يعد فيلم “عاشقات كرة القدم” للمخرجَين “شرمين مجتهد زاده” و”باليز خوشديل” من الأفلام الجريئة التي تعالج موضوعات حسّاسة، لا يقربها إلاّ عدد قليل من صنّاع الأفلام الشجعان، ممن يقفون بوجه الحكومات الشمولية في عموم بلدان الشرق الأوسط، التي لا تعبأ بالمعايير الديمقراطية ولا تقيم لها وزنا.
فلا يقتصر هذا الفيلم الوثائقي الجميل والعميق على حقوق المرأة والتمييز بين الجنسين كما يبدو للوهلة الأولى، لأن بنيته المعمارية المدروسة تقوم على ثنائية الذات والموضوع، فتتجاوز سيرة الذات الفردية للفتاة الإيرانية “زهرة خوشنواز” المولعة بكرة القدم والمشجعة لفريق “بيرسيبوليس”، أحد أكبر فرق كرة القدم في العاصمة طهران، كما تتابع بشغف مباريات المنتخب الوطني الإيراني.
ومن يدقق في اهتمامات هذه الشخصية وهواجسها الكبرى، سيكتشف من غير عناء أنها تلامس القضايا السياسية والثقافية والدينية، وتخترق منظومة من الأعراف والتقاليد الاجتماعية، وضعتها السلطات الإيرانية بعد الثورة الإسلامية التي انطلقت سنة 1979، وحاولتْ فرضها بقسوة جديدة على المجتمع الإيراني، فقد كان حرا متفتحا في زمن الشاه، متناغما مع القيم الأوروبية والغرب الأمريكي.
يزخر الفيلم بعدد من الناشطات، ويتناول عمليات التجميل التي تتعلق بزرع شعر الرأس والحاجبَين، ويرصد الجوانب التكنولوجية، ويركز على الهواتف النقّالة ووسائل التواصل الاجتماعي وما إلى ذلك من إفرازات ثورة الاتصالات الحديثة.
وفي المقابل يكشف عن موقف الرجل الإيراني، فهو متذبذب بين ملاحقة المرأة وقمعها ومعاقبتها لفظيا وبدنيا من جهة، وبين مؤازرتها ومدّ يد المساعدة لها كلّما كان ذلك الأمر ممكنا ومتاحا، كما فعل ثلاثة مشجعين موّهوا شكل “زهرة” الخارجي بقبعة وقميص وعلم جديد، فأبعدوا عنها نظرات رجال الأمن الذين كانوا يلاحقونها في مقاعد المدرّجات المكتظة عن آخرها.
سيل من الأفكار المتدفقة تجود بها قرائح المتحدثين
يراهن الفيلم على الكلام وسيل الأفكار المتدفقة التي تجود بها قرائح المتحدثين، بدءا بأسرة “زهرة خوشنَواز” وصديقاتها وزملائها في العمل، مرورا بالمسؤولين الكبار ومنهم رئيس الجمهورية والمدعي العام، وانتهاء بالبرلمانيين الإيرانيين رجالا ونساء.
ثم يعود إلى الجانب الذاتي والأسَري الذي انطلق منه الفيلم وانتهى إليه، من غير أن يأخذنا المخرِجان إلى “مطبّات” مفتعلة، ودهاليز مظلمة لا تفضي إلى نتيجة ملموسة.
وإذا تتبعنا كلام الشخصيات ودققنا في تفاصيله الصغيرة فإن ذلك سيضطرنا لكتابة صفحات كثيرة، لا يحتملها هذا المقال النقدي، الذي يريد التركيز على جملة من المفاهيم والقضايا التي ترصد القوانين الجديدة الصادرة بعد الثورة الإسلامية التي انطلقت سنة 1979.
أفضت تلك الثورة إلى الحجاب الإجباري، وفصل الجنسين في الأماكن العامة، مثل المدارس والمعاهد والجامعات والدوائر الرسمية وملاعب كرة القدم وما إلى ذلك، الأمر الذي أفضى إلى إبعاد المرأة عن كثير من الأنشطة الاجتماعية والفنية والرياضية.
