لعل الشيخ ذو الجناحين المشهور بصاحب الأصابع الست يعد أحد بوابات العلم والعلماء التي قد تخفى عن الكثيرين، إلا أن حقيقة الشيخ ذو الجناحين تثير الفضول خاصة عندما يكون من ذرية عثمان بن عفان – رضي الله تعالى عنه- ، فهذا ما يطرح الأسئلة ويوجب البحث والمعرفة بكل شيء عن هذا الشيخ ذو الجناحين.
الشيخ ذو الجناحين
قال الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إنه في القرن الثالث عشر الهجري وجدنا الشيخ خالد النقشبندي وهو يربي الناس بالشريعة والحقيقة والطريقة في السليمانية بأرض العراق.
وأوضح «جمعة » عن الشيخ ذو الجناحين ، أنه بعد أن بلغ الغاية في علم الشريعة، وفي تربية الناس، وجدنا الحاسدين والحاقدين يلومونه، ويتهمونه بأنه ساحر من أجل الشعبية الجارفة التي حققها، ومن أجل معقولية كلامه ومنطقه مما اضطره لأن يغادر بلاده ووطنه ويذهب إلى الشام، ويعيش بها فيربي أجيالا حتى يتوفى بدمشق، ومازال قبره ظاهرا يزار إلى الآن.
سر لقب الشيخ ذو الجناحين
وأضاف : ولا نعرف من هؤلاء الذين عادوا الشيخ خالد ذي الجناحين، جناح الشريعة، وجناح التربية، وكأنه سمي بذلك لأنه قد حلق بهما كالطير في سماء التقوى، وفي سماء الصفاء والنقاء، لقد ذهب ذلك العصر.
وأشار إلى أنه بقي الشيخ خالد النقشبندي بعلمه، وفضله، وتأثيره، وبإخلاصه، وعلو همته، وتقواه في الناس، فله كتاب في العقائد، وله رسائل جمعت في كتاب سمي [بغية الواجب في مكتوبات سيدي خالد] ولقد دافع عنه فقيه الحنفية، وعمدة المتأخرين ابن عابدين في رسالة أسماها [سل الحسام الهندي في نصرة سيدي خالد النقشبندي] رد فيه على معارضيه، وفند أقاويلهم الباطلة، لكن القضية تتمثل في أن ذكره قد بقي، وأن مخالفه قد فني.
خالد النقشبندي
ورد أنه العالم المجدد، شيخ مشايخ الطريقة النقشبندية، أبو البهاء ضياء الدين خالد بن أحمد بن حسين الشهرزوري السلفي الشافعي النقشبندي المجددي القادري السهروردي الكبروي الجشتي، سليل العارف بير ميكائيل المشهور بين الأكراد بششانكشت، يعني صاحب الأصابع الست، والمشهور أنه من ذرية عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويتصل نسب والدته بالعارف حضر المنسوب إلى السيدة فاطمة رضي الله عنها.
ولد الشيخ خالد بن أحمد بن حسين النقشبندي، سنة 1190هـ في قصبة «قره طاغ» من بلاد شهرزور، على خمسة أميال من بلدة السليمانية، ونشأ فيها برعاية والده، وقرأ في مدارسها القرآن الكريم، والمحور للإمام الرافعي، ومتن الزنجاني في الصرف، وشيئاً من النحو، وبرع في النظم والنثر وهو دون البلوغ، وجعل يدرب نفسه على الزهد والعفة منذ وقت مبكر.
و هاجر إلى بغداد في صباه، وأخذ العلم عن علمائها، ومنهم: السيد صبغة الله الحيدي، والسيد عبد الرحيم البرزنجي، والشيخ محمد بن آدم الكردي، وأخذ عنه جماعة من العلماء.
وله عدة تآلیف قيمة، منها: «شرح مقامات الحريري»، و«شرح العقائد العضدية»، و«رسالة في إثبات مسألة الإرادة الجزئية»، وله ديوان شعر بالفارسية، وكان شافعي المذهب، نقشبندي الطريقة، عالما زاهدا أديبا، بارعا في العلوم العقلية والنقلية، وأخذ الإجازة الحديثية المتسلسلة من الشيخ الكزبري.
