كثيرون منا يعملون لإشباع احتياجاتهم المادية وإذا ما أثروا يباهون بما يمتلكون ، و آخرون أقل عددا يتعدون ذلك إلى تكوين صورة تعجب بالذات لما تملكه من مميزات نفسية ومادية أو ملكات عقلية واجتماعية، فتكون سعادة النفس هي المحور والهدف ،و آخرون أكثر ندرة لا تشبعهم السعادة الفردية لان شعورهم الأعمق بمن حولهم وبمجتمعهم يجعل الصالح العام وهدف الارتقاء بالإنسانية مطلبا لا يكتمل دونه الرضا عن النفس ، فتجدهم يمنحون أنفسهم للعمل العام دون مراعاة لاعتبارات المكسب والخسارة المادية الضيقة ، أنهم في الحقيقة يجنون سعادة معنوية جوهرية حينما تتحقق أهدافهم المجتمعية والإنسانية، فتهدئ ما لديهم من أسى لمعاناة الغير وتتشبع طموحاتهم التى بررت عطاء دون حدود لم يعادله مكسب مادي مباشر.
ولكن حتى هؤلاء وبعد أن تتكون لديهم هذه النزعة الإنسانية الفعالة – بفعل نشأتهم أو بتجارب الزمن وإصرارهم على النضج – كثيرا ما يحبطهم تخلف مجتمعاتهم ، أو فساد المناخ العام ، أو ألاعيب السياسة إذا ما خاضوا معتركها ، أو تغيرهم المغانم المادية والنفسية ، فتصبح ممارستهم السياسية ولو جزئيا وسيلة للثراء أو الجاه والسلطة فتنطفئ جذوه التغيير ، وينذوون إلى الخلاص الفردي ، ويصبح النقاء والإخلاص ذكرى لمثالية مرحلة شباب لا تقبلها حسابات الواقع ، حتى وان كان استمرار تجسدها ضروريا لاسترجاع سعادة مفقودة .
والمأساة هنا هي مساحة الوعي آلتي تكونت لتلك الطبقة من الأشخاص ، والتي جعلتهم يتعدون الذات واغراءات التملك السطحية ، ويدركون بعمق ما حولهم وسبل التغيير ، ويولدون داخلهم إرادة نضالية ، فهذه المساحة نفسها هي التي تمتلئ بالإحباط والمرارة واليأس والإحساس بالعجز ، وتصبح دافعا للشقاء أو المرض والانزواء ، فما بالك بشخص استطاع أن يفلت من ذلك المصير ويحقق ذاته ومصالح مجتمعه دون أن يفقد حماسه أو استقامته ؟
ولد د. وجدي على أرض الصعيد صانعة الحضارة ، أبواه الأثرياء شغلا أفكار طفولته بمعاناة الفقراء ، عطفا وفعلا دون تعالى ، وفى عالم يموج بالمظالم والتفاوت تحولت العدالة الاجتماعية لديه إلى أولوية لا تتحقق دونها ذاته أو سعادته الفردية وفى الأربعينيات من القرن الماضي حينما شاعت موجة شيوعية الصالونات لدى بعض من الأثرياء ممن جذبتهم المثالية الظاهرية النظرية لتلك الأيديولوجي – وتوافقت مع ما لهم من نزعة إنسانية وتوجه عالمي حتى لو ضحوا بممتلكاتهم – دفع حماس الشباب د.مجدي إلى الاندراج في صفوف إحدى التنظيمات اليسارية ، معتبرا أن العمل الجماعي المنظم أكثر فاعلية لإنجاز الأهداف الكبرى . ولكنه سرعان ما انكشف له مدى ارتباط ذلك التنظيم بمصالح خارجية حينما تخاذل عن تأييد الأهداف الوطنية والعربية تجاه القضية الفلسطينية بسبب ارتباط تجربة المستعمرات الزراعية الإسرائيلية ” الكيبوتزات” بالتطبيق العملي للشيوعية ضمن مسوغات أخرى، فانسحب من التنظيم ، خاصة وأنه كان مقتنعا أن تحقيق أهدافه الحياتية لا يتطلب بالضرورة التعرض لتجارب الاعتقال والتشريد خدمة لتنظيم لا يضمن الاتفاق مع أهدافه الحقيقية وحساباته السياسية المتغيرة.
