ودّ أنس جحا لو استطاع إيهام نفسه أن بين أنقاض بيته في حي الفيومي بمدينة غزة من نجا من الغارة الإسرائيلية في السادس من ديسمبر/كانون الأول الماضي، التي هدمت المنزل على رؤوس 117 فردا من عائلته، لم تُنتشل إلا جثث 57 منهم، وما زال الآخرون تحت الأنقاض، كحال آلاف المفقودين منذ بداية الحرب، وفقا لما وثقه موقع “سيحا ميكوميت” الاستقصائي الإسرائيلي في تقرير مطول.
لم ينجُ أنس إلا لأنه كان في بيت أبيه المجاور لحظة الغارة، وعندما هُرع عائدا ليطمئن على ذويه بعد الانفجار، لم يجد إلا عمودًا من الدخان والغبار.
“كل البناية دمرت.. كل ما كنت أفكر فيه 140 شخصا كانوا داخلها” يقول أنس للموقع العبري.
ويوصف موقع “سيحا ميكوميت” في أوساط الناشطين اليساريين الإسرائيليين بأنه منصة للإعلام البديل تسعى لفضح ممارسات الاحتلال وسياساته العنصرية.
بدأ أنس رحلة مجنونة للبحث عن أبناء عائلته، ومعه اثنان من أبناء عمومته نجيا بأعجوبة هما أيضا بعد أن قذف بهما الانفجار خارج المبنى، وأصيبا بجروح.
لم تصل سيارات الإسعاف إلى موقع الغارة إلا بعدما نُقل أول الجرحى بسيارات خاصة إلى المستشفى المعمداني، فقد تعذر بداية إبلاغ الدفاع المدني بالغارة لانقطاع شبكة الاتصالات حينها.
زوجة أنس وطفلاهما لم يكونوا بين من انتشلوا، ولم يُعثر أيضا على والدي زوجته وأخيها.
تحت هول الصدمة لم يستطع أنس لوهلة استذكار أسماء كل ذويه، ولا حتى زوجته وأطفاله، لكنه تمكن أخيرا من تدوين أسماء ذويه الستين المفقودين.
“الحي أبقى”
رغم مرور 7 أشهر ونصف يتشبث أنس بحبل الأمل، لا لإنقاذ أي من المفقودين طبعا، وإنما للعثور عليهم وتجهيز مراسم دفن لائقة لهم.
لكن جهاز الدفاع المدني استنفد عتاده، وطواقمه عاجزة أمام حجم الدمار، فضلا عن أنها تتعامل مع غارات أخرى ربما خلفت ناجين، وبالتالي “لا وقت لديهم لحالات مثل حالاتنا” يضيف أنس.
“الحي أبقى من الميت” باختصار.
عائلة أنس ليست إلا عينة من آلاف الفلسطينيين الذين قُيّدوا رسميا في خانة المفقودين منذ بداية الحرب، أغلبهم -كما يبدو- محاصرون، موتى أو أحياء، تحت الأنقاض.
وتتحدث اللجنة الدولية للصليب الأحمر عن 8700 سجلوا رسميا بهذه الصفة، ولم يعثر عليهم في 75% من الحالات.
أما وزارة الصحة في قطاع غزة، فتتحدث عن 10 آلاف، وهو رقم لا يشمله تعداد الشهداء الرسمي الذي تقدمه الوزارة ويناهز الآن 40 ألفا.
ولأن أغلب المنشآت الصحية خرجت عن الخدمة بعد تدميرها أو إجبار طواقمها على الإخلاء، فإن إنقاذ الضحايا والتعرف عليهم ثم عدهم، قد يستغرق سنوات.
يقول الناطق باسم الدفاع المدني محمود بصل “أكثر ما يؤلمنا سماع صوت أحدهم قادمًا من تحت الأنقاض ولا نملك له شيئا”.
لم يعد الدفاع المدني يستطيع انتشال كل الجثث بسبب حجم القصف والقيود المفروضة على إدخال معدات الإنقاذ، فضلا عن أن أفراده أنفسهم هدف للغارات خلال عملهم، رغم الحماية التي يفترض أن يتمتعوا بها بموجب القانون الإنساني.
10 آلاف مفقود
“حتى لو انتهت الحرب، سنحتاج عامين إلى ثلاثة لانتشال كل الجثث.. في الفترات التي هدأ فيها القصف نسبيا واستطعنا انتشال بعضها، كانت جثث الشهداء، خاصة الأطفال، في مرحلة متقدمة من التحلل”، يضيف بصل الذي يحذر من تفشي الأمراض والأوبئة مع تراكم ألوف الجثث تحت الأنقاض، بعد حلول الصيف حيث تزيد الحرارة سرعة التحلل.
تقول الأمم المتحدة إن إزالة 40 مليون طن من الركام في غزة قد تستغرق 15عاما.
وحسب منظمة “أنقذوا الأطفال”، يشكل الأطفال أكثر من النصف من بين 10 آلاف مفقود يعتقد أنهم تحت الأنقاض، فضلا عن ألوف آخرين يرجح أن يكونوا دفنوا في مقابر جماعية غير مُعلّمة، أو اعتقلتهم قوات الاحتلال أو فقدتهم أسرهم في ظل الفوضى العارمة.