ولما علا صيته، واشتهر علمه، رحل إلى السليمانية لبث العلوم، ثم عاد إلى بغداد وأقام بها مدة طويلة، ثم سافر منها إلى الشام في أيام داود باشا والي العراق، وتوفي إلى رحمة الله في دمشق سنة 1242هـ غير متجاوز الاثنين والخمسين عاما هجريا.
ويعد الشيخ خالد النَّقشبندي من أهم الشخصيات العلمية التي أثرت خلال النِّصف الأول من القرن الثالث عشر الهجري، ليس في حياة دمشق وأهلها فحسبْ، بل وفي المشرق العربي كافة، حتى عدَّه بعض المؤرخين من مجدِّدي القرن، وسُمِّي من أجل ذلك بالمجدِّدي، كما لقَّبه آخرون بذي الجناحَيْن، تشبيهاً له بالطائر الذي يسبح في سماء الإسلام بجناح العلم وجناح التَّصوِّف، أو بتعبير أهل التَّصوُّف: جناح الشريعة، وجناح الحقيقة.
لقد كان الشيخ خالد علاَّمة عصره في علوم الشريعة علماً مبرزاً بين العلماء الأعلام، اشتهر منذ أن نشأ في نواحي السلمانية، وما زال نجمه يعلو في أُفق المشرق حتَّى طبَّق صيته الآفاق، فأقبل عليه المريدون من الأقاصي والأداني ولزموه.
رحلة النقشبندي
وسافر إلى جهات كوى وحرير، فقرأ شرح الجلال على تهذيب المنطق بحواشيه على المنلا عبد الرحيم الزيادي المعروف بمنلا زاده، وقرأ على غيره ثم رجع إلى السليمانية فقرأ فيها وفي نواحيها الشمسية والمطول والحكمة والكلام، ثم قدم بغداد فقرأ المنتهى في الأصول.
رغب بابان الأمير إبراهيم باشا أن يعينه مدرساً في بعض المدارس ويخصص له الوظائف العلمية العالية فاعتذر، ثم رحل إلى سنندج ونواحيها فقرأ فيها الحساب والهندسة والاصطرلاب والفلك على الشيخ محمد قسيم السنندجي وكمل عليه المادة كالعادة.
ثم ولي تدريس مدرسة أجلّ أشياخه الشيخ عبد الكريم البرزنجي بعد وفاته بطاعون السليمانية سنة 1213هـ، وبقي فيها حتى سنة 1220هـ حين جذبه الشوق إلى البيت الحرام وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، فخرج قاصداً الحج عن طريق الموصل وياد بكر والرها وحلب ودمشق.
و اجتمع في دمشق بعلمائها كالشيخ محمد الكزبري سمع منه وأخذ عنه الأسانيد العالية والإجازات المسلسلة في ذهابه، وإيابه، واجتمع أيضاً بتلميذه الشيخ مصطفى الكردي فأجازه كشيخه بأشياء منها الطريقة القادرية.
ولما وصل المدينة المنورة مدح النبي صلى الله عيه وسلم بقصائد فارسية، وفي السنة نفسها رحل إلى بغداد فنزل في زاوية الشيخ عبد القادر الجيلي أيام وزارة سعيد باشا ابن سليمان باشا، وبقي يرشد الناس نحو خمسة أشهر ثم عاد إلى وطنه بشعار الصوفية.
وفي ذلك الوقت هاج عليه بعض معاصريه ومواطنيه ووشوا به عند حاكم كردستان فترك السليمانية سنة 1228هـ ورجع إلى بغداد، ونزل في المدرسة الأحشائية الأصفهائية فعمرها بالعلوم والأذكار.
