ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال عن حكم وضوء عامل صناعة البويات والدهانات، يقول: كيف يصح وضوء من يعمل في صناعة البويات والغراء؟ فأنا أعمل في تصنيع البويات والغراء وغيرها من مواد الدهان في أحد المصانع، فتلتصق هذه المواد على يدي أثناء العمل، ويتعذر مع ذلك إزالتها تمامًا لكلِّ وقتِ صلاةٍ، فهل يصح وضوئي مع وجود هذه المواد؟ علمًا بأنها كثيرًا ما تكون طبقة على البشرة.
وضوء العامل صناعة البويات
وأجابت دار الإفتاء على السؤال، بأنه يصح وضوء من يعمل في صناعة البويات والغراء؛ لأن الطهارة تصح مع وجود بعض المواد الملتصقة على بشرة أعضاء الطهارة لأصحاب المهن والصناعات الذين يشق عليهم التحرز منها -كما ورد بالسؤال-؛ ولا يلزمهم تَكَلُّف إزالة ما يصعب إزالته لكلِّ صلاة.
وذكرت دار الإفتاء، أن من تقدير الشرع الشريف لقيمة العمل في حياة الأفراد والمجتمعات، جعله من الأسباب التي يُباح لأجلها الترخص أو التخفيف في شأن القيام ببعض العبادات، وذلك في حالة ما إذا تعارض قيام الإنسان بعمله الذي لا بد له منه من أجل تحصيل معاشه ورزقه، مع قيامه بالعبادة على أصل مشروعيتها، بحيث يكون في تكليفه بها على هذا الوجه ما يشق عليه مشقة بالغة، أو يضطره إلى ترك عمله وما قد يترتب عليه من فوات ما به رزقه ورزق مَن يعول من أهله، فيباح حينئذ له القيام بها على وجه يرفع عنه الحرج والمشقة، ويُمَكِّنُه مع ذلك من القيام بعمله وتحصيل رزقه.
واستشهدت دار الإفتاء، بعموم قوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، وقوله سبحانه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]، وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أخرجه الشيخان، حيث قررت هذه الأدلة بمجموعها أنَّ “المشقة تجلب التيسير”، وأن “الميسور لا يسقط بالمعسور”، وأن “الأعذار مؤثرة بالتخفيف في العبادات”، كما قال العلامة المَرْغِينَاني في “الهداية” (2/ 279، ط. دار إحياء التراث العربي).
حكم الوضوء مع وجود حائل يسير
وأوضحت دار الإفتاء، حكم حكم الوضوء مع وجود حائل يسير، منوهة أنه قد اشترط الفقهاء لصحة الطهارة عموم البشرة بالماء على سائر أعضاء الوضوء، وهو الأصل الذي يلزم المتطهر في حال عدم العذر المانع له من القيام بذلك، كما في “مراقي الفلاح” للعلَّامة الشُّرُنْبلالي الحنفي (ص: 30، ط. المكتبة العصرية)، و”الشرح الكبير” للعلَّامة الدردير المالكي (1/ 87، ط. دار الفكر).
أما في حالة قيام العذر لغير ذلك: كأن يعمل الإنسان بعمل من الأعمال التي لا يمكن له معها الاحتراز عما يلحق بشرته من المواد المستخدمة فيها ممَّا يمثّل حائلًا لوصول الماء إلى ما التصقت به من البشرة، كمواد الدِّهان والغراء وما أشبه ذلك، بحيث يتعذر عليه مع ذلك إزالة ما يلتصق بجلده منها لكلِّ وضوء، لضيق في الوقت مع ضرورة العمل أو لصعوبة في نزعها، فإنه يُعفى عن هذا القدر الذي لم تصله الماء، ويقوم إسالة الماء على هذا الحائل مقام إسالتها على ما بعده من أعضاء الطهارة، وذلك لتحقق العذر والضرورة من أنَّ حاجة الإنسان لعمله ممَّا لا بد له منه، وأنه مع ذلك لا يمكنه التحرز عن هذا، فوقوع ذلك في حقِّه هو مما تَعُمُّ به البَلوى، وقد تقرر أن “ما كَثُرت بليته خفت قضيته”، وأن “عُموم البَلوي يَرفع المشَقَّة” و”كلَّ ما لا يُمْكِن الاحتراز عنه، ولا يُسْتَطَاع الامتناع منه سَقط اعتباره”، كما في “الأشباه والنظائر” للعلامة ابن نجيم الحنفي (ص: 72، ط. دار الكتب العلمية)، و”تبيين الحقائق” للعلامة فخر الدين الزيلعي (6/ 219، ط. الأميرية).
وقد تواردت نصوص فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على أنه يُعفى لأصحاب المهن والأعمال عما قد يَلْحق أعضاء الطهارة من حوائلَ تمنع وصول الماء إلى البشرة أثناء الطهارة ممَّا يشق عليهم التحرز عنه، كالطين الذي يلحق بالفلاح الذي يعمل بالزراعة، والمداد الذي يلحق بالكاتب ضرورة عمله بالكتابة، والصبغة لمن يعمل بالصباغة ونحو ذلك مما يصعب التحرز عنه، ويشق مع ذلك نزعه لكلِّ طهارة.