أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد إليها عبر موقعها الرسمي مضمونة: “الأمية في حق بني الإنسان صفة ذم ونقص. فكيف نفهم الأمية في حق المقام الشريف لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟”.
لترد دار الإفتاء موضحة: أن المقصود بكلمة “الأُمِّيّ” في كلام العرب: هو الذي لا يَكتب ولا يَقرأ المكتوبَ، وأكثر العرب كانوا أُمِّيِّين، وقيل للذي لا يَكتب ولا يَقرأ: أُمِّيٌّ؛ لأنه على جِبِلَّتِهِ التي ولدته أُمُّهُ عليها، والكتابة مُكْتَسَبَهٌ مُتَعَلَّمةٌ، وكذلك القراءة مِن الكتاب. ينظر: “لسان العرب” للإمام جمال الدين ابن منظور (12/ 34، ط. دار صادر).
بيان أن الأمية في حق النبي عليه السلام صفة مدح وكمال
الأميةُ وصفٌ خَصَّ الله به سيدَنا محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم دون سائر الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله جميعًا، فثبت ذلك في حقه الشريف دون غيره؛ قال الله تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158]؛ قال سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “هُوَ مِنْكُمْ، كَانَ أُمِّيًّا لَا يَكْتُبُ وَلَا يَقْرَأُ وَلَا يُحَاسِبُ”، كما قال الإمام أبو إسحاق الثَّعْلَبِي في “الكشف والبيان عن تفسير القرآن” (4/ 291، ط. دار إحياء التراث العربي).
وهذا الوصف في حقِّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدحٌ وكمالٌ، وفي حقِّ غيره مذمةٌ ونقصانٌ، إذْ هو صلى الله عليه وآله وسلم مُنَزَّهٌ عن كلِّ منقصة، ومُتَرَفِّعٌ عن علوم البَشَر العادية؛ لأنَّ عِلمه صلى الله عليه وآله وسلم عِلمٌ لَدُنِّيٌّ رَبَّانِيٌّ، لا يضاهيه فيه أحدٌ، ولا يَرقى لمثله مَلَكٌ ولا بَشَر، وأَنَّى لغيره أن يبلُغ مِن عِلمه إلى ما بَلَغ، أو يُحَصِّل مِن العلوم ما حَصَّل، وكيف يُقارن به وقد أُوتِيَ صلى الله عليه وآله وسلم مِن العلوم ما لَم يؤتَ أحدٌ، فإن كانت أميةُ الإنسان تُمْحَى بما يَكْتَسِبُهُ مِن علوم الآلة بواسطة البشر، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم قد أُوتِيَ عِلمه مِن رب البشر؛ قال العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في “التحرير والتنوير” (9/ 133، ط. الدار التونسية): [والأمية وصفٌ خَصَّ اللهُ به مِن رُسُله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم؛ إتمامًا للإعجاز العلمي العقلي الذي أيده الله به، فجعل الأمية وصفًا ذاتيًّا له؛ ليتم بها وصفُه الذاتيُّ وهو الرسالة، ليَظهر أنَّ كمالَهُ النَّفْسَانِيَّ كمالٌ لَدُنِّيٌّ إلهيٌّ، لا واسطة فيه للأسباب المتعارفة للكمالات، وبذلك كانت الأميةُ وَصْفَ كمالٍ فيه، مع أنها في غيره وَصْفُ نُقصان؛ لأنه لَمَّا حصل له مِن المعرفة وسداد العقل ما لا يَحتمل الخطأَ في كل نواحي معرفة الكمالات الحق، وكان على يقينٍ مِن عِلمِه، وبَيِّنَةٍ مِن أَمْرِهِ، ما هو أعظم مما حصل للمتعلِّمين، صارت أُمِّيَّتُهُ آيةً على كون ما حصل له إنما هو مِن فُيُوضات إلهية] اهـ.
