كانت جريمة الإخفاء القسري هي السلاح المفضل بالنسبة للجيش الفرنسي في حربه التي شنها ضد السكان خلال حرب الاستقلال الجزائرية، وقد اعترفت فرنسا رسميا بالفعل عام 2018 بوجود “نظام” يسمح بهذه الجرائم، عندما اعترفت باختطاف وتعذيب واغتيال الأستاذ الجامعي موريس أودين والمحامي علي بومنجل، ولكن ثمة من لم يثر اختفاؤهم جدلا في باريس، وما زالوا غير معروفين حتى الآن.
بهذه الجمل، لخص موقع “أوريان 21” (Orient XXI) الفرنسي –مقالا مشتركا بقلم الباحثَين ملكة رحال وفابريس ريسبوتي- اللذين انطلقا مما هو محفوظ في الأرشيف الفرنسي لما وراء البحار من ملف “المختفين المحتجزين” الذين أبلغت عنهم عائلاتهم في عام 1957، لبداية مشروع التأريخ “ألف آخرون”، ونشراه على الإنترنت في موقع مخصص لذلك، مع دعوة للإدلاء بالشهادة باللغتين العربية والفرنسية، واستجواب أقارب وأحفاد الأشخاص الذين اختطفهم الجيش الفرنسي، سواء من أطلق سراحهم لاحقا أو من اختفوا نهائيا.
ويشكل هذا المشروع 2039 بلاغا أرسلتها عائلات جزائرية عام 1957، وأحالتها الإدارة الاستعمارية إلى قيادة الجيش، مصحوبة باستمارة تبين لقب الشخص المختفي واسمه الأول وعمره وعنوانه ومهنته، وتاريخ وظروف “اعتقاله” من قبل الجيش، وأخيرا اسم أحد أفراد عائلته “ليتم إخطاره في حالة العثور عليه”، ولكن 70% من الحالات، لم يرد عليها الجيش أو ثبت أن ردوده “غير صالحة” أو “غير مرضية”، وفق ما كتب رئيس الجهاز المختص المسمى رامبو في ملاحظة داخلية.
القضاء على قومية الجزائريين
في السابع من يناير/كانون الثاني 1957، أعطت حكومة غي مولي تفويضا مطلقا للجنرال ماسو لاستعادة النظام الاستعماري المهدد في الجزائر العاصمة بشكل خطير منذ خريف عام 1956 بسبب النشاط المتزايد لحرب الثوار وهجماتهم في المناطق الحضرية، وبسبب المبادرة السياسية بإعلان إضراب ضد الاستعمار، ومن خلاله يمكن لجبهة التحرير الوطني أن تثبت أن لها حضورا جماهيريا.
وبالتالي أصبح الجيش الذي كانت مهمته حتى ذلك الحين مواجهة متمردي جيش التحرير الوطني في المناطق الريفية، يتحمل مسؤولية “تهدئة” الجزائر العاصمة وفق شروط ذلك الوقت، مما يعني كشف وتدمير التنظيم السري السياسي وشبه العسكري لجبهة التحرير الوطني، المتخفي بين 400 ألف جزائري في المدينة.
وفي المدينة التي يسكن الأوروبيون في نصفها وهي تحت الأضواء، لجأ الجيش إلى أسلوب مستوحى من “عقيدة الحرب الثورية” أو مكافحة التمرد التي تم تطويرها بعد الهزيمة الفرنسية في الهند الصينية، حيث يفضل استخدام سلاح للقمع السياسي العنيف، ولكن في الخفاء، وذلك بالاختطاف الجماعي للمشتبه في صلتهم بالتمرد الحالي.
وقد اقترح المقدم روجر ترينكييه، أحد الضباط الأيديولوجيين الملهمين للعملية، على الوزير روبرت لاكوست “تطهير” الجزائر العاصمة من السكان “المسلمين”، مقدرا عدد المشتبه بهم المحتجزين في المخيمات بـ20 ألف سجين، وهو رقم أعلى بكثير من تقديرات جبهة التحرير الوطني.
ولهذه الغاية، حصل الجيش بسهولة من السلطة السياسية على وضع استثنائي يسمى “نظام الاعتقال والحجز”، يعفيهم من أي مساءلة قانونية، ويمكّنهم من دخول المنازل وتفتيشها واعتقال من فيها واحتجازهم واستجوابهم على النحو الذي يرونه مناسبا، وذلك بدون الحاجة إلى الإبلاغ عن الأسباب وهوية ومصير “المشتبه بهم” الموقوفين، إلا لإضفاء الطابع الرسمي عليه، ولدى الجنود الوقت “لاستغلال” المعتقل قبل إعلان اعتقاله للمحافظة.
