منذ أن أُطلقت صحيفة «الراي» قبل أكثر من ربع قرن وما لحقها من تلفزيون ومركز دراسات ومِنصّات اجتماعية، لم أكتب إلّا في الشأن العام سواء كان الموضوع سياسيّاً أو اقتصاديّاً أو اجتماعيّاً وحتى رياضيّاً… اليوم أستسمحكم بالكتابة عن شأن خاص هو من أقرب الأمور إلى قلبي.
قبل أيام، صدرت دراسة تقييم المؤسسات الإعلامية في الكويت واحتلّت «الراي» صحيفة وتلفزيون الريادة للسنة الثامنة على التوالي.
لم يكن المركز الأول غريباً عن مؤسسة إعلامية رافقت ولادتها منذ اللحظات الأولى وما زلت أواصل مُتابعتها يوميّاً، لكنّني وجدّت حقاً عليّ، لهذا المولود الذي كَبُرَ واشتدّ عوده واتسعت دائرة تأثيره، أن أكتب عنه وعن تجربتي الشخصيّة معه.
كانت فكرة شراء صحيفة نهاية عام 1994 أشبه بمغامرة عند البعض، وخُطوة غير محسوبة النتائج عند البعض الآخر. تزاحمت الأسئلة في زمن مليء بالاستقطاب حول مغزى المشروع وأهدافه، وربط كثيرون بينه وبين أدوار وجهات سياسيّة واقتصاديّة. وعندما جمعت فريق العمل الذي سألني بدوره عن توجّه الجريدة ورسالتها أجبت: «توجّه الجريدة صناعة إعلامية بحتة هدفها الربح والاستمرار كما في أي صناعة أخرى».
ورسالتها؟ أجبت ببساطة أيضاً: «الرأي لصاحبه والخبر للقارئ».
بدأ العمل وصارت «الراي» منزلي، فالبدايات تتطلّب تركيزاً وسهراً واختبارات وتجارب. أحياناً نربط الليل بالنهار للتمكّن من الصدور في الموعد المُحدّد وأخذ موقعنا في ساحات الزمالة… والتنافس. صدر العدد الأول وكأنه المولود الأول بعد مخاضٍ عسير صاحبته تحدّيات لا علاقة لها بالمهنة وراكمت ثقلاً إضافيّاً على كاهلنا.
تجاوزنا كل ذلك التعب ونحن نمسك بصحيفة هي نِتاج جُهد مُشترك لأسابيع وأبلغت زملائي بصفتي رئيساً للتحرير آنذاك أن ما بعد ذلك اليوم ليس كما قبله، ففي كل يوم ولادة جديدة والتنافس يجب أن يتركّز على ذواتنا بمعنى أن نُقدّم باستمرار مُنتجاً أفضل مما سبقه، كما ذكرت عبارة من 3 كلمات طلبت من الزملاء حفظها جيداً.
أَصبت وأخطأت، تعلّمت وعلّمت، كانت الطريق مفروشة بالشوك أحياناً أكثر من الورد، ومع ذلك لم تزدني التحدّيات سوى إصرارٍ على التوسّع في المشروع مُعتمداً على ما لمسته من القُرّاء الذين اعتبرهم الشركاء الأساسيّين لنا… ودَيْنَهُم في رقبتي. كان دعمهم وتفاعلهم مُدهشاً بل عنصر قُوّة لي في المُضِيّ قدماً.
أسّسنا «تلفزيون الراي» ومعه الموقع الإلكتروني ومِنصّات التواصل الاجتماعي ومركز الدراسات. صارت الفكرة التي بدَأَت في رأسي وتقدّمت مع فريق عمل مُصغّر واتسع مداها مع مئات من الزملاء والتقنيّين واحدة من أضخم المؤسسات الإعلامية في الخليج والعالم العربي.
