كييف – من رحم الحرب في سنتها الثالثة، أقر البرلمان الأوكراني ميزانية الدولة لعام 2025، وسارع رئيس أوكرانيا فولوديميرزيلينسكي إلى المصادقة عليه بعد نحو شهرين ونصف الشهر من نقاشات طويلة وتعديلات كثيرة.
وجاءت هذه المصادقة على مضاضة، فعجز الميزانية يبلغ نحو 39 مليار دولار من أصل نحو 94 مليار دولار، أي ما يقارب 41% منها، دون أوفق واضح لدعم دولي يسد ذلك العجز في العام المقبل، وفق مراقبين.
الدفاع أولوية
ورغم أن حجم الميزانية يقارب ذلك الذي خصص لعام 2024، فإن حصة قطاعي الدفاع والأمن حددت بنحو 61%، أي ما يعادل 54 مليار دولار تقريبا، وفي ذلك زيادة تبلغ 8 مليارات دولار عما كانت عليه في عامي 2023 و2024.
وبحسب رئاسة الوزراء، يشمل ذلك تمويل قوات الأمن والدفاع، وشراء وإنتاج أسلحة وطائرات مسيرة ومعدات عسكرية أخرى؛ ويبدو أنه جاء على حساب قطاعات أخرى على رأسها الرعاية الاجتماعية، التي تراجعت ميزانيتها من 11.4 مليار دولار إلى 10 مليارات، بحسب متابعين.
كما أن مشروع الميزانية المقرة يقضي بإجراءات تقشف عبر:
- إعادة النظر في نظام المعاشات التقاعدية حتى منتصف العام المقبل، والذي يستهلك نحو 1.8 مليار دولار من الميزانية سنويا.
- خطة لقطع برنامج المعونات الحكومية -الذي تبلغ ميزانيته مليار دولار تقريبا- عن نحو 400 ألف نسمة على الأقل.
تطمينات حكومية
وما إن صادق الرئيس على الميزانية حتى سارع مسؤولون إلى طمأنة المواطنين، والتأكيد على أن كل شيء سيكون على ما يرام خلال العام المقبل.
وقال رئيس الوزراء دينيس شميهال إن “الحكومة على يقين واضح بأن السنة المالية المقبلة ستمر بثقة انطلاقا من تماسك فروع السلطة، والدعم القوي من شركائنا”، في إشارة إلى دعم الدول الغربية وصندوق النقد الدولي.
من جهتها، قالت رئيسة لجنة الميزانية في البرلمان الأوكراني روكسولانا بيدلاسا إن “الميزانية معقولة لأنها تركز على الدفاع وتزيد نفقاته اعتمادا على إيرادات الدولة نفسها”.
وأضافت، في حديث للجزيرة نت، أن “الميزانية تعفي المناطق الساخنة من إرسال العائدات إلى كييف وفق نظام المركزية المالية، وعلى العكس تزيد من حجم المعونات المخصصة لها”.
أما فيما يتعلق بالعجز في الميزانية، فأوضحت بيدلاسا أنه “محدد على أساس الحاجة الماسة ووعود الشركاء وتجارب السنتين الماضيتين”.
مؤشرات سلبية
لكن الحكومة الأوكرانية نفسها لم تخف مؤشرات سلبية في توقعاتها المالية للعام المقبل فيما يخص الميزانية والاقتصاد على حد سواء، ومن أبرزها:
1- على عكس السنتين الماضيتين، لم تشر ميزانية 2025 إلى نهاية زمنية متفائلة للحرب، بل جعلتها سببا يبرر “الإجراءات الرامية إلى حماية البلاد من المخاطر والانهيار”.
2- تتوقع الحكومة تراجع قيمة العملة المحلية (هريفنيا) أمام الدولار من 41.5 إلى 45.0 باستمرار الحرب، أو البقاء على مستواها الحالي “إذا توقف القتال”، وقد يستقر سعر الصرف عند مستوى أدنى.
3- رغم حديثها عن إمكانية نمو الناتج المحلي بنسبة 2.7% خلال 2025، تتوقع الحكومة زيادة نسب التضخم بواقع 9.5% بسبب ارتفاع أسعار المواد الخام، وارتفاع الأجور وتعريفات المياه والكهرباء والخدمات، مع الانخفاض التدريجي في قيمة هريفنيا.
أسوأ سنة مالية
لكن بعض الخبراء ينظرون بسلبية أكبر للميزانية، ويرون أن أوكرانيا تقف على أعتاب “أسوأ سنة مالية” في تاريخها الحديث لم تشهده منذ أن استقلت عام 1991.
وفي حديث للجزيرة نت، يقول الخبير إيغور إلشيشين، وهو عضو مجموعة “أرها” للتطوير والاستثمار، “أسوأ ما في الأمر أننا ننتظر وصول إدارة أميركية جديدة غير متحمسة لدعم أوكرانيا ماليا أو بالمجان، ونخشى أن ينعكس ذلك على مواقف كثير من العواصم الغربية التي تبني قراراتها على أساس ما تفعله واشنطن”.
ويضيف “نواجه تحديات أكبر بكثير مما سبق، فقطاع الطاقة -على سبيل المثال- هو الأكثر تضررا وإصلاحه مكلف للغاية، لكن الميزانية لم تراعِ أو لا تستطيع مراعاة هذا الواقع تماما. هذا ينعكس على الصناعات، ويهددها بالتوقف أو بزيادة الأسعار إلى مستويات قد لا يتحملها المستهلكون”.
ولفت الخبير أيضا إلى أنه “حتى زيادة متوسط الدخل المتوقعة في الميزانية الحكومية (من 500 إلى 600 دولار) تحمل في طياتها مؤشرات سلبية، فهي مبنية على أساس أن الدولة فرضت ضريبة عسكرية على المؤسسات قيمتها 1.5%، وقد تضطر لرفع ضرائب أخرى”.
وقال أيضا “كثير من الشركات مجبرة على الاستجابة للحد من نقص العمال الذكور الناجم عن موجات التعبئة في الجيش، لكن هذا سينعكس على الأسعار ونسب التضخم، وقد يتجاوز حاجز 9.5% المتوقع حكوميا”.
سنة تقشف صعبة
وأمام هذا الواقع، تبدو الخيارات محدودة أمام كييف للتعامل مع أزمتها المالية الصعبة، لكنها بدأت بالفعل اتخاذ إجراءات وتخطط لأخرى.
ويقول الخبير إلشيشين “ربما لم يشعر الأوكرانيون سابقا بأن حياتهم تغيرت لأن المساعدات الدولية، وخاصة مساعدات أو قروض صندوق النقد، كانت توجه إلى جميع القطاعات. لكن هذا لن يحدث في 2025، فإصلاح الطرق مثلا سيكون من عائدات الدولة بالدرجة الأولى، أما المساعدات فستصب في صندوق الميزانية لصالح أولوياتها”.
ويرى الخبير أن المخرج الوحيد هو تطبيق تقشف حكومي بدت ملامحه، واستمرار “الدعم المالي المستقر، وهذا لحسن الحظ سيتكشف في وقت مبكر من العام المقبل بعد وصول دونالد ترامب إلى حكم البيت الأبيض”، على حد قوله.