خاص-الوثائقية
للمدن قصص وحكايات سطّر كلماتها الإنسان، وتسرد تفاصيلها المباني والأمكنة عبر الأزمان، والإرث له قيمة ومكانة تبين تاريخ وثقافة الحضارات التي مرت على هذه الأرض، وقد كانت مسقط مثل غيرها من المدن العمانية العتيقة قبلة الباحثين ومقصد الكتاب والمفكرين عبر الأزمان.
ثمة ما يلهم الباحثة والمتخصصة في التاريخ السياسي الحديث لسلطنة عمان الدكتورة بهية العذوبية في مباني مسقط ومواقعها الأثرية، وهي تلتقي في اهتماماتها هذه مع الشاعر الشعبي مبارك الصلتي الذي يرافقها في هذه الجولة على تراث مسقط.
وكان نتيجة هذا الإلهام الذي صاغته الدكتورة بهية، وبجهود مميزة من ثلة من شباب وفتيات عمان، فيلم أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية، وعرضته ضمن سلسلة قلب مدينة تحت عنوان “قلب مدينة.. مسقط”.
“مسقط صعيبه على الغازي”.. نحت التاريخ على الصخر
صُنِعت مدن عمان بمجد الإنسان العماني وشموخه، فهو الذي نحت الصخر وشق السواقي وحفر التراب لفسائل نخيله، فنشأت من جرّاء ذلك مدن ذات مكانة اقتصادية وسياسية مرموقة، والمجد لا يخلّده إلا من عرف التاريخ ودرسه وشرّح ما فيه من حقائق، وسبر أغوار المدن والمواقع الأثرية، باحثا عن الإلهام الذي يوصله للحقيقة التي لا جدال فيها.
جاءت تسمية مسقط بهذا الاسم لأنها ساقطة بين الجبال، وهذا ما أعطاها موقعها الاستراتيجي والتاريخي عبر الأزمان، فهي محصنة بالجبال، وزاخرة بالقلاع والحصون، ومنفتحة على العالم من أوسع الأبواب؛ خليج عمان.
وتحكي الدكتورة بهية حكايات العهود التي مرت على المدينة والأئمة الذين حكموها، ثم تحولها إلى عاصمة في عهد الإمام محمد بن سعيد، ثم عن تطورها العمراني والثقافي، والكتابات التي كتبها المؤرخون والرحالة من عرب وأجانب عن المدينة نفسها وعن أخلاقيات سكانها، وعن مينائها وأهميته الاقتصادية والعسكرية، وعن مرحلة الاحتلال البرتغالي، وطردهم من قبل الإمام سلطان بن سيف الأول.
بينما يتغنى الشاعر الصلتي بمدينته الشامخة، من خلال أبيات شعبية يقول فيها:
مسقط صعيبه على الغازي
بنار المدافع توَرّي به
بعنا وشرينا على الغازي
ما كان ريبه تورّي به
باب المساعيد.. بوابة إلى التراث العماني
هنا باب المساعيد، أحد البواب الأربعة التي تحمي مسقط، وهذا قصر العلَم وهو أيضا قصر الحكم، ويظهر في الخلفية مدخل خليج عمان حيث قلعة الميراني وقلعة الجلالي أو الكوت الشرقي والكوت الغربي كما كانت التسمية سابقا، وهنا يتذكر الشاعر الصلتي وجود سوق شعبي قديم كان يباع فيه الماء بواسطة الحمّالين “الطويان”، قبل أن تتزود المدينة بشبكة المياه.
ولا يفوت الدكتورة بهية وفريقها المرور على الفنون الشعبية وبعض الرقصات مثل رقصة الرزحة والعازي، وتقام في الأعياد والمناسبات العامة، وتلك الفنون البحرية التي يشتهر بها شباب عمان ويفاخرون بها مثل “المديمة” و”الشيباني”.