توالت التحدّيات والعثرات لكن إرادة التقدّم كانت أقوى. أو كما قال عمر المختار: «الضربة التي لا تقصم ظهرك تُقوّيك»، لم تحن أكتافنا الضربات بل زادتنا صلابة وقوة إنما بقيت أقدامنا على الأرض ولم تُغرنا النجاحات بالطيران رغم ارتفاع أرقام التصنيف أحياناً إلى درجة التحليق.
في كُلّ مقالاتي وتوجيهاتي إلى الزملاء أُكرّر وجوب استخدام العقل أكثر من العاطفة في التحليل ومقاربة الأمور. إنما إذا تحدّثت أنا شخصيّاً عن «الراي» فلا حبر أكتب به سوى حبر العاطفة ولا أتصفّح أوراق مسيرتها إلّا بنبض القلب.
هي المولود الذي احتلّ سنوات من عمري وأبعدني في غالب الأوقات عن أسرتي وأصدقائي، ولهؤلاء جميعاً أتقدّم باعتذاري الخاص رغم أنهم يعرفون أن لا جدوى من الاعتذار كون مهنة المتاعب تأسرك اجتماعيّاً وعائليّاً، فإن ابتعدت عنها قليلاً لارتباط ما فسيُعيدك تصريح ناري لمسؤول أو حادث كبير أو انفجار أو حرب أو اغتيال أو انتصار… إلى بلاط صاحبة الجلالة مهما حاولت الفصل بين وجودك المكاني وأثير الفِكرة أو المُبادرة.
كَبُر المولود واستمرّ في حصد الشهادات والألقاب، 27 سنة نقصوا من عمري إلى عمره وشكّلا عمراً واحداً في النهاية إن أردت توصيفه بتقويم الصدور الأول حتى اليوم.
عمر عنوانه الشغف والتحدي والإثارة والسبق والركض خلف الخبر والمقابلة والتحقيق. عنوانه بدايات صباحيّة صاخبة تموج بالأحداث والأفكار والمُتابعات، ونهايات مسائيّة نُحاول ما أمكن فيها تقديم خدمة لمشاهد وقارئ تختصر تطوّرات النهار وتفتح لهم آفاق ما بعد الخبر.
امتلأت الشوارع بإعلانات شركات الإحصاء التي تتحدّث عن تفوّق تلفزيون الراي في رمضان على مُختلف التلفزيونات المحلية والخارجية، وعن ريادة صحيفة «الراي» في مُختلف الشرائح عند الكويتيّين والمُقيمين، من الشباب إلى النساء إلى الاقتصاديّين والجامعيّين والموظفّين. وكالعادة، امتلأ قلبي قبل عقلي بأرقام من نور ما كان لها أن تَسطَع لولا جُهد كُلّ فرد في هذه المؤسسة – العائلة.
في آخر مناسبة اجتماعية التقى فيها جزء من فريق العمل في 9 مايو 2023 كشفت لهم بعض أسرار عشقي لـ«الراي» ولم أبُح بالأسرار كُلّها. تركت أشياء كثيرة لنفسي يختلط فيها البُعد الشخصي بالمِهني بالعاطفي.
قلت لهم إن «الراي» انتقلت من كونها أسرتي إلى كونها وطني المُصغّر. تحدّثت عن البدايات وعن الجيل القديم، وعن الحاضر وجيل التكنولوجيا والذكاء الصناعي، وكلاهما موجود في سلسلة واحدة.
نظرت إلى ابني الشاب مرزوق الذي كان واقفاً مع الفريق وقلت إن «الراي» صدرت وهو في السادسة من عمره. ثم نظرت إلى حفيدي جاسم الذي يقف بجانبه وقلت إنه لم يكن قد ولد عندما صدرت «الراي» وها هما اليوم، جيل بعد جيل، يشهدان على التطوّر الشبابي لـ«الراي» ومُواكبة المراحل، ويعيدان تذكير الحاضرين بالعبارة التي طلبت منهم عند صدور العدد الأول قبل 27 سنة حِفْظَها جَيّداً: «الرّاي وُجِدَتْ لِتَبْقَى».
كلّ نجاح، ومشاهدونا وقراؤنا بـ«رَأْيٍ» حُرّ.