وحدث حينئذ أن ألف فيه الشيخ معروف البرزنجي رسالة بعث بها إلى والي بغداد سعيد باشا يحرضه فيها على إهانته وإخراجه من بغداد وضلله فيها وكفره، ومما قال في رسالته أن الأكراد كلهم اتبعوه، وملأ ببدعته الآفاق، وأنه يدعي التصرف في الكائنات، ويدعي علم الغيب، وأنه ذهب إلى الهند فتعلم من السحرة الجوكية، ومن نصارى الإنكليز ديناً ظهر عندهم، ثم حرض الباشا على تمزيق طريقته وشعوذته إلى غير ذلك.
فانتدب الوالي للرد عليه مفتي الحلة الشيخ محمد أمين فألف رسالة مهرها علماء بغداد، ورجع بعد ذلك إلى السليمانية فبنى له أمير الأمراء محمود باشا بن عبد الرحمن باشا زاوية ومسجداً، وأوقف عليهما وقفاً ورتب للطلاب المواظبين فيها رواتب كافية، فأقبل المريدون عليه وطلبة العلم من مختلف البلاد، وانتفع به خلق كثيرون من الأكراد وأهل أربل وكركوك والموصل والعمادية والجزيرة وعينتاب وحلب والشام والروم والمدينة المنورة ومكة المكرمة والبصرة وبغداد.
مدحه وقتذاك أدباء عصره بالقصائد العربية والفارسية، وألف فيه الشيخ عثمان ابن سند النجدي البغدادي كتابه “أصفى الموارد من سلسال أحوال مولانا خالد” ووضع فيه الشيخ حسين الدوسري الأحسائي خليفته في بلاد الأحساء كتب “الأساور العسجدية في المآثر الخالدية”.
رحل إلى بغداد بعد ذلك فنزل المدرسة الأحسائية أيضاً، وجددت له، فجعل ينشر العلم، وانقاد له العلماء وشاع فضله، وصار يرسل الخلفاء إلى البلدان المختلفة، فأرسل إلى الشام الشيخ عبد الرحمن العقري الكردي، ثم أرسل الشيخ أحمد الخطيب الأربيلي الذي تلقى عنه كثيرون الطريقة النقشبندية، ومنهم مفتي دمشق الشيخ حسين المرادي الذي كتب إلى الشيخ خالد يشير عليه بقدوم دمشق فانشرح صدره للرحلة إليها.
فلما أراد الرحيل إلى الشام سنة 1238هـ أقام مقامه على سجادة الإرشاد في السليمانية شقيقه الشيخ محمود الصاحب وكان خليفته، وفي الطويلة الشيخ عثمان سراج الدين، وفي بغداد الشيخ محمد الجديد، والشيخ موسى الجبوري، والشيخ عبد الغفور، وغيرهم. وكذلك في بقية بلاد العراق والأكراد، ثم خرج من بغداد وأبقى أهله فيها، وتبعه الناس أفواجاً فودعهم، وصحبه كثير من العلماء والخلفاء والمريدين ومنهم الشيخ عبيد الله الحيدري مفتي بغداد السابق، والشيخ إسماعيل الأناراني والشيخ عبد القادر الديملاني، والشيخ عيسى الكردي، والشيخ إسماعيل البرزنجي وملا بكر، والشيخ محمد الفراقي، والشيخ عبد الفتاح العقري، والشيخ عبد الله الهراتي، والشيخ محمد الصالح، والشيخ محمد الناصح، والشيخ عمر، والسيد أحمد الكردي المكي، والشيخ إسماعيل الزلزلي زغيرهم.
وصل دمشق بموكبه الحافل في السنة المذكورة، واستقبله كثير من أهلها بالإعزاز والترحيب، كان نزوله أولاً في الجامع المعلق وهرع لزيارته العلماء والأمراء والحكام، ثم نزل في خلوة بني الغزي بالجامع الأموي، وتزوج بعد ذلك منهم شقيقة الشيخ إسماعيل الغزي السيدة عائشة، ثم أحضر أهله من بغداد، ثم اشترى داراً فخمة بحي القنوات جعل قسماً منها مسجداً.
