أتذكر كأنه أمس، ذاك اليوم عندما ذهبت باكيا إلى جدى أطلب منه اصطحابي وأمي إلى المستشفى التي يجري والدي فيها عملية جراحية، حيث رفض أبي وبعض من رجال العائلة اصطحابنا، جرت العادة فى مجتمعنا البدوي ألا يحمل الرجل أبا كان أو أخ المرأة فوق طاقتها أو يصطحبها إلى مكان قد يتعبها، حتى لو كان في أمس الحاجة لها وما أعظم حاجة الرجل إلى زوجته خاصة لو كان مريضا.
كنت طفلا أبلغ من العمر بضع سنوات، لا أدرك خطورة ما يمر به أبي، كنت أريد فقط الذهاب من القرية إلى المدينة، بالفعل اصطحبني جدي ووصلت فى اللحظة التى كان مقررا لأبي فيها دخول غرفة العمليات، وما أن رآني فطلب تأجيل الجراحة لساعة! قال أبي: “أنت ليه شعرك طويل، لازم تحلق”، ذاك الطفل أنا كنت شقيا، طلبت أيضا لباس جديدا “ترنج” و “مسدس بكرة” لألعب به.
حقق أبى حينها أمنياتي، طلب بإصرار حلاقا بالمستشفى وأرسل أحد الأقارب لشراء ما أريده، غير مهتم بآلامه، فقط أدخل السعادة إلى قلبى “بالترنج والمسدس” ودخل هو غرفة العمليات.
مرت السنوات ربما 20 عاما وصرت شابا مسؤولا، وتعرض أبي لوعكة صحية، ودخل على إثرها المستشفى وتطلب الأمر عملية جراحية، ولظروف العمل، ذهبت إلى أبي قبل دخول غرفة العمليات بساعة واحدة، وما أن رآني عاتبني وما أجمل وأحن عتابه قائلا: “مالك مبهدل كدة ليه أوعى تكون قلقان عليا، يلا روح كل وهاتلك طقم جديد وخليك شيك كدة زى !!!”.
ما أن انتهى أبي من حديثه، مرت الـ 20 عاما أمامي، تذكرت عملية الأولى وحديثه معي وعملية الثانية وعتابه، أيقنت فى هذه اللحظة أن لي أبا مثل آبائكم جمعيا ليس “ATM” بل هو الحياة وكل الحياة، شاخ الزمن ولم يشخ عطاء قلب أبى.
ليس للأب يوما نكرمه فيه، لآبائنا صبر وجلد وحكمة، مع كل شهيقا لهم وزفير، يستحقون جزائهم من الله، لأنا والله مهما فعلنا مقصرين، يعيش آبائنا بقانون “فلتطمأن قلوب أبنائنا”.