ملاعب إيران.. مدرجات خالية من النساء 40 عاما
توقفت ألعاب كرة القدم في إيران مع انطلاقة الثورة، واستمر هذا التوقف حتى عام 1981، حينها أُجريت أول مباريات رسمية بين الفرق المحلية، لكن هذه الانطلاقة الواعدة سرعان ما توقفت في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 1981، وهو آخر يوم تدخل فيه المرأة الإيرانية الملاعب، وتشاهد مباريات لكرة القدم، وهي الرياضة الأوسع انتشارا في العالم كله.
وبعد ذلك التاريخ مُنعت المرأة 4 عقود من الدخول إلى الملاعب، فاضطرت الشغوفات بكرة القدم لأن يتنكرن بهيئة الرجال وأزيائهم، ليدخلن الملاعب ويحضرن أنشطتها الرياضية على مدار السنة.
وما إن وضعت الحرب العراقية الإيرانية أوزارها وبدأت مرحلة إعادة الإعمار، حتى بدأت مجموعة من الناشطات في مجال حقوق المرأة -على مدى 20 عاما- محاولاتهنَّ لإنهاء الحظر الصارم الذي فرضته السلطات على المرأة الإيرانية. وفي 2018، أنشأت مجموعة من مشجعات كرة القدم حركة تدعى “فتيات ملعب آزادي”، لإنهاء هذا الحظر والشروع بمرحلة جديدة.
“إيرانية تلبس زي الرجال لتحضر مباراة لكرة القدم”
لا بد من الإشارة إلى أنّ “زهرة” (27 عاما) هي خريجة كلية القانون وتعرف ما تريد بكل دقة، وبينما هي مستلقية على السرير في بيتها، حدثت هزة أرضية في طهران، وكانت حينئذ تفكر بماضيها والأشياء التي تريد أن تفعلها قبل أن تموت.
ولعلها كانت الحادثة التي غيّرت حياة هذه الشخصية الإشكالية اللافتة للانتباه، فمع أنها لم ترد أن تتقنّع بزي الرجال ومظهرهم الخارجي، بل تفضِّل دخول الملعب بمظهرها الأنثوي المعتاد، فإن الهزة الأرضية منحتها سببا آخر لولوج الملعب، لكي يصبح حلمها حقيقة ويتجسّد على أرض الواقع.
ومثلما حرّكت الهزة الأرضية مشاعر الجميع في طهران، فإن دخول زهرة إلى ملعب آزادي متنكرة بزي الرجال قد حرّك مشاعر الإيرانيين في كل مكان، فنشرت الصحافة بعنوان بارز “امرأة إيرانية تلبس زي الرجال لتحضر مباراة لكرة القدم”.
وقد انتشر هذا الخبر انتشار النار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي، فمنحها ذلك دافعا أكبر للاستمرار في نشاطها المؤازر، لإنهاء منع النساء من دخول الملاعب.
“لقد تعبت من العيش في هذا البلد”.. تناقضات صارخة
يتناول الفيلم في تفاصيله الدقيقة موضوع غلاء الأسعار في كل شيء، ولا سيما الفواكه والخضراوات والملابس. كما يسلط الضوء على زيارة “جياني إنفانتينو” رئيس الفيفا، فقد التقى بالرئيس روحاني، وطلب منه أن يسمح بدخول النساء إلى ملعب آزادي، لمشاهدة مباريات طهران المحلية.
مما يلفت الانتباه في هذا الفيلم، أنّ “زهرة خوشنَواز” تفعل المستحيل للتمويه على شخصيتها الأنثوية، فتحلق شعر رأسها كالرجال، وتضع اللحية والشوارب المزيّفة، وتكثِّف حاجبيها، وتستعمل لاصقا تشد به نهديها، مع كل الحرارة والإزعاج الذي يسببه لها، ولا سيما الصعوبة في التنفّس.