هذا -حسب المقال- هو النظام الذي يسمح بتعميم التعذيب والاغتصاب والإعدام متبوعا بإخفاء الجثث أو إتلافها، وقد جربه الجيش على نطاق واسع، بدون أن يُكشف إلا عندما تم توظيفه مرة أخرى في السبعينيات والثمانينيات في أميركا اللاتينية حيث ذهب الجنود الفرنسيون أنفسهم لتقديم خبرتهم في الاختفاء القسري، قبل أن تُعرّفه الأمم المتحدة عام 2010 على أنه جريمة ضد الإنسانية.
اختطاف جماعي للترهيب
وأثناء قمع الإضراب الذي نظمته جبهة التحرير الوطني، كانت الموجة الأولى من الاعتقالات، أو عمليات الخطف من وجهة نظر الجزائريين وكذلك من وجهة نظر القانون -حسب الكاتبين- تقوم على أساس تهمة سياسية، كعضوية أي من المنظمات المحظورة أو المعتبرة تخريبية، مثل جبهة التحرير الوطني والحركة الوطنية الجزائرية والحزب الشيوعي الجزائري والاتحاد العام للعمال الجزائريين والاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين وجمعية العلماء، علما أن ضربة جبهة التحرير الوطني كانت ناجحة، وإنْ كشفت للجيش عن بعض الأوجه الجديدة، كما لفتت النظر إلى الأنشطة الإنسانية.
وقد تبين، من خلال هجمات جديدة، أن جبهة التحرير الجزائرية لم تمت رغم إخلاء المدينة من قبل قيادتها، بعد أن تعرضت كل الأحياء المسماة بالأحياء “الإسلامية” لمداهمات وعمليات خطف مستهدفة، تتم في أغلب الأحيان ليلا وبوحشية، تحمل منها العائلات التي تدلي بشهادتها اليوم، ذكريات الأبواب المحطمة والسرقات والعنف ضد الأحباء، وتصريحات تقشعر لها الأبدان حول المصير الكارثي لمن يتم القبض عليهم.
محاربة العائلات
ولم يكتف الجيش بتحييد “المشتبه بهم”، بل كان يبالغ في ترهيب عائلاتهم وكل سكان أحيائهم، حيث كان يعلم الجميع أن المقبوض عليهم معرضون لخطر التعذيب وحتى الموت، في عشرات المراكز المنتشرة في العاصمة وحولها، في الثكنات والفيلات والمدارس والمزارع الاستعمارية، وقد قام مشروع “ألف آخرون” بتحديد هذه المراكز ورسم خريطة للإرهاب في الجزائر العاصمة وما حولها.
وتحكي عدة قصص تم جمعها كيف عبرت الزوجات والأمهات المدينة بحثا عن أسير مفقود، ومنذ مايو/أيار 1957، تلقت لجنة حماية الحقوق والحريات الفردية التي أنشأها غي مولي للتحقيق في “عمليات ابتزاز محتملة” في الجزائر العاصمة، العديد من طلبات الجزائريين، ولكنها اكتفت بنقل الإجابات التي حصلت عليها من الجيش لهم، وعندما طلب أحد أعضاء هذه اللجنة الاطلاع على ملف “المختفين” الذي سمع بوجوده، رفضت المحافظة ذلك.
ورغم التزم الجيش الصمت المطلق بشأن عمليات الخطف الجماعية، فقد عرض مطورا أعضاء “شبكة القنابل” الموقوفون أمام الصحافة؛ روايةً مفادها أن معركة الجزائر مواجهة بين الجيش الفرنسي وجبهة التحرير الوطني المرتبطة “بالإرهاب”، وتم بث هذه النسخة من الوقائع أثناء حملة مناهضة التعذيب في فرنسا.
وتم تعزيز هذه النسخة بعد الحرب من قبل ماسو وضباطه في مذكرات، ردا على اتهامهم بارتكاب انتهاكات، مبررين استخدام أساليب “استثنائية”، بالحاجة إلى وضع حد للهجمات من خلال السعي العاجل للحصول على معلومات عن المفجرين، وقد كان هذا التبرير للإرهاب بالحرب الضرورية ضد الإرهاب أكثر رسوخا في المخيلة الجماعية، مما يخفي بُعد الإرهاب السياسي للعملية.
ورغم جهود العائلات الجزائرية التي كانت ضحية لهذه الممارسة، فإن صوتها لم يكن مسموعا، ولم يتم تحليل جريمة الاختفاء القسري ووصفها قانونيا إلا في وقت متأخر جدا، ويرجع الفضل في ذلك في المقام الأول إلى حشد أسر الضحايا، وخاصة من الأرجنتين، وإلى اعتراف فرنسا أخيرا عام 2018، بمسؤوليتها عن اختطاف وتعذيب واغتيال موريس أودين للمحامي علي بومنجل.