أقام ينشر العلوم الشرعية، وأشاد دعائم الطريقة النقشبندية، وجعل يرشد السالكين ويربي المريدين، وصارت له منزلة عظيمة، ورحل إليه الأعلام من مختلف البلاد، وأرسل الرسل للأقطار حتى ذاع صيته وعم النواحي نفعه. أحيا كثيراً من مساجد دمشق بالأذكار يصلي فيه الجمعة. وفوض أمر تربية المريدين فيه لخليفته الشيخ إسماعيل الأناراني، والشيخ أحمد الخطيب، كما هو الحال أيضاً في جامعي السويقة “النقشبندي” بإقامة الذكر وختم الخواجكان، وأذن كذلك للشيخ عبد القادر الديملاني في جامع الصاحبة في الصالحية وقرأ هو بنفسه صباحاً في مدرسة داره بالقنوات شرح المنهاج للرملي، جامعاً بين أقوال الخطيب والرملي وابن حجر، وكان معيد درسه الشيخ عمر الغزي، ثم الشيخ محمد الخاني.
كان له في كل بلدة خلفاء ومريدون، وخصوصاً في الآستانة التي اشتهر فيها اسمه وأقيمت له فيها تكايا وزوايا، ورحل بموكبه إلى القدس الشريف، فزار وزار مدينة الجليل. ثم في سنة 1241هـ حج البيت الحرام.
ووقع له في دمشق شبه ما وقع له في بغداد، ذلك أنه أرسل من أتباعه رجلاً يدعى عبد الوهاب السوسي لنشر الطريقة النقشبندية في الآستانة فاعتقده شيخ الإسلام وجمهور العلماء والوزراء فمالت نفسه إلى الدنيا والشهرة، ولما بلغ أمره إلى الشيخ خالد أحضره واستخلف غيره واستتابه فأظهر التوبة وأضمر المكر، ثم ما لبث الرجل أن أرسل إلى أتباعه في الآستانة مراسلات زائفة اطلع عليها الشيخ خالد الذي كتب عندئذ ثلاثة كتب إلى إخوانه هناك بحقيقته، ورحل عبد الوهاب إلى المدينة المنورة فاجتمع فيها بأشخاص لفقوا معه أقوالاً على الشيخ وزعموا أنه يدعي رؤية الجن، وألفوا رسالة بتكفيره أرسلوها إلى دمشق مع أحد الأكراد العوام.
واطلع الشيخ على الرسالة فأمر بعبد الوهاب فشهر به في البلدة وعزّر ثم أمر به فأدخل عليه ووعظه وعفا عنه وأكرمه. وعندها ألف تلميذه الشيخ محمد أمين عابدين رسالة يرد فيها على المفترين سماها “سل الحسام الهندي لنصرة مولانا الشيخ خالد النقشبندي” ولكن الشيخ خالد توفي قبل استكمالها.
مؤلفات النقشبندي
وضع الشيخ خالد مؤلفات عديدة منها:
– شرح لطيف على مقامات الحريري “لم يتم”.
– فوائد الفوائد “باللغة الفارسية وهو شرح على حديث جبريل جمع فيه عقائد الإسلام”
– رسالة العقد الجوهري في الفرق بين كسب الماتريدي والأشعري.
– شرح على أطواق الذهب للزمخشري “مع ترجمة إلى الفارسية”.
– رسالة في إثبات الرابطة.
– رسالة في آداب الذكر في الطريقة النقشبندية.
– رسالة في آداب المريد مع شيخه.
– شرح على العقائد العضدية.
– حاشية الخيالي “في علم الكلام”.
– حاشية على نهاية الرملي “إلى باب الجمعة”.
– حاشية على جمع الفوائد من كتب الحديث. وصفها الخاني بقوله: تكتب بماء الذهب قد جردتها بخطي فجاءت مجلداً.
– جلاء الأكدار والسيف البتار بالصلاة على النبي المختار “فيها أسماء أهل بدر”.
