تتنافس الدول الكبرى فيما بينها وتخصص مبالغ كبيرة من موازناتها للإنفاق على قطاع البحث والتطوير التكنولوجي في مختلف المجالات.
فقد أصبحت التكنولوجيا الأداة الأهم والأبرز بين أدوات التطور والتقدم للدول، بل وواحدة من أهم مقومات قوة الدول فى العصر الحديث، ومن يتملكها فقد امتلك مفاتيح عوامل القوة الأخرى.
فالحروب التجارية القادمة هى بلا شك حروب التكنولوجيا.
الولايات المتحدة الأمريكية والصين أدركتَ هذه الحقيقة إدراكاً جلياً، فالأولى هي القطب المتفرد والأقوى عالمياً خصوصاً على المستوى التكنولوجي، والصين قطب صاعد بقوة يسعى إلى اللحاق بركب التكنولوجيا والتقنيات الحديثة في جميع المجالات، لذا فهي الدولة الأكثر تنافسية مع الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تهدد مكانتها كرائدة للتطور التكنولوجي على المستوى العالمي، وهو أمر يتوقعه القطب الأمريكي نفسه الذى يسعى لإعاقة الزحف الصيني الحثيث صوب قمة النظام الدولى، بل ويواصل القتال بشراسة للحد من إنجازاتها التكنولوجية في المجالات الحديثة، والتي باتت تهدد مكانة واشنطن وتقوض سيادتها العسكرية كقوة عظمى وحيدة مهيمنة على مجمل النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.
ولهذا السبب تشتد المنافسة بين الطرفين تجاريا وسياسيا وإعلاميا، وفي إطار هذه المنافسة المحتدمة تنفق الولايات المتحدة الأمريكية اليوم مزيداً من مواردها على قطاع التكنولوجيا، ولا سيَّما في مجال التكنولوجيا العالية التقنية لمواجهة الاستراتيجية الصناعية التي أطلقتها الصين، والتي مكَّنتها من تطوير قدراتها في ذات المجال، ممَّا جعلها متقدمة في المجالات العسكرية والاقتصادية، وفي مجال الفضاء الخارجي كذلك.
الصراع الأمريكي الصيني بدأ يطفو على السطح، وبدأ ضجيجه يزعج العالم الذي يحبس أنفاسه بفعل تزايد حدة الصراع بين الطرفين.
فالمنافسة الاقتصادية الباردة بدأت تتحول إلى حرب اقتصادية طاحنة تخطو بخطوات سريعة على صفيحٍ مشتعل، ربما تكون الحرب الاقتصادية أقل فداحة وعنفا من الحروب القتالية، ولكنها أهم وأخطر وأقوى، وهذا هو واقع الحال في عصر التكنولوجيا وثورة المعلومات؛ إذا تحولت حروب الماضي الاستعمارية والتي كانت تتصارع فيها الدول الكبرى والإمبراطوريات حول احتلال الأراضي وبناء المستعمرات إلى حروب حول الموارد الطبيعية كالمياه والطاقة والصراع على بناء السدود حول الأنهار والبحث عن حقول الغاز المدفونة في مياه البحار بعد أن نضبت تلك المدفونة في الصحراء، فيما استبدلت الطلقات والقذائف بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، وأصبح المقاتل يحمل الفيروس بدلاً من حمل السلاح، واستثمرت الدول الكبرى في صناعة الأمراض بدلاً من صناعة الأسلحة واستخدمت التكنولوجيا في نشر الأوبئة وتطوير الأمراض.
إن الاقتصاد الصيني أصبح الغول الحقيقي الذي تخشاه أمريكا، والشركات الصينية غدت بالفعل أقوى وأخطر على الاقتصاد الأمريكي من أى شيء آخر، إذ تسعى بكين إلى خلق امبراطورية إقتصادية موازية يمكنها أن تنهي عقود وعقود من الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي.
ويبدو أن الولايات المتحدة بدأت تخسر سباقها مع الصين في مجال التكنولوجيا والتطور التقني، وأن شركات التكنولوجيا الصينية ربما ستسحب البساط من تحت أقدام عمالقة التكنولوجيا الأمريكية في السنوات القادمة.