في الخمسينيات وجد في إنشاء هيئة التحرير وأهداف الثورة فرصة للخدمة العامة ، فانضم للهيئة عاملا على زيادة الوعي والالتحام الجماهيري بها ، ولكن مردود جهده التطوعي لم يرق لطموحاته لعزوف بعض العاملين معه عن الاهتمام بالشأن العام.
تأثر د.وجدي بأفكار غاندي عن العمل السلمي ، وهو الذي قال “كن أنت التغيير الذي تريده للعالم” فدرس الطب النفسي كأداة لتغيير الذات والآخرين بإراداتهم لتحقيق مجتمع التوافق والسلام والعدالة الاجتماعية .
ودفعته الرغبة في التطوير والإتقان إلى الدراسة في الولايات المتحدة في فترة واكبت طفرة علمية في مجال الطب النفسي ، وتفتحت لديه آفاق جديدة ، خاصة بعد أن دربوه على التعليم الذاتي المستمر ،ورغم ارتباط د.وجدي السابق بتنظيم يساري إلا أن ذلك لم يؤثر على نظرته الموضوعية وتفهمه وتعايشه مع المجتمع الأمريكي في الستينات ، حيث رآه مجتمعا مفعما بالحيوية والإمكانيات أشبه بمراهق سيتجه تدريجيا نحو مزيد من النضج والانسانية.
وشهدت فترة دراسته مراجعات بحثية لجدوى نظريات التحليل النفسي الذي اعتبر بمقتضاها مقاربة دراسية أكثر من كونه علاجا،وظهرت مدرسة علاجية – اقتنع بها لاتفاقها مع اسلوب عمل الجهاز العصبي علميا ، واختارت الولايات المتحدة على أساسها رواد الفضاء – تقوم على التدريب على توجيه الاهتمام باستمرار خارج الذات كأفضل وسيلة للقضاء تدريجيا على المشاعر السلبية الداخلية بإهمالها ، وبالتالي توجيه الطاقة النفسية والذهنية والروحية المستهلكة فيها إلى العالم الخارجي بما فيه من حقائق موضوعية ومعلومات وأهداف ،تستدعى طاقة مرنة وفيرة واستغراقا مخلصا بمشاعر إيجابية حقيقية ، تثمر عملا خلاقا لصالح الفرد والمجتمع والبشرية.
يعلم د.وجدي أن النظرية التي يتبناها ليست أفضل الطرق لجمع المادة، لأنها تحتاج وقتا ومجهودا وارادة لدى المعالج والمتردد على العيادة ، فضلا عن رغبة الأخير في تحقيق النضج النفسي والاستقرار، ولهذا يتجاوب مع رغبة المريض الذي يواجه أزمة نفسية في تجاوزها بسبل العلاج المختلفة دون ضرورة اتباع النظرية في كل الحالات دون تمييز ، ولكن المهنة التي ينتهجها كانت اختيارا واعيا وفرصة متميزة لتحقيق الذات وتغيير المجتمع بصناعة الأسوياء بإراداتهم دوما.
أكثر من أربعين عاما مضت على بدء ممارسته للعمل الهواية الخدمة ،ولك أن تتصور كم المرضى الذين خفف آلامهم، وكم الدارسين الذين اكتمل نضجهم بمساعدته ، وكم من تأثر بهؤلاء الدارسين وسار على نهجهم، وكم من تأثروا بالدكتور وجدي من المحيطين به، وماذا فعل كل هؤلاء لانفسهم ولوطنهم وللآخرين.
من السهل أن نلعن الكثير مما نرى ، وذلك قد يبرر ما نؤتيه من مساوئ ويعفينا من مسئولية العمل المفيد والقدوة الحسنة ، ولكن تلك القدوة موجودة حولنا إذا أردنا أن نراها وأن نتحمل تبعات ذلك تجاه النفس والمجتمع ، إنما كثيرا ما تكون القدوة ناعمة وصامتة فهي لا تحتاج للضوضاء وفرض نفسها، لأنها تحترم الاختيار الشخصي وتتفرغ للعمل ، ولان القوة الناعمة لاتسعى لتضخيم الذات ، بل ربما مع كل الاستقامة والإنجاز والتواضع لا تشعر أو تأبه بالذات أساسا ، فهي ملتحمة مع أرض الواقع ومنغمسة في العالم الخارجي بما فيه من أهداف ومشاعر وتجارب ومعلومات ، فهل حقا نريد السعادة للنفس وللآخرين ؟.