وتعتمد الفنون الشعبية العمانية على طيب الكلمة والإيقاعات المتمازجة مع الرقصات الشعبية، وتشكل مع السيف والترس والخنجر والبندقية لوحة من الفخر والاعتزاز، حين يتقلدها ويتباهى بها الرجل العماني. وقد كانت مسقط مطرح قبلة الفنانين العمانيين على مرّ الزمان، ومن كل أنحاء عمان.
الحلوى العمانية.. سفير مسقط إلى أنحاء العالم
إذا زرتَ مسقط فلا بد أن تتذوق الحلوى العمانية التي بلغت شهرتها الآفاق، ولا يحدثك عنها مثل خبير، وهنا نلتقي السيد مرشد الحوسني صاحب أحد أشهر محلات الحلوى وأعرقها، حيث يقول: من طقوس الضيافة والإكرام في مسقط تقديم القهوة والحلوى العمانية، وهذه الحلوى من أهم مميزات الضيافة في عمان، وهي تراث ضارب في القدم.
ويضيف الحوسني: كان البحّارة والمستكشفون العمانيون يأخذون هذه الحلوى معهم في رحلات الاستكشاف والتجارة والدعوة الإسلامية ويقدمونها كهدايا وتذكارات في كل أنحاء العالم، ولا يكاد يخلو بيت عماني من الحلوى العمانية الخاصة، في المناسبات والأعياد والأعراس، فهذه تقاليد ضاربة في أعماق الزمن، ورثناها كابرا عن كابر، نعتز بها ونورثها لأبنائنا.
وعن طريقة صنع الحلوى يقول الحوسني: سر نجاح المنتج هو التحريك المستمر للخلطة، ويستغرق تحضيرها زهاء ثلاث ساعات على النار، أما المكونات الأساسية فهي الزعفران الذي يضفي اللون المحبب والطعم الشهي والنكهة المميزة، ثم الهيل (حب الهال) وماء الورد والسمن أو الزبد والنشاء العماني والسكر الأحمر المحلي، ثم تزين بأنواع المكسرات وتقدم مع القهوة العربية العمانية.
كانت الحلوى في الصغر مصدر سعادتنا، ومجرد السماع باسمها يدخل فرحا لا متناهيا على قلوبنا، وخصوصا أنها كانت تقدم في المناسبات المتباعدة، وليس بإمكان كل بيت أن يشتريها في الأيام العادية، وكانت تقدم في رمضان حسب طقوس خاصة، وكانت تقدم سوداء وصفراء، أما الآن فإن ربات البيوت والشابات العمانيات يتفنّنّ في تقديمها بأشكال وألوان ونكهات عصرية مختلفة.
مبادرة “نساء سداب”.. كي لا يندثر التراث
تشتهر مسقط بالثراء الثقافي والتراثي المحسوس من خلال الحرف والصناعات المنزلية التي تمارسها النساء في مسقط، مثل خياطة الكُمَّة العمانية (القلنسوة العمانية) والسعفيات وخياطة الأزياء العمانية بشتى أنواعها، وفي مناسبات الزفاف كانت الجارات يجتمعن في الحي ويخطن كل ما يلزم العروسين من الثياب والمنسوجات والفرش.
وتتعلم الفتيات مهنة النسيج والحياكة والتطريز من أمهاتهن وجداتهن، ويعلمنها لبناتهن عندما يكبرن ويتزوجن، وتتعاهد الناشطات العمانيات، من خلال الجمعيات واللافتات المجتمعية الأخرى الحفاظ على هذا التراث من الاندثار.
ومن هذه المبادرات النسائية في مسقط “نساء سداب”، وهي مبادرة نسائية اجتماعية في قرية سداب بمسقط، حيث يجتمعن لعمل الصناعات التقليدية العمانية حفاظا على الإرث الأصيل، وكذلك لتأمين دخل موازٍ لربات البيوت، ومن أنشطتها صناعة “الحقلة” وهي منصة يجلس عليها العروسان في ليلة الحنّاء، وهي تراث قديم في مسقط تحاول النساء اليوم إعادة قيمته ومكانته في نفوس العرائس الشابات.
