كانت ريادة منيرة المهدية للمسرح الغنائي ريادة ذات ملامح خاصة فهي ابنة الريف المصرى القادمة من محافظة الشرقية، وبالتحديد من قرية المهدية؛ هي أول امرأة مصرية تعرفها مسارح القاهرة وعندما وقفت لأول مرة على خشبة مسرح «الشانزليزيه» بالفجالة مع فرقة عزيز عيد صيف عام ١٩١٥؛ لتغنى بين فصول مسرحية صلاح الدين الأيوبي.
فوفقًا لما جاء في أحد مقالات مجلة الهلال من عام ٢٠٠٢ فقد كان المسرح يمتلئ عن آخره بالحضور، وعلى الرغم من شهرة عزيز عيد وفرقته؛ فواقع الأمر أن كل هذه الجماهير جاءوا ليسمعوا هذه المطربة المصرية ذات الصوت القوي الجميل.
مسرح منيرة المهدية
أدركت منيرة المهدية بذكائها الفطرى مدى تأثيرها في المستمعين فلم ترض بهذا الوجود الهامشي الذي يقف بها عند الغناء بين فصول المسرحية فقط، دون المشاركة في الأداء التمثيلي على خشبة المسرح، ففكرت في تكوين فرقة خاصة بها، ومع حلول خريف عام ١٩١٥ كانت منيرة المهدية قد استقرت بها الحال على رأس فرقة من تأسيسها ، تقدم مسرحيات أستاذها وزميل ريادتها المسرحية الشيخ سلامة حجازي.
أدوار الرجال
قدمت فرقة منيرة المهدية أعمالا ضخمة لعبت فيها البطولة ولكن في أدوار الرجال، فقد كان التمثيل المسرحي حتى ذلك الحين ذكوريًا، والأدوار النسائية إما أن تسند لرجال يجيدون تقمص هذه الأدوار أو لنساء شاميات أتين وافدات على خشبة المسرح المصرى، فما كان أمام الست منيرة إلا أن ترتدي ملابس الرجال، وتؤدى دور البطولة الرجالية في عدة أعمال منها دور «روميو» في مسرحية شهداء الغرام، ودور «راول» في مسرحية صلاح الدين الأيوبي،وغير ذلك من المسرحيات.
أزمة المسرح
استطاعت منيرة المهدية أن تستفيد من أدائها لهذه الأدوار الرجالية التي أظهرت ملكاتها التمثيلية إلى جانب إمكاناتها الغنائية، في الوصول إلى الناس، فانصرفوا عن المسارح وباتت فرق كل من جورج أبيض وسلامة حجازى وعبد الله عكاشة تعانى آثار الأزمة وأصبحت في وضع يهدد بالإغلاق، وما كان من منيرة المهدية الا أن تعاونت مع الكاتب المسرحى “فرح أنطون” في محاولة للتغلب على الركود، فقدم لها مجموعة من الأوبرات العالمية لعلها تكون طوق نجاة، فمثلت أوبرا «تابيس» وأوبرا «كارمن» التي كانت بداية الظهور المهدية كامرأة ممثلة لا تستتر وراء أردية الرجال، ولتصبح بحق أول ممثلة مصرية. تقف على خشبة المسرح.
تعريب الأوبرا
ترجم فرح أنطون عدة أوبرات عالمية وقدمها لمنيرة المهدية، بعد أن قام بإجراء بعض التعديلات على أحداثها ومشاهدها حتى تتناسب مع إمكانات منيرة ومستمعيها، غير أن أهم ما في الأمر هو أن هذه الأوبرات قام بتلحينها كامل الخلعى الذي عرب موسيقاها وأخضعها للمقامات الشرقية، ودونها لأول مرة في نوتة موسيقية.
تفاعلها مع الأحداث
وبعيدا عن الاقتباس قدمت منيرة المهدية مجموعة من الأعمال المحلية تأليف الشيخ يونس القاضي، ونظرًا لمواكبة هذه الأعمال لفعاليات وتوابع الثورة، ودعوة طلعت حرب لبناء اقتصاد مصری، فقد امتلات بالإسقاطات والتلميحات السياسية التي تعرض بالاستعمار وخطورة سلعة ومنتجاته الوافدة على سوق المنتج المحلي، فكانت مسرحيات: «كلام فى سرك»، و «كلها يومين» من تلحين سيد درويش، و«التالتة تابتة» من ألحان كامل الخلعي والتي غنت فيها منيرة :
“يابويا اديني عقلك الأجنبي بدو يكلك لو شفته في البورصة وقابلك سلم عليه وعد صوابعك” انفعلت منيرة بثورة 1919 ، فهى مصرية تعيش نبض المصريين وانفعالاتهم وحبهم لزعيم ثورتهم، ومن هنا كان في بعض أغانيها رجع صدى الهتافات الشعب، وانطلقت حنجرتها في غناء حماسی، بشبه في ايقاعاته المارش العسكري: “شال الحمام حط الحمام من مصر لما للسودان زغلول وقلبي مال إليه أنده له لما أحتاج إليه يفهم لغاه اللي يناغيه ويقول حميحم ياحمام”
وتلتهب أكف السامعين تصفيقًا لمنيرة التي تعيد وتكرر اسم زعيم الثورة في تنويعات شجية تستعرض فيها إمكاناتها الصوتية. لقد تجاويت المهدية مع مشاعر الناس، واستطاعت أن تمرر هتافًا للثورة، وهذه المشاعر الجياشة في سياق غنائي بعيدًا عن رقابة السلطات البريطانية. وفي أوائل العشرينات عندما تم اكتشاف مقبرة «توت عنخ أمون» عبرت منيرة عن فرحة الشعب وافتخاره بآثار أجداده، وكأنه أراد أن يقول للمستعمر الذي أجهض ثورته ها نحن أولاء أصحاب مجد وحضارة منذ آلاف السنين، وها هي أثارنا تدل علينا.
كانت منيرة لسان حال الشعب في التعبير عن ما يجيش في نفسه عندما جاء إليها أحد مؤلفى الأغاني عارضا عليها طقطوقة «توت عنخ أمون. تتحدث عن هذا الملك الشاب باعتباره جد المصريين فما كان منها إلا أن أخذت الكلمات، ولم تمض أيام حتى كانت طقطوقة توت عنخ امون مسجلة على أسطوانات شركة بيضافون وتقول كلماتها:
“ما يحبش زيي إن لف الكون
واحنا أبونا توت عنخ آمون
اسأل التاريخ مين ينبيك
عن مجدنا وبعدين أماشيك
انت تورى الناس حتاويك
واحنا أبونا توت عنخ آمون”
لقد غنت منيرة المهدية في كل مناسبة ولحن لها سلاطين الموسيقى في عصرها.. سيد درویش داوود حسنی كامل الخلعى سلامة حجازي ، محمد عبد الوهاب.. وتنوعت أعمالها المسرحية بين المحلى والمقتبس المترجم، وغنت مع التخت وعلى خشبة المسرح. وتنوعت كلمات أغانيها وأصابت كل غرض.