ومع أنها استطاعت دخول الملعب مرتين، فإنها كانت تصر على حضور مباراة كرة القدم بين إيران وبوليفيا، وقد نشرت وسما يقول “نذهب إلى الملعب جميعا”، على مبدأ أنّ الملاعب للجميع، وليست حكرا على الرجال. وقد تجشمت بعض الفتيات عناء السفر 4 ساعات من مدينة آراك، على أمل حضور هذه المباراة.
وحينما تشعر “زهرة” بالإرهاق، فإنها لا تجد حرجا في القول “لقد تعبت من العيش في هذا البلد”، فمع أنهم يفرضون حظرا على النساء، فإنهم يوجهون دعوة لبعض الممثلات المشهورات لحضور المباراة، مع أنهن لسنَ من مشجعات كرة القدم.
وتنذر الفيفا السلطات الرسمية بضرورة إنهاء الحظر، وإلاّ فقد تحرم إيران من استضافة المباريات الدولية على ملاعبها.
“عاشقات كرة القدم”.. مقاومة مدنية وخدش للأعراف
يعرب الرئيس حسن روحاني عن احترامه لحقّ الترفيه وقوانين الحياة الاجتماعية، وأما المدعي العام محمد جعفر منتظري، فيحثّ النساء على مشاهدة المباراة على شاشات التلفزة، بدلا من الذهاب للملاعب، ولا يحب ارتكاب الخطايا وتحطيم الأعراف الاجتماعية في البلد.
وربما يكون رحيم بور أزخاندي -وهو عضو مجلس الشورى الأعلى للثورة الثقافية- هو الأكثر صراحة، فقد اعترف بأنه كان يذهب إلى الملاعب قبل الثورة عندما كان طفلا، بتذكرة أو بدونها، وكان يتسلّق الجدران ويصل إلى المدرجات، ويتذكر جيدا هتافات المشجعين وبعض عباراتهم النابية التي تجرح الذوق العام.
وتتذمر لالة افتخاري -وهي عضو سابق في مجلس النواب الإيراني- من أنّ الغرب قد تآمر على إيران منذ زمن بعيد، وهم يستأجرون بعض النساء للدخول إلى الملاعب، واتهمت بعض الناشطات بأنّ لديهن “مشاكل عقلية”.
كما استغربت من جرأة بعضهن وتنكرهن بزي الرجال لدخول الملعب، ورأت ذلك نقصا في شخصية المرأة، واتهمت الغرب بفرض أفكاره على المجتمع الإيراني. وأما فائزة هاشمي -وهي عضو سابق في مجلس النواب- فقد وقفت في صف الناشطات اللواتي يواجهنَ التمييز، ورأت أن حراكهنّ “مقاومة مدنية”.
كوميديا الفيلم.. لحظات من السخرية السوداء
لا يخلو الفيلم من نَفَس كوميدي عذب، فنرى “زهرة” تمازح أمها قائلة: هل توافقين أن أذهب إلى الملعب لكي أجد زوجا ذا مزاج جيد؟
فترد عليها: كل الرجال تجدينهم ذوي مزاج جيد في بادئ الأمر، ولكن بعد شهر سيتغيّر كل شيء.
ترى الأم أنّ المرأة ستصبح سجينة حين تتزوج، وأما العزباء فتستطيع أن تخرج إلى أي مكان ومع من تشاء. فترد البنت بجملة ساخرة: اذهبوا أيها الرجال، ولا تتجمعوا خلف الباب.
وكأن الجميع ينتظر إشارة من هذه الفتاة الحسناء، التي خطفت قلوب الرجال، وارتهنت أرواحهم الشقية.
ثم تتطور الأحداث ويُقبض على “زهرة” مع خمس فتيات ملتحيات ذوات لحى مزيّفة في الملعب، ويتهمنَ بالنشاط ضد تحريم دخول المرأة إلى ملاعب كرة القدم، ونشر أنشطتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وقد انتهى الأمر بهن في سجن “قرجك”.