الخنجر العماني.. عنوان الشجاعة والمجد التليد
إضافة إلى الصناعات التقليدية تشتهر مسقط بالصناعات الفضية والمجوهرات، ويأتي في مقدمتها الخنجر العماني الأصيل، وتعتبر عائلة “يوسف صومار” من أقدم عوائل الصاغة في مسقط ومطرح، ولا يزال أبناء العائلة يضعون في أول أولوياتهم صناعة الفضة كإرث عائلي لا يمكن التفريط فيه.
وغالبا ما يصنع مقبض الخنجر من قرن الثور أو قرن الجاموس، وبعضها من خشب الصندل، ويعد الخنجر السعيدي من أشهر أنواع الخناجر في عُمان، وكانت نقشته المتميزة مخصصة للسادة من آل سعيد، وهو مصنوع بالكامل من الفضة وله حزامه الخاص من الفضة أيضا. ويصنع النصل من الفولاذ الصلب الذي يمكن تطويعه ليكون حادا جدا.
حرفة الطراقة.. مهنة الشعوب الساحلية
إذا تحدثت عن الصيد والصيادين في مسقط فحدِّث ولا حرج، فصيد الأسماك يُعد في مقدمة الحرف التقليدية لأهل المدينة، فهم يعشقون الصيد في سواحلها الممتدة، وترتبط بالصيد حرفة “الطراقة” أو حياكة شباك الصيد التي توارثها الأبناء عن الآباء، ويتعلمون من خلالها الصبر ومواجهة الشدائد في البحر من رياح وأعاصير.
ومن المهارات الصيدُ بالصنارة “الزانة” أو بالشبكة “الليخ”، ويعتمد حجم الشبكة ومتانة خيوطها على نوع السمك المراد صيده، فهناك الكنعد والتونا والسهوا من الأسماك الكبيرة، وهناك أنواع أخرى كثيرة من الأسماك الأصغر حجما.
مطرح.. رئة مسقط التجارية
تعتبر مطرح الرئة الاقتصادية التي تتنفس من خلالها ولاية مسقط، فهي تعج بالتجارة ويعيش فيها خليط متجانس ومتعايش من جنسيات متعددة، وبها مجموعة هامة من الأسواق الشهيرة مثل سوق “الكومباريين”، وسور “اللواواتيا” وسوق الظلام أو السوق الصغير.
وإلى مطرح جاءت إرسالية أمريكية في أواخر القرن الثامن عشر، وبنت فيها أول مستشفى، وقد دخل العنصر الغربي مع العمانيين بكثافة حين تم اكتشاف البترول، ويجتمع في مطرح كل أشكال إنتاج عمان الحرفي والتجاري والاقتصادي، ومن كافة محافظاته.
حفظ التحف والتذكارات.. حكاية مجد ليست له خاتمة
نلتقي في جولتنا بالسيد سعيد الوهيبي، وهو مصور وجامع قطع كلاسيكية قديمة من العملات والتحف والتذكارات الأخرى، وهو يخلط بين مهنة التصوير وبين جمع التذكارات، فيرسم صورة زاهية عن ماضي عمان، ثم يقوم بتسويقها على مواقع التواصل، وقد لقيت هذه المبادرة تفاعلا منقطع النظير من المتابعين والمشاهدين.
وحتى إذا طويت الصحف وجفت أقلام الكُتّاب فإن مسقط تبقى حكاية لا تنتهي، والتاريخ يسجل نفسه في هذه اللحظة، فمسقط لا تكاد تخلو حاراتها وأزقتها من إرث شاهد، ومجد يباهي بفخر على أنه جزء من منتج حضاري عريق يروي للأجيال عظمة المدينة وما تحمله من قصص وحكايات.