وفي الظاهرية دفتر كتبه التي أمر بوقفها بعد وفاته وتقع في 14 ورقة “رقم 259” وجمع رسائله ابن أخيه الشيخ أسعد الصاحب في كتاب سماه “بغية الواجد في مكتوبات حضرة مولانا خالد”، وأما نظمه فأكثر بالفارسية، اجتمع منه ديوان شعر.
وكتب حواشي عديدة على هامشي عديدة على هوامش كتبه، تدل على تمكنه.
ومن أشهر مواعظ قوله لأتباعه: “اعلموا أن أحبكم ألي أقلكم أتباعاً وعلاقة بأهل الدنيا وأخفكم مؤونة وأشغلكم بالفقه والحديث، وقد ورد في بعض الأحاديث: (ما ازداد رجل من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً، ولا كثرت إلا كثرت شياطينه، ولا كثر ماله إلا اشتد حسابه) وحينئذ لم يبق وجه للميل إلى تكثير السواد بهؤلاء إلا الطمع وحب الشهوة والجاه وأخذ الدنيا بالدين وجميع هذه النيات فسادها غني عن البيان. اهـ.
سيرة النقشبندي
وذكر في الحدائق الوردية عدداً كثيراً من كراماته، فهو علامة عظيم، لقبوه بمجدد القرن الثالث عشر. كان كريم النفس حميد الأخلاق، حلو المفاكهة والمحاضرة، رقيق الحاشية طلق اللسان، لم يحال أحداً ولم يتردد إلى حاكم، لا تأخذه في الله لومة لائم. وكان إلى هذا ذا حافظة وذكاء وعبادة، لا يظهر إلا لدرس أو ذكر أو صلاة يبالغ في تعظيم آل البيت ومحبتهم.
وكان قوي الحجة والمناقشة، ويحكى أنه أثناء وجوده أول مرة في بغداد أعجب به علماؤها أشد الإعجاب، ولكنهم انتقدوه على التدخين فلما بلغه ما يقولون دعاهم إلى طعام وذكرهم في مسألة: هل الأصل في الأشياء الحظر؟ أم هل الأصل في الأشياء الإباحة؟ حتى توصل إلى بحث التدخين فما زال يناظرهم حتى ألومهم القول بحله بالبرهان فلما سلموا قال لهم: “اشهدوا أنب أبطلته، وإنما فعلت ذلك لئلا يمر في اعتقادكم أني ما تركنه إلا لانتقادكم” ولم يعد إليه حياته.
وذكر البرهان إبراهيم فصيح البغدادي في “المجلد التالد” أن محدث العراق النور علي الويدي البغدادي لما دخل المترجم لبغداد اختبره بقلبه لثلاثين إسناداً لثلاثين حديثاً من الكتب الستة، فرد المرجم عليه القلب، وأملى عليه الأحاديث بأسانيدها الأصلية، فأذعن المحدث المذكور. وذكر تلميذهما الشهاب الآلوسي في كتابه “نزهة الألباب” أن السويدي المذكور قال للمترجم في ملأ عظيم: “بئس ما يفعله أكثر علماء الأكراد اليوم لاشتغالهم بالعلوم الفلسفية وهجرهم لعلوم الدين كالتفسير والحديث عكس ما يفعله علماء العرب”
فقال له المترجم: “كلا الفريقين طالب بعلمه الدنيا الدنية وطلبها بـــ قال أرسطو أو قال أفلاطون خير من طلبها بــــ قال الله وقال رسوله فإن الدني يطلب بدنيّ مثله” فسكت السويدي.
وعد بزيارة القدس في شوال
صبر على كيد أعدائه كما صبر على مصائب الدنيا، فقد توفي له في الطاعون سنة 1242هـ ولدان نجيبان في الخامسة والسادسة من عمريهما، بهاء الدين وعبد الرحمن فاحسبهما عند الله تعالى وكان هو المسلّى لمن جاء يعزيه.
وكان وعد قبل ظهور الطاعون في شوال أن يزور القدس مع إخوانه فلما ظهر الطاعون سألوه إنجاز الوعد، فقال: ما نحن فيه من مصابرة الطاعون خير ثواباً مما ترغبون. وقال ما جئنا إلى الشام إلا لنموت في هذه الأرض المقدسة. وهذه الشهادة إن تمت فهي السعادة الأبدية.
