتكار ساعة رمزية تشير إلى نهاية العالم وفق الأحداث التي تطرأ على كوكب الأرض، أهم عواملها هي تدشين الأسلحة النووية والتغير المناخي، ويطلق عليها ساعة القيامة (Doomsday Clock) باستعارة مجازية للإشارة إلى كارثة عالمية ستحل على الأرض، وتحدث تلك الكارثة فقط حينما ينطبق عقربا الساعة على بعضهما عند منتصف الليل.
خلال العقود الماضية تعرض عقرب دقائق الساعة إلى عدة تقلبات بين التأخر والتقدم، بين لحظات سلام وأخرى احتدام، لكن ربما نعيش اليوم أسوأ تلك اللحظات كما تشير الساعة إليه الآن حسب تقدير صناعها، إذ إنها الآن الساعة الثانية عشر إلا دقيقة وأربعين ثانية فحسب(19).
المصادر:
[1] تمبرتون، جميس (2017). ” الآن أنا أصبحت الموت، مدمر العالم”. قصة اقتباس أوبنهايمر سيئ السمعة. تم الاسترداد من: www.wired.co.uk
[2] محررو الموقع. رسالة أينشتاين-تسيلارد “النسخة الأصلية”. تم الاسترداد من: www.atomicheritage.org
[3] كودوس، آلان (2007). ديسمبر 1938: اكتشاف الانشطار النووي. تم الاسترداد من: www.aps.org
[4] محررو الموقع (2009). قصف هيروشيما وناجازاكي. تم الاسترداد من: www.history.com
[5] كلارك، رونالد (1972). أينشتاين: حياته وعصره. نيويورك، ويليام مورو. ص752
[6] محررو الموقع. كلاوس فوكس. تم الاسترداد من: www.atomicheritage.org
[7] دولينج، ستيفن (2017). القنبلة الذرية الهائلة التي كانت أكبر من أن تستخدم. تم الاسترداد من: www.bbc.com
[8] سومنر، توماس (2017). ما الذي قتل الديناصورات؟. تم الاسترداد من: www.sciencenewsforstudents.org
[9] هانجبوم، مليسا (2016). انفجار في سيبريا عام 1908 جاء من العدم. تم الاسترداد من: www.bbc.com
[10] د. فيلبيس، توني (2008). حادثة تونغوسكا بعد 100 عام. تم الاسترداد من: www.science.nasa.gov
[11] تديسكو، ادورد (2005). خطر التأثير على الأرض. تم الاسترداد من: www.britannica.com
[12] الشريف، يمان (2019). طوق نجاة من نيزك.. كيف يمكننا إنقاذ الأرض؟. تم الاسترداد من: www.doc.aljazeera.net
[13] جيتس، بيل (2015). نحن لسنا مستعدين للجائحة القادمة. تم الاسترداد من: www.gatesnotes.com
[14] جروس، أوين (2015). اكتشاف مروّع: 100 جثة محشوة في منزل قديم. تم الاسترداد من: www.livescience.com
[15] مارك، جوشوا (2020). ثيوقيديدس عن طاعون أثينا: شاهد وتعليق. تم الاسترداد من: www.ancient.eu
[16] الشريف، يمان (2020). فيروس كورونا.. طاعون العصر القادم من الصين. تم الاسترداد من: www.doc.aljazeera.net
[17] عبد الرحمن بن خلدون (1377). مقدمة ابن خلدون. ص13
[18] جروس، أوين (2020). عشرون من أسوأ الأوبئة في تاريخ. تم الاسترداد من: www.livescience.com
[19] لي، أليسيا (2020). اقتربت ساعة القيامة إلى منتصف الليل أكثر من أي وقت مضى. تم الاسترداد من: www.edition.cnn.com