“الفتاة الزرقاء”.. ثائرة احترقت أمام محكمة الثورة الإسلامية
رصّع المخرجان “شرمين مجتهد زاده” و”باليز خوشديل” فيلمهما بقصة حقيقية مفجعة، حدثت للمشجعة الإيرانية “سحر خداياري” التي تُلقب “الفتاة الزرقاء”، وهو لون القميص الذي يرتديه فريقها المفضل “استقلال طهران”.
وخلاصة هذه الحكاية أن الفتاة الزرقاء قد أحرقت نفسها أمام محكمة الثورة الإسلامية، حين سمعت أن المحكمة تروم سجنها 6 أشهر، لأنها انتهكت حظر الدخول إلى الملاعب. وقد دفع ذلك الفيفا للتدخل، وهبّ العالم الغربي مناصرا هذه الفتاة التي فارقت الحياة بسبب حبها وتشجيعها للعبة كرة القدم.
وبعد أربعة أشهر من هذا الحادث المروع، أعلن رئيس الفيفا “جياني إنفانتينو” أن المباراة الدولية القادمة في إيران سيُسمح فيها للنساء بدخول الملاعب. ولم يتحقق مثل هذا الحدث على أرض الواقع منذ حوالي 40 عاما، إلاّ باستثناءات محدودة جدا.
“أنا مقاتلة مرهقة بعد أن خضت معركة يائسة”
استحثت قصة الفتاة الزرقاء “زهرة” على الذهاب إلى المباراة التي سمح فيها للنساء بدخول الملاعب بعد 38 سنة من المنع الصارم، لكن محاميها منعها من الذهاب، لا سيما أن اللاعبين جميعهم لم يعلقوا على قصتها في الأنستغرام، وإنما كتبوا عن قصة “الفتاة الزرقاء” وتعاطفوا معها كثيرا.
وقد اتُّهمت “زهرة” بأنها قائدة للحركة التي أسستها، لكنها نفت هذا الاتهام، وأفرغته من مضمونه، وأعربت عن رغبتها في الذهاب إلى السينما هذه المرة، ومع ذلك فهي سعيدة برؤية النساء يدخلن الملاعب الإيرانية.
وبينما كانت “زهرة” تشاهد المباراة على شاشة التلفاز، قالت جملة شديدة الأهمية، مفادها: “أنا مقاتلة مرهقة بعد أن خضت معركة يائسة”. وبعد سنة ونصف حُكم عليها بالسجن شهرين، قابلة للتحويل إلى غرامة مالية، فشعرت في أثناء إطلاق الحكم بأنها على أفضل ما يرام.
“عاشقات كرة القدم”.. عصارة تجربة إخراجية مشتركة
من الجدير بالذكر أنّ “شرمين مجتهد زاده” هي مخرجة ومصورة فوتوغرافية مستقلة حاصلة على درجة الماجستير في إدارة الأعمال، وقد أنجزت عددا من الأفلام، منها “رفع أشرعة القوارب” (Boat Raising Sails) الذي أخرجته عام 2016، و”صائدات الرياح في طهران” (The Windcatchers of Tehran) الذي أخرجته عام 2018.
وأما آخر أعمالها فهو “عاشقات كرة القدم” (The Football Aficionado) الذي بين أيدينا، وقد عُرض في عام 2022، وحصد جائزة أفضل فيلم وثائقي آسيوي في الدورة الـ27 من مهرجان “بوسان” السينمائي الدولي، في أكتوبر/ تشرين الأول 2022.
أمّا “باليز خوشديل” فهو مخرج أفلام مستقل ومونتير ومنتج. وقد عمل منذ عام 2009 مخرجا ومنتج أفلام وثائقية وتجريبية.
ويدور عدد من أفلامه حول الشباب الإيراني وأنشطتهم السرية، منها “سلاطين الشارع” (Street Sultans) الذي أخرجه عام 2010، و”تمرد الألوان” (Mutiny of Colours) الذي أخرجه عام 2016. وآخر أعماله هذا الفيلم الوثائقي الذي بين أيدينا.