وبعد وفاة ولديه كأنما أحس بدنو أجله، فأحضر الشيخ إسماعيل الغزي شقيق حرمه، وأشهده أنه أقام خليفته من بعده على سجادة الإرشاد الشيخ إسماعيل الأنارني، وبعده الشيخ محمد الناصح، وبعده الشيخ عبد القادر العقري، ثم أقامه أخوه من بعدهم. وأوصى بأملاكه التي في كردستان إلى أخيه الشيخ محمود الصاحب.
ثم جمع خلفائه وأعاد الوصية، وأمرهم باتباع السنة والتمسك بالطريقة والاتفاق والاتحاد، وجمع أهله ليلة الأربعاء 11 ذي القعدة 1242هــ وأوصاهن واستبرأ ذمته من كل حق لهن عليه وبقين معه حتى مضت ساعات من الليل فقام وتوضأ وصلى ركعات ثم قال: “إني طعنت الآن فلا يدخل علي أحد إلا مرة” ثم اضطجع على هيئة السنة ولم يسمع منه تأوه ولا توجع.
وجاء لزيارته مساء الثلاثاء الشيخ محمد أمين عابدين فقال له إني رأيت في المنام منذ ليلتين أن سيدنا عثمان ذا النورين رضي الله عنه ميت وأنا واقف أصلي عليه فقال له أنا من أولاده يشير أن هذه الرؤيا تومئ إليه، ثم لما صلى المغرب أقبل على خلفائه وأشهدهم بثلث ماله، وأقام الشيخ إسماعيل الأناراني، للإرشاد مقامه ومدحه بكلمات كثيرة.
ولما كانت صبيحة الخميس دخل عليه الخلفاء وسلموا وأشار إليهم أن يقلوا من الكلام. وبقي كذلك حتى ليلة الجمعة 14 ذي القعدة 1242هــ حين سمع مؤذن المغرب يقول الله أكبر ففتح عينيه وقال الله حق الله حق (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) ثم لحق بربه وسنه خمسون سوى شهر ونصف.
حزن عليه الناس شديد الحزن، واضطرب خلفاؤه ومريدوه، واشتد عليهم أمره بعدما حملوه ليلتئذ إلى مدرسته وذلك بمباشرة كل من الشيخ إسماعيل والشيخ محمد الناصح والشيخ عبد الفتاح والشيخ محمد الصالح تنفيذاً لوصيته. وقرؤوا له القرآن الكريم والأذكار حتى مطلع الفجر. ثم خرجت جنازته حافلة إلى جامع يلبغا وحضر الناس للصلاة عليه أفواجاً فلم يسعهم المسجد وأمهم الشيخ محمد أمين عابدين بناء على وصيته. ثم ساروا به إلى سفح قاسيون فأعيدت الصلاة عليه ودفنوه هناك حيث كان أمر أن يحفر قبره وعيّن لهم محله ومحل قبور حرمه والخلفاء، وأمر أن يحوط عليها بجدار وصهريج ماء، وقال: أظنه سيبنى هنا تكية للفقراء. وأشهد أنه منذ سنتين وقف كل كتاب يخصه، ثم حرر الوقفية على ظهر القاموس.
وصية النقشبندي قبل الموت
وكان من جملة وصيته ألا يبكي أحد عليه ولا يعدد شمائله، وأنه محتاج إلى صدقة وقراءة الفاتحة وسورة الإخلاص، وأوصى أنه من أحب أن يذبح ويقدم لروحه أضحية فليفعل، وأن تقضى عنه جميع صلواته من بلوغه إلى يوم وفاته، وألا يبنى على ضريحه ولا يكتب إلا “هذا قبر الغريب خالد”. وعندما نزل إلى لحده من غسله من الخلفاء ثم لقنه المنلا أبو بكر البغدادي أحد أجلاء أصحابه.