بيان أن الأمية في حق النبي من معجزاته عليه الصلاة والسلام
هذا، وقد نص العلماء على أنَّ مِن جملة معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان أُمِّيًّا؛ لأنَّه لو كان ممن يَكتب ويَقرأ لصار مُتَّهَمًا بأنه ربما طالَعَ كُتُبَ الأَوَّلين فَحَصَّلَ هذه العلوم بتلك المطالعة، لكنه صلى الله عليه وآله وسلم لَمَّا جاء بهذا القرآن العظيم المشتمل على علوم الأَوَّلين والآخِرين مِن غير قراءةٍ ولا مطالعةٍ كان ذلك مِن جُمْلَةِ معجزاته الباهرة.
وكذا لموافقته ما تقدَّمَت بشارةُ الأنبياء به، ولمُشاكلة حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحال قومه، فيكون أقرب إلى موافقتهم.
ثم إنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى منظومًا مرةً بعد أخرى مِن غير تبديلِ ألفاظه ولا تغييرِ كلماته، والخطيبُ مِن العرب إذا ارتَجَل خُطبةً ثم أعادها فإنه لا بد وأن يَزيد فيها وأن يَنقص عنها بالقليل والكثير، فكان ذلك معجزًا في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
بالإضافة إلى أنَّ تَعَلُّم الخَطِّ شيءٌ سَهْلٌ، فإنَّ أقلَّ الناس ذكاءً وفِطنَةً يُمكنه أنْ يتعلم الخَطَّ بأدنى سعي، فعَدَمُ تَعَلُّمِهِ يدل على نقصانٍ عظيمٍ في الفهم، ثم إن الله سبحانه وتعالى قد آتى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم علومَ الأَوَّلين والآخِرين، وأعطاه مِن العلوم والحقائق ما لَم يَصِل إليه أحدٌ مِن البشر، ومع تلك القوة العظيمة في عَقْل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفَهْمه جَعَلَهُ بحيث لَم يتعلم الخَطَّ الذي يَسْهُل تعلُّمه على أقل الخَلْق عَقْلًا وفَهْمًا، فكان الجمعُ بين هاتين الحالتين المُتَضَادَّتَيْنِ جاريًا مجرى الجمع بين الضِّدَّيْن، وذلك مِن الأمور الخارقة للعادة، وجارٍ مجرى المعجزات. ينظر: “النكت والعيون” للإمام أبي الحسن المَاوَرْدِي (6/ 6، ط. دار الكتب العلمية)، و”التفسير البسيط” للإمام الوَاحِدِي (21/ 446، ط. عمادة البحث العلمي)، و”مفاتيح الغيب” للإمام فخر الدين الرَّازِي (30/ 538).
وهذا المعنى هو ما أخبَرَ به الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، فقال تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت: 48].
قال الإمام الطَّبَرِي في “جامع البيان” (20/ 50): [يقول تعالى ذِكرُه: ﴿وَمَا كُنْتَ﴾ يا محمد ﴿تَتْلُو﴾ يعني: تقرأ ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾ يعني: من قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك ﴿مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾ يقول: ولم تكن تكتب بيمينك، ولكنك كنت أمِّيًّا ﴿إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ يقول: ولو كنت من قبل أن يُوحَى إليك تقرأ الكتاب، أو تخطه بيمينك، ﴿إِذًا لَارْتَابَ﴾ يقول: إذًا لَشَكَّ بسبب ذلك في أمرك، وما جئتهم به من عند ربك من هذا الكتاب الذي تتلوه عليهم ﴿الْمُبْطِلُونَ﴾ القائلون إنه سَجْعٌ وكَهَانَةٌ، وإنه أساطير الأَوَّلين] اهـ.
وقال الإمام الوَاحِدِي في “الوجيز” (ص: 416، ط. دار القلم): [﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ﴾ وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ، وكانت هذه الخلَّة مؤكِّدة لمعجزته في القرآن] اهـ. وممَّا ذُكِر يُعلَم الجواب عما جاء بالسؤال.