في لحظة تاريخية غير مسبوقة، شهدت الكنيسة الكاثوليكية انتخاب أول حبر أعظم من الولايات المتحدة، في خطوة تعكس تحولات جغرافية وروحية كبرى داخل المؤسسة البابوية.
البابا الجديد، ليو الرابع عشر، واسمه المدني روبرت فرنسيس بريفوست، ليس مجرد شخصية جديدة على رأس الفاتيكان، بل هو عنوان لتوازن دقيق بين التقليد والتجديد، بين الانفتاح الاجتماعي والهوية العقائدية، وبين الجذور اللاتينية والانتماء الأمريكي.
عظة أولى تتبع خطى فرنسيس
في عظته الأولى، سار البابا ليو الرابع عشر على خطى سلفه البابا فرنسيس، وندد بتراجع الإيمان المسيحي في المجتمعات الحديثة. وقال بأسف: “الأماكن التي يُعتبر فيها الإيمان المسيحيّ أمرًا عبثيًّا ليست قليلة، فهو للضّعفاء وغير الأذكياء، ويفضّلون عليه مجالات وضمانات أخرى، مثل التّكنولوجيا والمال والنّجاح والسُّلطة والمتعة”.
وأضاف أن المسيح يُختصر أحيانًا “لمجرد نوع من قائد يتمتع بالكاريزما أو رجل خارق”، وهو توصيف يقلل من جوهر الرسالة المسيحية.
العظة ألقاها البابا الجديد، البالغ من العمر 69 عامًا، باللغة الإيطالية أمام الكرادلة في كنيسة سيستينا، بعد أن افتتحها ببضع كلمات بالإنجليزية، مما أبرز توازنه بين هويته الأمريكية والدور العالمي الذي بات يشغله.
ولفت الأنظار بارتدائه حذاءً أسود بدلًا من الأحمر التقليدي، كما كان يفعل البابا فرنسيس، في إشارة رمزية إلى التواضع والاستمرار في نهج البابا الراحل.
مواعيد الحبرية الأولى
أعلن الفاتيكان أن قداس التنصيب الرسمي للبابا ليو الرابع عشر سيُقام في ساحة القديس بطرس يوم الأحد 18 مايو، وسيُجري البابا أول لقاء له مع الجمهور يوم 21 مايو، ضمن سلسلة من الأنشطة تشمل صلاة “ريجينا كويلي” يوم الأحد ولقاء الصحفيين يوم الإثنين.
أصداء دولية واسعة
انتخاب البابا الجديد أثار ردود فعل دولية واسعة، حيث هنأه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، واصفًا الأمر بأنه “شرف عظيم” للولايات المتحدة. أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فقد أعرب عن أمله في أن تحمل الحبرية الجديدة “السلام والأمل”.
وعبّر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن تطلعه إلى استمرار الدعم “المعنوي والروحي” من الفاتيكان، بينما شدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أهمية مواصلة “التعاون البنّاء”.
من جهتها، أعربت الصين عن رغبتها في “الحوار البناء” مع الفاتيكان خلال الحبرية الجديدة، فيما أرسل العاهل البريطاني تشارلز الثالث أطيب تمنياته للبابا الجديد.
“إرث فرنسيس” وقلق من التحوّل المحافظ
في البيرو، حيث عاش ليو الرابع عشر سنوات طويلة مبشّرًا، عبّر كثيرون عن فخرهم بانتخابه. وقال أسقف مدينة إيل كاياو لويس ألبرتو باريرا: “أبدى قربًا من الناس وبساطة في التعامل”.
وفي الولايات المتحدة، أبدت أزول مونتيمايور (29 عامًا) أملها في ألا يبتعد البابا الجديد عن إرث فرنسيس، قائلة: “آمل فقط ألا ينجرف وراء أيديولوجية محافظة أكثر كما يحصل الآن في الولايات المتحدة مع الرئيس ترامب”.
قبل انتخابه، كان روبرت بريفوست نشطًا على منصات التواصل الاجتماعي، وعُرف بمواقفه التقدمية، ومنها انتقاده لجاي دي فانس عبر منصة “إكس”، حين كتب: “المسيح لا يطلب منا وضع تراتبية لحبنا للآخرين”.
تحديات داخلية وخارجية تنتظر الحبرية
التحديات أمام البابا الجديد كثيرة، أبرزها تراجع شعبية الكنيسة في أوروبا، والأزمات المالية للفاتيكان، ومواجهة ملف التحرش الجنسي داخل الكنيسة، إضافة إلى تراجع الدعوات الكنسية، وضرورة رأب الصدع بين التيارات الفكرية والروحية المتباينة داخل الكنيسة.
كذلك، سيحتاج ليو الرابع عشر إلى تهدئة التوترات داخل “الكوريا الرومانية”، حيث توجد مقاومة داخلية لإصلاحات سلفه، فضلًا عن ضرورة التعامل مع أزمات عالمية سياسية وروحية معقدة.
برنامج اجتماعي واسم رمزي
وصفت صحيفة إل ميساجيرو الإيطالية البابا الجديد بأنه “يحمل في اسمه برنامجًا اجتماعيًّا”، في حين قالت *لا ستامبا* إنه “بابا العالمين”، في إشارة إلى جذوره الأمريكية والبيروفية.
وقد أصبح ليو الرابع عشر البابا رقم 267 في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، والرابع على التوالي غير الإيطالي، بعد يوحنا بولس الثاني (بولندي)، بنديكتوس السادس عشر (ألماني)، وفرنسيس (أرجنتيني).
مسار انتخابي وحضور ميداني
انتُخب البابا الجديد في اليوم الثاني من انعقاد مجمع الكرادلة، وحصل على أغلبية الثلثين (89 صوتًا على الأقل)، وفقًا للتقاليد المتبعة، رغم التكتم الكامل على تفاصيل التصويت.
يُعرف البابا ليو الرابع عشر بأنه مستمع جيّد ومعتدل، وله خبرة واسعة في العمل الرعوي، سواء في أمريكا اللاتينية أو داخل الفاتيكان.
ويرى مراقبون أن انتخابه يمثل توازنًا دقيقًا بين رغبة في الاستمرار في مسار البابا فرنسيس، من جهة، والعودة إلى بعض التقاليد البابوية التي خفّف منها سلفه، من جهة أخرى.
رؤية جيوسياسية جديدة؟
اعتبر فرنسوا مابيي، مدير مرصد الأديان الجيوسياسي، أن اختيار البابا ليو الرابع عشر “يجمع بين تعارض مع الإدارة الأمريكية من حيث المبادئ، ومراعاة للموقع الجيوسياسي للفاتيكان”.
وقال مابيي إن اسم ليو الرابع عشر وعمله التبشيري في أمريكا اللاتينية “يعكسان رغبة في مدّ جسور جديدة بين الشمال والجنوب، وبين الغرب والعالم النامي”.
وفي عالم منقسم وقلق، يأتي انتخاب البابا ليو الرابع عشر ليحمل تطلعات كاثوليك العالم، بين آمال الاستمرار وإرادة الإصلاح. ومن قلب الفاتيكان، يبدأ بابا أمريكا اللاتينية والأمريكية، حبرية محمّلة بالرموز، والتحديات، وربما التحولات.