فقد تصاعدت في الآونة الأخيرة مخاوف الخبراء السلطات الأمريكية من التقدم المتسارع الذي تحرزه بكين في مجال الذكاء الاصطناعي والتكنولوجي ككل، ولا سيما في القطاع العسكري، ما قد يجعلها تكسب السباق خلال فترة ليست ببعيدة بحسب تقديرات بعض المراقبين، ولعلّ ذلك هو ما يفسر إستشراس واشنطن في محاولة تطويق الصين وإحتوائها من خلال العقوبات الدولية أو فرض القيود على صادرات التكنولوجيا إليها وصولاً حتى إلى التوصيات بإنتزاع الكوادر والمواهب من الداخل الصيني وتسخيرها لمصلحة الولايات المتحدة وشركاتها.
وتمارس الولايات المتحده ضغوطا كبيرة على الصين باستخدام مجموعة من القوانين والإجراءات العقابية، شملت منع وصول التكنولوجيا الحساسه وأشباه الموصلات المتطورة والرقائق الإلكترونية المتقدمة المغذية لقوة معالجة الذكاء الاصطناعي بهدف عرقله قدراتها على بناء القوة الحاسوبية المطلوبة لتطوير قدراتها في مجال الذكاء الاصطناعي.
فى المقابل تسعى الصين للالتفاف والتغلب على العقوبات الأمريكية حيث تقوم ببناء مجموعة من مرافق تصنيع الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات السرية في جميع أنحاء البلاد كشبه ظل تتيح لها تجنب العقوبات المفروضة عليها ومواصلة تحقيق الطموحات التكنولوجية لها.
وهوما يفسر طبيعة وأسباب تفاقم التوترات الجيوسياسية بين البلدين فى المحيط الهادي حول جزيرة تايوان التى تمثل 80% من حجم صناعة الرقائق الإلكترونية فى العالم.
هذا وقد اتجهت شركة الاتصالات الصينية العملاقة “هواوي” إلى بناء وشراء منشآت تحت أسماء شركات أخرى، من أجل التحايل على هذه القيود لشراء معدات صناعة الرقائق الأمريكية وغيرها من الإمدادات بشكل غير مباشر.
ولذا أصدرت الولايات المتحدة حزمة قيود جديدة على صادرات التكنولوجيا إلى الصين شملت أنواعاً محددة من الرقائق المتقدمة، ومعدات تصنيعها، والمركبات الكيميائية الخاصة بتصميمها وتصنيعها.
كما سعت واشنطن إلى معاقبة الشركات الصينية مثل “هواوى” و”زد تى إي”، لمواجهة خطر فقدان القيادة في تكنولوجيا الجيل الخامس (5G) لصالح الصين، كما تبنى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عام 2018 سياسات أكثر صرامة بفرض رسوم جمركية بقيمة 360 مليار دولار بغرض إعاقة النمو الاقتصادى الصيني فى قطاع التكنولوجيا، خاصه أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية.
واستمرت سياسات إدارة الرئيس الحالى جو بايدن على نفس النهج، حيث وقَّع بايدن أمرا تنفيذيا يخول لوزارة الخزانة حظر أو تقييد بعض الاستثمارات الأمريكية فى الكيانات الصينية فى قطاعات: أشباه الموصلات، الإلكترونيات الدقيقة، تقنيات المعلومات الكمية، وأنظمة الذكاء الاصطناعي بهدف خنق الجهود الصينية الناشئة فى مجال الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية.
لتبدأ بذلك حرب تجارية تكنولوجية شرسة بين البلدين تهدد بانهيار النظام الاقتصادى العالمى، ما سوف يكون له آثار دراماتيكية على الاقتصاد العالمى، خاصة على الجزء الضعيف منه، وهى بالتأكيد دول العالم الثالث.
وتشهد القارة الأفريقية جزءا من هذه المواجهة الصينية الأمريكية فى محاولة لاحتواء النفوذ الصينى المتزايد هناك، خاصة فى البلدان الغنية بأنواع المعادن اللازمة لإنتاج التقنيات المستقبلية ومصادر الطاقة المستدامة.
فهل سيؤثر التنافس التكنولوجي ما بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية على النظام الدولي؟ وهل تلعب التكنولوجيا بالفعل مثل هذا الدور في تغيير موازين القوى ما بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية؟