تحاول إسرائيل أن تجد طريقا بين التصعيد والتهدئة للرد على حادثة مجدل شمس التي نفي حزب الله بشكل قاطع مسؤوليته عنها. وفي حين يرى مسؤولون إسرائيليون أن الحادثة يجب أن تكون ذريعة لتوجيه “ضربة قاسية” لحزب الله، يخشى آخرون من خطورة الخروج عن قواعد الاشتباك التي ستكلف إسرائيل “ثمنا باهظا” أيضا.
وجاءت لهجة التصعيد الأقوى من وزير الطاقة والبنية التحتية الإسرائيلي إيلي كوهين حيث قال إن “لبنان يجب أن يحترق.. علينا أن نقوم بعمل كبير في الشمال، وهو ما سيكلف لبنان وحزب الله ثمنا باهظا”.
من جهته، أكد وزير الخارجية يسرائيل كاتس أن “هجوم حزب الله تجاوز كل الخطوط الحمر وسيكون الرد وفقا لذلك”، في حين توعد يوآف غالانت بضرب الحزب في “كل مكان نحتاج لضربه فيه”، كما طلب وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو “شن حرب على حزب الله فورا”.
وتثار شكوك عديدة حول طبيعة الحادثة وتوقيتها، فبلدة مجدل شمس تقع في الجولان السوري المحتل عام 1967 وضمتها إسرائيل لاحقا، وسكانها هم من الدروز السوريين، كما لا تضم مستوطنين، وهي بذلك لا تعد عمليا هدفا لصواريخ حزب الله.
وأكد اللواء فايز الدويري -لقناة الجزيرة- أنه من المستبعد أن يطلق حزب الله صاروخا على هدف بهذه المواصفات، مرجحا وجود احتمالين، أحدهما أن يكون الصاروخ أطلق من جنوب لبنان، ولكن حدث به خلل فني فسقط في هذا المكان، والاحتمال الآخر أن أحد صواريخ القبة الحديدية الإسرائيلية ضل طريقه فسقط في تلك المنطقة.
الذريعة وحدود الاشتباك؟
رغم نفي حزب الله في بيان مسؤوليته عن حادثة مجدل شمس، تشي تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بأن إسرائيل تسخن الأجواء لشن حرب واسعة مع حزب الله في لبنان، متخلية بذلك عن قواعد الاشتباك الضمنية التي استمرت طوال 10 أشهر من المعارك الجارية بين الطرفين.
ويشير الكاتب عاموس هاريل في مقال بصحيفة هآرتس (عدد 28 يوليو/ تموز) أن إسرائيل وحزب الله أقرب من أي وقت مضى إلى حرب شاملة، لكنه استبعد وقوعها لاعتبارات مختلفة، مشيرا إلى أن إسرائيل سترد على الهجوم ولكن ليس بالطريقة التي ستجلب الحرب، وفق تعبيره.
ويشير محللون آخرون إلى أن الحادث قد يكون بالفعل الشرارة التي قد تمهد لمواجهة شاملة، لكن الجانبين لا يرغبان في التصعيد إلى هذه الدرجة على الأقل في الوقت الراهن، كما أن إسرائيل لو كانت معنية بدخول حرب شاملة على الجبهة الشمالية لفعلت ذلك مبكرا -وفق تقديرهم- لأن ما كان يحصل فعليا خلال المعارك الماضية يعد كافيا للذهاب إلى حرب أشمل إذا كانت تريد ذلك.
ومنذ حرب يوليو/تموز 2006، تحكم معادلة ردع متبادل الصراع بين الطرفين، أفرزت عمليا قواعد اشتباك متفقا عليها ضمنيا، منعت اندلاع حرب شاملة جديدة طوال نحو عقدين، وما زالت تسيّر المعارك الدائرة حاليا.
واتبع حزب الله حدود الحرب المرسومة ضمنيا وفق قواعد الاشتباك التي أفرزتها حرب 2006، حفاظا على التوازنات السياسية الدقيقة في المشهد السياسي اللبناني المنقسم حول دوره وسلاحه، وخشية تحول الحرب إلى عمليات انتقام إسرائيلية واسعة ودمار هائل قد يطال بيروت ومدنا أخرى وفقا لما يعرف إسرائيليا بـ”عقيدة الضاحية”، التي تعتمد بالأساس على استعمال القوة الهائلة لسلاح الطيران.
وفي المقابل، تخشى إسرائيل أيضا من دمار مماثل وخسائر فادحة ومفاجآت عسكرية غير محسوبة، تبعا للترسانة الكبيرة التي يمتلكها حزب الله من الصواريخ والمسيّرات وخبرات مقاتليه، الذين يصل عددهم إلى نحو 100 ألف، بينهم قوات نخبة متمرسة، وجبهة دعم وإسناد، تضم إيران و”محور المقاومة”.
ويعتمد الطرفان في الوقت الراهن مبدأ “الضربة بالضربة”، فعندما زادت إسرائيل من وتيرة عمليات الاغتيال المستهدفة لقيادات من حزب الله خلال الحرب الجارية، كثف الحزب تدريجيا ضرباته الصاروخية ردا على كل عملية اغتيال، لتتجاوز أحيانا 100 صاروخ في الضربة الواحدة وتصل إلى نحو 40 كيلومترا، في العمق الإسرائيلي.