ويبلغ عدد الأطفال الفلسطينيين الذين لا يعرف مكانهم بالضبط 21 ألفا، يشملون من وصلوا إلى المستشفيات ولم تستطع الطواقم التعرف عليهم ويصنفون في خانة “طفل جريح بلا عائلة على قيد الحياة”.
وتعج شبكات التواصل الاجتماعي برسائل تسأل عن مفقودين خاصة الأطفال منهم، لا سيما بعد الترحيل القسري من رفح جنوبي قطاع غزة أوائل مايو/أيار الماضي.
بين هؤلاء أحمد ياسين ابن العاميْن الذي اختفى خلال النزوح الجماعي من ميدان العودة وسط المدينة في اتجاه المواصي قرب الساحل.
“كان متاعنا على متن شاحنتين.. ظننته مع أبيه وظنه هو معي، ولم نكتشف اختفاءه إلا خلال تفريغ حمولتنا” تقول أمه سماح.
عندما عاد أبوه رامي سريعا إلى مكان انطلاق الرحلة، لم يعثر له على أثر، ولم يتعرف أحد على المفقود.
“نبحث عنه كل يوم بين الأحياء والأموات.. أن أسمع عن موته أسهل عليّ من عذاب الانتظار. لا نعرف إن كان حيا أو ميتا.. إن نهشته الكلاب أو اعتقله الاحتلال أو اقتاده أحد جنوده إلى إسرائيل”.
شرطة غزة لا تشارك مباشرة في البحث، فمواردها شحيحة، ناهيك عن أن أقسامها هدف للغارات، لكنها تقدم يد العون كيفما اتفق، وبلا تنسيق أو مساعدة من المنظمات الدولية، كما قال مصدر فيها للموقع الإسرائيلي دون كشف هويته.
ثلاجات الانتظار
“نجمع المعلومات من الأقارب ونوزع الرسائل على مجموعات واتساب تابعة للجهاز، تتضمن تفاصيل جهة الاتصال، من رقم هاتف وعنوان، وتشمل صورا للمفقود.. وعندما يُعثر على جثة تحللت، تُلتقط صور لملابس صاحبها وعلامات مميزة أخرى.. أما إذا لم تتحلل وأمكن التعرف على ملامح الوجه، فتُلتقط صور لها تُنشر على وسائل التواصل.. ثم توضع الجثة في ثلاجة المستشفى لـ3 أيام، وتدفن إذا انقضت المدة دون التعرف عليها”.
يضيف هذا المصدر أن المستشفيات، وتحت وطأة العدد الهائل من الشهداء الذين يُحملون إليها، “تكتفي بكتابة رقم على كل جثة قبل دفنها فورا في مكان محدد.. وإذا تم التعرف عليها فتحمل اسما بدل الرقم ويحذف الاسم من قائمة المفقودين، وتقرر العائلة حينها ما إذا كانت ستنقلها إلى مكان آخر لدفنها، أو تتركها هناك”.
حسب وزارة الصحة في غزة، قتلت الغارات 14 ألف طفل، لم يتم التعرف على نصفهم.
قبور جماعية
تحدث تقرير للأمم المتحدة في مايو/أيار الماضي عن جثامين أطفال عثر عليها في مقابر جماعية، وحمل بعضها آثار تعذيب وإعدام ميداني. كما تحدث عن حالات أفراد ربما دفنوا أحياء.
حسب منظمة “أنقذوا الأطفال” فإن احتمال وفاة طفل بسبب جروحه تفوق 7 مرات احتمال وفاة إنسان بالغ، وذلك لهشاشة جسد الطفل، مما يعرضه أكثر للإصابة بجروح خطيرة تشوهه لدرجة يصعب معها التعرف عليه.
لكن صغر الجسد هذا يحول أحيانا دون سحقه تحت الركام.
ذلك مثلا حال حمزة ملكة، الناجي الوحيد من غارة في ثاني أسبوع من الحرب، قتلت كل عائلته، بشيوخها وأطفالها الصغار.
وبعد 9 أشهر على الحرب لا يُعرف بعد عدد الشهداء العالقين تحت أنقاض البيت في حي الزيتون بمدينة غزة، لكن الجيران يتحدثون عن عائلة كانت تعد 26 شخصا، جثث بعضهم لم تنتشل بعد.
طلب محمد، عم حمزة، الذي يعيش في كاليفورنيا من صديق أن يتكفل بابن أخيه ريثما يرتّب تسفيره إليه في الولايات المتحدة.
“لا أعرف كم كانوا في ذلك البيت عند قصفه، أو كم منهم غادر أو نزح في مناطق أخرى من غزة”، يقول محمد للموقع الإسرائيلي.
قبر يليق بكنزة
أما ناجي جحا، ابن عم أنس، فكل ما يريده مراسم دفن كريمة لطفلته كنزة بنت العامين التي استشهدت في الغارة التي أودت بـ117 من العائلة.
استطاع ناجي العثور على جثامين زوجته وابنه وأمه وأبيه وأخيه وبنات وأبناء أخيه وأخته، لكن لا أثر لكنزة حتى الآن.
“هل تمزق جسدها؟ هل احترقت في الانفجار؟ أم تراها نجت لكنها اختنقت حتى الموت تحت الركام؟”، يمزق هذا السؤال ناجي منذ 9 أشهر، ولا يملك له جوابا.