معادلات ومحاذير
رغم الإدانات الأميركية والغربية وتماهيهم مع السردية الإسرائيلية حول الحادث ومسؤولية حزب الله، فإن الطرفين لا يرغبان في التصعيد إلى حرب شاملة، تكون لها عواقب إقليمية وخيمة. من جهتها حذرت وزارة الخارجية الإيرانية إسرائيل “من أي مغامرات جديدة من الكيان الصهيوني تجاه لبنان بذريعة حادث مجدل شمس.. يمكن أن تؤدي لتوسيع رقعة الأزمة والحرب بالمنطقة”.
وفي مسألة التحول إلى حرب شاملة، لا يتعلق الأمر فقط بقوة الردع التي أثبتها حزب الله في مواجهة إسرائيل أو المحاذير الدولية والإقليمية، فهناك عوامل هشاشة داخلية عسكرية وسياسية في إسرائيل تقيد إمكانية اللجوء إلى حرب واسعة ستجر مخاطر كبيرة عليها، خصوصا مع دروس التعثر في العدوان على غزة جنوبا والمواجهة مع حزب الله شمالا.
فحسب مدير معهد دراسات الأمن القومي ورئيس المخابرات العسكرية الأسبق تامير هايمان في مقال بصحيفة جيروزاليم بوست (عدد 23 أكتوبر/تشرين الأول 2024) “لا ينبغي أن تخوض إسرائيل حربا مع حزب الله إلا بعد معالجة الإخفاقات الحالية، وتثبيت استقرار قيادتها، وتحسين مكانتها الإقليمية والدولية”.
ويشير ذلك إلى عوامل ضعف، تجعل من قرار الذهاب إلى الحرب الشاملة في لبنان مغامرة عسكرية وسياسية، ليست إسرائيل مستعدة لها في الوقت الراهن -وفق المحللين- رغم التصريحات التي تذهب في اتجاه التصعيد.
بمفاعيل الحرب الدائرة حاليا وفق قواعد الاشتباك، هناك نحو 90 ألفا من المستوطنين قد تم إجلاؤهم من مستوطنات الشمال، وأي حرب شاملة مع حزب الله قد تؤدي إلى نزوح مئات الآلاف من المستوطنات والمدن الإسرائيلية، إذ قد يلجأ الحزب إلى إطلاق ما معدله 3 آلاف صاروخ يوميا، وفق تقديرات إسرائيلية.
كما أن معظم موارد الجيش الإسرائيلي استنزفت في الحرب الجارية غير المحسومة في قطاع غزة وجبهة الشمال، بينما قد تطول أي مواجهه واسعة مع حزب الله أكثر من المتوقع، كما حصل عام 2006 ويجري حاليا، مع خسائر يرجح أن تكون أكبر بكثير.
توجد أيضا أزمة تجنيد داخل الجيش الإسرائيلي، وإرهاق كبير متزايد بين عناصر الجيش وجنود الاحتياط، وهم يحتاجون إلى نحو سنة على الأقل لاستعادة فعاليتهم القتالية -وفق الخبراء العسكريين الإسرائيليين- والمخاطرة بجيش غير مستعد قد يقود إلى خسارة غير متوقعة.
وفي ظل الخيبات العسكرية والتورط السياسي والعسكري جراء العدوان على غزة، هناك تآكل في الثقة بالقيادة العسكرية الإسرائيلية وقدراتها الاستخبارية، كما يتزايد الشعور العام لدى الجيش والمجتمع بتقلص قدرة الردع الإسرائيلية، التي قد تتقوض أكثر بحرب لا تعرف نتائجها.
إلى جانب ذلك، توجد أيضا أزمة هيكلية في القيادة العسكرية والسياسية في إسرائيل، وخلافات متزايدة في القرار السياسي، فالحكومة لم تستطع وضع إستراتيجية الانتهاء من حرب غزة، ويصعب الذهاب إلى حرب أخرى واسعة وطويلة دون وجود جبهة موحدة.
وعلى الصعيد الاقتصادي هناك وضع مترد في إسرائيل، قد يتفاقم بشكل كبير في حالة اندلاع حرب واسعة، تشمل قصفا يوميا من حزب الله مستهدفا المنشآت الاقتصادية والموانئ والمطارات وغيرها، بما قد يؤدي إلى شلل اقتصادي.
يدرك الساسة الإسرائيليون أيضا أن الحرب الشاملة مع حزب الله قد تؤدي إلى حرب إقليمية واسعة ليست في مصلحة إسرائيل ولا حلفائها، فالولايات المتحدة لا تدعم حربا شاملة وواسعة، خصوصا في فترة الانتخابات الرئاسية، كما أنها مترددة في تسليم إسرائيل أسلحة يمكن أن تستعمل في الحرب مع لبنان وتوسيع الصراع في المنطقة.
ويلخص الكاتب عاموس هاريل في مقال بمجلة فورين أفيرز (عدد 23 يوليو/تموز) مجمل هذه المحاذير السياسية والعسكرية التي لا تلغيها حادثة مجدل شمس بقوله: “يتعين على إسرائيل قبل شن حرب واسعة ضد حزب الله تقييم التحديات وأهميتها والدروس الضرورية التي يتعيّن عليها تنفيذها عند صياغة الرد”.